دفعت جائحة كورونا الاقتصاد العالمي إلى إغلاق عام، بهدف احتواء الفيروس، وخفض أعداد الإصابات، بعد أن تسببت في انكماش اقتصادي هو الأسوأ منذ الكساد العظيم.
وبهدف التخفيف من تأثير الجائحة قررت بعض الدول إنهاء الإغلاق لتعويض الخسائر التي تكبّدتها وتحقيق التعافي السريع، فهل تصبح تلك الخطوة “مغامرة”، لاسيما أنه في ظل غياب أي لقاح أو علاج تصبح قوة التعافي محاطة بقدر كبير من عدم اليقين؟
ويوجد حاليّاً ما يزيد على 75 في المئة من البلدان حول العالم أعادت فتح اقتصاداتها، في الوقت نفسه الجائحة تشتد على كثيرٍ من اقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية، حسب صندوق النقد الدولي.
وفي هذا الشأن، قال محللون ومختصون، في إفادات متفرِّقة إلى “اندبندنت عربية”، إن تحقيق التعافي الاقتصادي “مرهونٌ بتعافي الإنفاق الاستهلاكي” بشكل كبير، ليقود النشاطات المحلية، بينما سيكون تعافي الاقتصادات التي تعتمد على التصدير محدوداً.
ووضع المحللون عدة سيناريوهات، تتضمّن جميع الفرضيات، لا سيما تعافٍ بطيء مع استئناف النشاطات والإبقاء على بعض الإجراءات الاحترازية، مخافة تزايد أعداد الإصابات، بينما تهدد موجة تفشي ثانية العملية الاقتصادية بأكملها، ما يفاقم الأزمة، بينما يوجد سيناريو آخر أكثر تفاؤلاً بإيجاد عقار لعلاج الفيروس، ما سيكون نقطة تحوّل في استعادة الثقة بمستقبل الاقتصاد العالمي والتعافي سريعاً جدّاً.
بوادر التعافي تظهر
وبهذا الصدد، يرى صندوق النقد الدولي أن بوادر التعافي ظهرت في كثير من البلدان، وفي غياب حل طبي تظل الأمور محاطة بقدر كبير من عدم اليقين، ويظل تأثير الأزمة في القطاعات والبلدان المختلفة غير متساوٍ.
ويشير الصندوق إلى أنه رغم استئناف النشاطات حول العالم فإن عمق الانكماش الاقتصادي العالمي بلغ 4.9- في المئة خلال يونيو (حزيران) الماضي، مقارنة مع توقعات بمعدل ثلاثة في المئة بأبريل (نيسان) السابق له، بينما يعقبه تعافٍ جزئي مع نمو يبلغ 5.4 في المئة خلال 2021.
تعافٍ محدود
ويقول الاقتصادي وضّاح الطه، “ليس بالضرورة أن الدول التي تفتح اقتصاداتها أن تكون الأسرع تعافياً. توجد نشاطات محلية قد تتعافى، لكن تتأثر الاقتصادات التي تعتمد على الصادرات، وسيكون تعافيها محدوداً إلى حدّ ما”.
ويرى الطه، عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد تشارترد للأوراق المالية بدبي، أن الاستثمار في القطاعات المستهدفة للتصدير “ستظل تعاني فترة”، لحين عودة النشاطات الاقتصادية بالكامل حول العالم، في حين تحفّز النشاطات الداخلية الإنفاق الاستهلاكي، ليقود تعافي الاقتصادات تدريجيّاً.
وأوضح، “الإحصاءات أشارت إلى ارتفاع مستوى الادخار للأفراد خلال فترة الحظر، نتيجة الإغلاق، إلا أن المؤشرات الأخيرة رصدت تحسّن مبيعات التجزئة والعقارات، ما يعدُّ من بوادر التعافي القريب”، متوقعاً أن يكون التوجه العام بعد الفتح إلى “الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري”، الذي سيكون داعماً بشكل كبير في تقدّم العملية الاقتصادية.
وقال “الجميع يترقب بحذر وجود موجة محتملة ثانية من الوباء، ما يغذّي حالة عدم اليقين، وقد يؤثر ذلك في سرعة التعافي، وحسب الإحصاءات مرّ الأسوأ على مستوى العالم، إلا أنه من المهم التأكد من السيطرة على الوباء، وعدم تجدده انتشاره مرة أخرى”.
وأضاف، “عوامل أخرى يجب مراعاتها لتحقيق التعافي المنشود، أهمها هدوء التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين (أكبر اقتصادَين حول العالم)، وأيضاً ملف بريكست بالنسبة إلى أوروبا، الذي لا يزال معقداً حتى الآن”.
وتوقع الطه أن تظهر “علامات التعافي” على “الاقتصادات المتقدمة”، مع استمرار خطط استئناف النشاطات بحلول سبتمبر (أيلول) أو أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
سلاح ذو حدين
من جانبه قال المحلل الاقتصادي السعودي علي الحازمي، “فتح الاقتصاد بالوقت الحالي سلاح ذو حدين، فإمّا ينجح في العودة، وإمّا تحدث موجة ثانية من تفشي كورونا المستجد، حسب توقعات منظمة الصحة العالمية”، مضيفاً “موجة ثانية تعني أننا سندخل في وضع اقتصادي كارثي”.
وتابع، “توجد ثلاثة سيناريوهات محتملة للاقتصاد العالمي. الأول يكمن في أن يظل الوضع كما هو عليه، فتح الاقتصاد مع مراعاة الإجراءات الاحترازية، وهذا يعني عودة الاقتصاد بشكل بطيء، بينما السيناريو الثاني إيجاد لقاح للفيروس ما يساعد على عودة الثقة إلى المستثمرين والنمو بشكل كبير، وأرقام ومستهدفات بأكثر من التوقعات الحالية”.
أمّا السيناريو الثالث، فقال الحازمي إنه “يفترض موجة ثانية للجائحة ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وتأثر الاقتصاد العالمي، وقد نصل إلى المستويات التي سجّلها الاقتصاد العالمي عام 1929 في أثناء الكساد الكبير”.
وأفاد المحلل السعودي بأن الاقتصاد العالمي سيسجّل انكماشاّ 4.9 في المئة خلال 2020 حسب التقديرات الأخيرة، إلا أن بعض الدول، خصوصاً في أوروبا، قد يصل الانكماش لديها إلى مستويات عشرة في المئة، وإذا رجعنا تاريخيّاً إلى فترة الكساد الكبير نجد انكماش الاقتصاد في حدود 15 في المئة.
واستكمل، “في ظل هذه التقديرات، الاقتصاد العالمي ما زال في المنطقة الآمنة، لكن استمرار هذا الفيروس فترة طويلة أو عودة موجة أخرى قد تؤثر بشكل كبير، خصوصاً بالقارة الأوروبية، لأنها مرهقة بديون سيادية، وتباطؤ القطاع الصناعي بشكل كبير. لذلك لا نستطيع أن نؤكد أن الاقتصادات التي فتحت بأنها ستنتصر أو تحقق نمواً، لأنه رغم استئناف النشاطات ما زالت المنظمات العالمية تتوقع انكماشاً، وبنسب ليست جيدة ما يغذي حالة عدم اليقين التي تخيم على الاقتصاد العالمي”. وأكد أن المشهد الحالي للوضع الاقتصادي العالمي “يتّسم بالضبابية بشكل عام”.
محاولات مستمرة
من جهته، قال محمد حشاد، مدير مركز البحوث والتطوير في “نور كابيتال” ومقرها الإمارات، “في ظل محاولات مستمرة من الاقتصادات الكبرى وحكوماتها لبدء المرحلة الثانية من إعادة فتح الاقتصاد بعد التداعيات السلبية العنيفة التي ضربت الاقتصاد على مدار الأشهر الماضية، فقد اعتبرت الأسواق أن أبريل الماضي هو الأسوأ على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية”.
وأضاف، “الاقتصاد الأميركي هو الأكثر ضرراً من أزمة كورونا، ورغم ذلك قرر بدء تنفيذ المرحلة الثانية من إعادة الافتتاح من خلال تخفيف قيود الإغلاق وعودة المتاجر والمنشآت الصناعية إلى العمل، الأمر الذي كان له الأثر الإيجابي في الأرقام والبيانات الاقتصادية الأميركية”.
وذكر حشاد أن بوادر التعافي انعكست على تحسّن قوي في مبيعات التجزئة الأميركية، التي ارتفعت بمعدل شهري قياسي مسجّلة 17.7 في المئة، علاوة على ارتفاع الإنتاج الصناعي 1.4 في المئة، بعد أن سجّل انكماشاً وصل إلى 12.5 في المئة خلال الأزمة.
وواصل، “بيانات الوظائف أظهرت أن الاقتصاد الأميركي يسير بخُطى صحيحة بعد أن نجح في إضافة 4.8 مليون وظيفة في يونيو (حزيران)، مع استمرار تراجع معدلات البطالة للشهر الثالث على التوالي، مسجلاً 11.1 في المئة بدلاً من 13.3 في المئة، الأمر الذي كان له الأثر الإيجابي على تحسّن معدل مشاركة القوى العاملة إلى 61.5 في المئة، بدلاً من 60.8 في المئة”.
وتابع، “الاقتصاد الأميركي دخل مرحلة جديدة في وقت مبكر، وعاد يزأر من جديد ليقدّم بعض الإشارات والأدلة على قرب انتهاء مرحلة الركود الناجمة عن الفيروس، لتشهد مؤشرات الأسهم الأميركية تحقيق مكاسب قوية، ونجد مؤشر داو جونز الأميركي عاد من جديد ليحوم حول مستوى 26000 نقطة”.
واستكمل مدير البحوث، “بالانتقال إلى باقي الاقتصادات الكبرى لا تزال الحكومات والبنوك المركزية تواصل خطط الإنقاذ والإصلاح المالي عن طريق التحفيز المالي، فنجد اليابان قدّمت خططاً تحفيزية ضخمة تعادل أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلى الإجمالي، الأمر الذي يجعل احتمالية تحقيق فائض في الميزانية بعيداً”.
وقال، “ارتفاع مستوى الديون التي تسبب بها فيروس كورونا لا يزال يمثل تهديداً على الاقتصادات العالمية، لأن ارتفاع مستوى الدين العام يُجبر الحكومات المركزية على الضغط على البنوك المركزية، لكي تتحمّل ارتفاع مستوى التضخم عن طريق استمرار خفض معدلات الفائدة إلى مستويات قياسية”، مؤكداً أنه “لا يزال من المبكِّر التوقع بشكل تعافي الاقتصاد من مرحلة الركود الحالية”.
إجراءات حكومية
من جهته، قال محلل الاقتصاد العالمي علي حمودي، “رغم تخفيف القيود لن تعوِّض الدول بعض الخسائر الاقتصادية على الفور، لكن الإجراءات الحكومية مثل الضمانات، ودعم السيولة، وخطط العمل القصيرة الأجل قد تعزز انتعاشاً سريعاً وقويّاً، على الرغم من بعض الاختلافات بين البلدان، اعتماداً على وقت انتهاء إجراءات الإغلاق. وهذا يعطي سيناريو لتعافٍ سريع”.
وأضاف حمودي، “الجائحة أصابت العالم بالشلل، لكن بعد أشهر من عدم اليقين يبدو أن الوضع أخذ يتحوّل ببطء نحو الأفضل، مع إعادة فتح دول كثيرة، ومنها الاقتصادات الرئيسة والمتقدمة حول العالم”.
وأشار إلى أن أفضل سيناريو ممكن هو أن “يسير العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على خُطى الصين، من خلال إنهاء عمليات الإغلاق بمجرد تسوية منحنى الإصابات الجديدة، ومن المفترض أن تتحقق العودة السريعة إلى الوضع الطبيعي في نهاية الصيف الحالي”.
ويرى أن هذا السيناريو يفترض أيضاً أن الفيروس “لا يعود مرة أخرى في فصل الشتاء، إمّا لأن نسبة أكبر من المتوقع من الناس أصيبوا بالفعل، ومُنحوا المناعة، وإمّا لأن تدابير المكافحة أصبحت أكثر فعّالية”.
وذكر أنه في ظل هذا السيناريو “ستشهد معظم الاقتصادات ركوداً معتدلاً، بنسبة تتراوح بين أربعة وستة في المئة خلال 2020، لكن النمو في عام 2021 سوف يتسارع، ما يعيد معظم الاقتصادات إلى مستويات ما قبل الأزمة”.
وأفاد حمودي، “ستبقى التحديات كبيرة، خصوصاً في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على قطاع السياحة والترفيه في اقتصادها، فمع توقف صناعة السفر والسياحة العالمية، فإن الآثار غير المباشرة على العمالة العالمية واسعة النطاق، إذ تدعم هذه الصناعة ما مجموعه 330 مليون وظيفة حول العالم، وتسهم بنسبة عشرة في المئة أو 8.9 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي كل عام”.
وأضاف محلل الاقتصاد العالمي، “البلدان التي تملك مقومات ستتعافى بنحو أسرع، معتمدة على ميزانيتها المالية الضخمة، وتوفر الدعم لغالبية السكان العاملين والشركات الصغيرة والمتوسطة، إلى جانب أن البنية التحتية متقدمة في قطاعات والخدمات والاتصالات واللوجيستيات، وكذلك الخدمات الصحية الفعّالة”.
علامات مبكرة
من جانبه، قال جون لوكا، مدير التطوير بشركة “ثنيك ماركتس” البريطانية، “الاقتصادات حول العالم بدأت تظهر علامات مبكّرة على التعافي”، موضحاً “الطلب الاستهلاكي للأفراد يقود تحسّن الاقتصاد بشكل جزئي بعد فترة طويلة من حظر النشاطات”.
وتوقع أنه إذ استمر التحسُّن بشكل تدريجي “سيدعم استدامة التحسُّن في البيانات الاقتصادية، وثقة المستهلك خلال النصف الثاني من 2020”. موضحاً “إعادة فتح الاقتصادات ستعمل على تقييم حجم الأضرار التي سببتها الجائحة، والوقوف على القطاعات الأكثر تأثراً، التي قد تتطلب دعماً حكوميّاً للاستمرار والبقاء في السوق”.
ويرى لوكا أن مخاوف الأسواق “ما زالت مستمرة”، وارتفاع حالة عدم اليقين انعكست على ارتفاع أسعار الذهب فوق 1800 دولار للأوقية، وسط مخاوف محتملة لموجة ثانية لتفشي كورونا.
سياسات دعم
من جهتها، قال غيتا غوبيناث، المستشار الاقتصادي ومدير إدارة البحوث بصندوق النقد الدولي، “البلدان التي شرعت في إعادة فتح اقتصاداتها، وبدأت تتعافى، يتعين عليها تحويل دعم السياسات بالتدريج نحو تشجيع الأفراد على العودة إلى العمل، وتسهيل إعادة توزيع العاملين على القطاعات التي يتزايد الطلب فيها بعيداً عن القطاعات التي تشهد تقلصاً”.
وأضافت غيتا، في تقرير حديث، “نفقات الدعم يمكن أن تكون على شكل تدريب العاملين ودعم التوظيف وتوجيهها إلى العاملين الذين يواجهون مخاطر أكبر من البطالة الطويلة المدى. وسوف ينطوي دعم التعافي كذلك على إجراءات لإصلاح الخلل في الميزانيات العمومية ومعالجة فرط أعباء المديونية. وسوف يقتضي ذلك وضع أطر قوية للإعسار، وآليات لإعادة هيكلة الديون والتخلص من الديون المتعثرة”.
وتابعت المستشار الاقتصادي، “ينبغي أيضاً حدوث تحوّل في الدعم الموجَّه من السياسات بالتدريج ليصبح أوسع نطاقاً، بحيث تسمح مساحة الإنفاق من المالية العامة، وينبغي على البلدان أن تنفذ استثمارات عامة خضراء للإسراع بالتعافي ودعم أهداف المناخ الأطول أمداً. ومن أجل حماية أضعف فئات السكان، يتعين التوسّع في الإنفاق من شبكات الأمان الاجتماعية بعض الوقت”.
اندبندت عربي