لعل ما جاء في مسودة المشروع الذي عكف النواب الجمهوريون في الكونغرس على صياغته، يكشف القلق الأميركي الحقيقي الكامن وراء المساعي التي يبذلها البيت الأبيض عبر مجلس الأمن لتعطيل الفقرة التي يتضمنها القرار رقم 2231 حول الاتفاق النووي والتي يُسمح بموجبها لإيران بالعودة إلى سوق تجارة السلاح شراءً وبيعاً.
وتضمنت الفقرة المتعلقة بهذا الجانب من مسودة المشروع أنه “اذا ما انقضت مدة العقوبات على إيران ولم تتم إعادة إحياء العقوبات الدولية، فإن على الكونغرس أن ينشط من أجل منع حصول تعاملات تسليحية بين إيران وكل من روسيا والصين، أو مساعدة طهران على تطوير برنامجها الصاروخي الباليستي”.
ويصب هذا الأمر في إطار دعم المشرّعين الجمهوريين لجهود إدارة الرئيس دونالد ترمب الرامية إلى تمديد حظر الأسلحة المفروض على إيران المفترض انتهاء مدته في 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2020. وتُعدّ هذه الخطوة واحدة من ضمن ما عكف هؤلاء المشرعون على تدوينه في نحو 111 صفحة تتضمن حزمة عقوبات غير مسبوقة، لا تقتصر على إيران والنظام فيها وحسب، بل تطال مروحة واسعة من حلفائها وأذرعها وحلفاء أذرعها في المنطقة.
وعلى الرغم من المساعي الحثيثة والمتواصلة التي تبذلها الإدارة الأميركية، خصوصاً المبعوث الخاص للرئيس ترمب للملف الإيراني براين هوك، من أجل تمهيد الطريق ونزع العراقيل من أمام مشروع تمديد حظر الأسلحة على إيران بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 2231، إلا أن السبيل إلى تحقيق هذا الهدف يبدو معقداً وصعباً حتى الآن، خصوصاً وأن عامل الوقت لا يخدم الإدارة الأميركية في المدة المتبقية قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية في أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وذلك إذا ما كانت تريد أن تصل إلى هذا الهدف من خلال تفعيل آلية فضّ النزاعات التي تضمنها الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة دول 5+1 الموقَّع في 14 يوليو (تموز) 2015، والقرار 2231 الصادر في 20 يوليو 2015.
وأخذ الاتفاق النووي والقرار 2231، اللذان يُعتبران من الناحية القانونية كلاً لا يتجزأ، في الاعتبار الآليات التي تسمح بتفعيل آلية فضّ النزاعات ووضع مهل زمنية محددة لها. ويجب أن تمر هذه الآليات من خلال الحوار بين الأطراف في حال وجود شكوى تتهم إيران بعدم الالتزام بأي من بنود الاتفاق. وفي حال لم يتم التفاهم على حل هذه الشكوى، فإن الأمور تذهب إلى مستوى أعلى يقوم على عقد اجتماعات على مستوى الخبراء من الأطراف الموقِعة على الاتفاق النووي، بمهلة 30 يوماً لحل الخلاف، وفي حال عدم التوصل إلى تفاهم حول النقاط محل الإشكال، فإن الأمر ينتقل إلى اجتماعات ومفاوضات على مستوى اللجنة المشتركة التي تضم 8 ممثلين (ستة عن مجموعة 5+1 وممثل عن الاتحاد الاوروبي وممثل عن إيران)، ويكون أمام هذه اللجنة مدة 15 يوماً لحل النزاع.
وفي حال أصر أحد الممثلين الثمانية بعدم اقتناعه بامكانية حل النزاع، يُرفع الموضوع إلى وزراء خارجية هذه الدول، ولديهم مهلة 15 يوماً جديدة لحل النزاع، مع امكانية تمديد هذه المهلة أو إحالة الموضوع على هيئة مستشارين من ثلاثة اعضاء على أن يكون أحدهم من الدول غير المشاركة في التوقيع على الاتفاق. وإذا لم تتوصل هيئة المستشارين إلى حل خلال مدة 15 يوماً فيُعاد الموضوع إلى اللجنة المشتركة التي سيكون أمامها 5 أيام لتقديم الحل، وعند تعذر ذلك بعد الإحالة الثانية على اللجنة المشتركة، يتنقل النزاع إلى مجلس الأمن الدولي الذي يتولى أحد أعضائه وخلال مدة 10 أيام لحل المشكلة، وفي حال عجز عن إيجاد الحل ينتقل الملف إلى رئيس مجلس الأمن. وفي حال عدم توصل الأعضاء الخمسة ممثلي الدول دائمة العضوية إلى حل لهذا النزاع يُصار إلى اتخاذ قرار بتفعيل آلية فض النزاع والتي تقوم على إعادة فرض كل العقوبات الدولية ضد إيران.
في المقابل، فإن الاستنفار الروسي – الصيني لمواجهة المساعي الأميركية، عبر إدخال تعديلات على قرار مجلس الأمن رقم 2231، لاسيما المادة المتعقلة بإنهاء حظر الأسلحة المفروض على إيران في 18 أكتوبر المقبل، يصدر عن أسباب وأبعاد عدة أبرزها، أن تفعيل عمل آلية فض النزاع حول الاتفاق النووي يعني أن الدول الدائمة العضوية ستكون غير قادرة على استخدام “الفيتو” ضد أي قرار يتخذه مجلس الأمن، لأن الاتفاق سحب هذا الحق منها في حال أُعيد الملف الإيراني إلى المجلس. بالتالي أعلنت روسيا والصين رفضهما لمسودة المشروع الذي وزعته الولايات المتحدة على رئاسة وأعضاء مجلس الأمن الدائمين من خلال التركيز على أن الاتفاق النووي والقرار 2231 متلازمان ولا يمكن الفصل بينهما، وأن واشنطن بعد الإعلان عن انسحابها من الاتفاق النووي تخلت عن حقها في تفعيل آلية فض النزاعات، بالتالي فإن أي تعديل على الاتفاق أو أحد بنوده سيعطي الحق لإيران بالانسحاب منه وبالتالي سيصعب لجم جهودها في تطوير برنامجها النووي بعيداً من الرقابة الدولية التي ضمِن الاتفاق آلياتها، ما يعني في النهاية عدم تحقق الاهداف التي تريدها واشنطن من هذا التصعيد في المديَين المنظور والبعيد.
وتراهن موسكو وبكين، اللتان لعلهما كانتا تنتظران انتهاء مدة الحظر تلك، لإطلاق مسار بيع الأسلحة لإيران التي لا شك أنها تراهن على حلول هذا الموعد للانطلاق نحو إعادة بناء قدراتها العسكرية من خلال السعي إلى الحصول على أسلحة متطورة من الترسانتين الروسية والصينية، تساعد على تعزيز قدراتها العسكرية وتعزز موقعها وتدعم طموحاتها ودورها ونفوذها في الإقليم، مع أخذ هذه الدول في الاعتبار محاذيرها الخاصة التي لا تسمح لها بتحويل إيران إلى قوة عسكرية تنافس قوتهما أو تضعها في مصافهما عسكرياً، الأمر الذي يشكل تحدياً لدورهما وموقعهما ويجعل من إيران قوةً طامحة للعب دور أكبر من حجمها على المستوى العالمي بما يؤثر سلباً عليهما في لعبة التوازنات الدولية.
وتعتقد روسيا والصين أيضاً أن الإجراءات الأميركية إذا أدت إلى انسحاب إيران من الاتفاق النووي، فإن ذلك سيتسبب بإرباك كبير لهما على مستوى منطقة غرب آسيا، ولن تكون الآثار السلبية محصورةً في الصراع الأميركي – الإيراني، بل يهدد انفلات طهران من الرقابة الدولية في المجال النووي، الاستراتيجيات الإقليمية لهذين الطرفين (الروسي والصيني) ويفرض عليهما إعادة النظر في أسلوب التعامل مع إيران، التي ستخرج عن رعايتهما وتتحول إلى مصدر قلق نظراً إلى إمكانية تحولها إلى دولة نووية، وهو ما لا تريده هذه الدول فضلاً عن الدول الغربية الأخرى التي تحركت للتوصل إلى الاتفاق النووي مدفوعةً بهذا الهاجس وما يمكن أن يتركه من أثر على التوازنات الإقليمية والدولية.
ويبدو أن الجانب الإيراني يذهب في مواجهة المساعي الأميركية، إلى مزيد من التمسك بالاتفاق النووي مع الاستمرار في اللعب على حافة الهاوية باعتماد سياسة تقليص الالتزامات من دون الوصول إلى حدود الانسحاب أو دفع المجتمع الدولي والدول الموقعة على الاتفاق، إلى إدانتها بارتكاب خرق ما. وتدرك إيران أنها غير قادرة على تقديم شكوى إلى مجلس الأمن بشأن الإجراءات الأميركية لأنها ستكون الخاسر في حال أقدم هذا المجلس على التدقيق في تطبيق الاتفاق، لذلك فهي تراهن على دور موسكو وبكين في التصدي للمسار الأميركي، إضافة إلى ما يمكن أن تقوم به الدول الأوروبية التي ما زالت تعلن تمسكها بالاتفاق النووي، وهو ما تكشفه مواقف المسؤولين الايرانيين، خصوصاً الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، في التأكيد على الالتزام مع دول 4+1 بالاتفاق، وأن واشنطن هي التي انسحبت منه، بالتالي لا يحق لها اللجوء إلى استخدام آلياته لفرض مزيد من العقوبات على إيران.
وترى طهران أن على واشنطن اذا ما أرادت تمديد حظر الأسلحة ضدها، إما العودة إلى الاتفاق النووي وهذا يعني تقديم طلب لتفعيل آلية فض النزاعات، وهو أمر لا تملك فيه واشنطن تحديد السقف الزمني للوصول إلى تنفيذ الإجراءات، بخاصة أن أميركا لم تعلن نيتها العودة إلى الاتفاق، أو أن تدفع أحد شركائها الأوروبيين لتفعيل هذه الآلية وهو ما لم تنجح به حتى الآن. وفي حال استطاعت ذلك، فسيكون بمثابة إعلان وفاة الاتفاق النووي، ولن يمنع طهران من تعليق تعاونها مع المجتمع الدولي فضلاً عن أن الدول الأوروبية تقف بين الحفاظ على الاتفاق وعدم الثقة بواشنطن من جهة، والضغط على مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو على رئيسه من خلال استخدام ذريعة عدم التزام طهران بالاتفاق ودفعها إلى اتخاذ إجراءات تسمح بتفعيل آلية فض النزاعات مباشرةً من جهة أخرى.
ما بين مراهنة واشنطن على تشكيل رأي عام دولي وتحديداً أوروبي يدعم جهودها في مجلس الأمن، وبين مراهنة طهران على عامل الوقت وموقف “الصديقين” الروسي والصيني في التصدي للمساعي الأميركية، قد تشهد الأشهر المتبقية على موعد رفع الحظر في 18 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، مزيداً من الضغوط الأميركية على كل من طهران والدول الداعمة لها يقابله استعراض روسي – صيني للعضلات القانونية والسياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية على مساحة الملفات العالقة لقطع الطريق على واشنطن داخل مجلس الأمن بما يحقق لهما أهدافاً سياسية واقتصادية واستراتيجية في اطار المواجهة التي يبدو أنها مفتوحة بينهم في كل المجالات.
حسن فحص
اندبندت عربي