تسرب الحديث أخيراً عن صفقة سرية عقدت بين الصين وإيران لمدة 25 عاماً، تفاصيل الصفقة المعلنة لا تتوقف فقط عند علاقات الصداقة المعروفة بين الصين وإيران، بل إنها تمثل نقطة تحول محورية في العلاقة بين البلدين وامتداد تداعياتها داخلياً لتمس بناء الشخصية الإيرانية، وخارجياً الوضع الجيوستراتيجي للصين في الخليج والشرق الأوسط. إذاً، هل تعكس الصفقة مصالح متبادلة أم تأسيس لعلاقة “زبائنية” قوامها الراعي والعميل؟
يمكن القول إن الصفقة الأخيرة مع الصين تعد انتكاسة ورجوع النظام الإيراني الحالي عن عدد من المبادئ التي تشكلت في إطار الصحوة القومية الإيرانية في القرن الـ 19 وبدايات القرن الـ 20 ثم مبادئ الثورة الإيرانية في ما بعد.
فالمعروف أن إيران شهدت عدداً من الأحداث والتطورات السياسية التي كان لها الأثر الفاعل والمهم في تشكيل إدراك وتصورات القادة الإيرانيين لعلاقات إيران بالغرب وأفكارهم حول الاستقلال، وتبلور المبادئ الديمقراطية والقومية، وأفكار الاستقلال والحرية لدى المجتمع الإيراني منذ بدايات القرن الـ 19 وأوائل القرن الـ 20، وتزامنت تلك الأفكار مع ازدهار الأفكار الإصلاحية لدى العلمانيين والمحافظين والقوميين. وكان ازدهار هذه المبادئ والأفكار في تلك الفترة نتيجة لعدد من التحولات التاريخية التي شهدتها إيران، وارتبطت بشكل أساسي بوقوعها ضحية في خضم التنافس الأوروبي في القرن الـ 19، وفي تغذية المشاعر المعادية للنفوذ الأجنبي لدى جميع التيارات الفكرية من جهة أخرى.
ثم سرعان ما لبثت هذه الأفكار أن عادت في فترة حكم الشاه مع قرار الدكتور محمد مصدق في خمسينيات القرن الـ 20 بتأميم صناعة النفط واصطدمت حينها إيران بالنفوذ الأجنبي. ومن هذه الأحداث التاريخية قبل حكم الشاه (احتجاجات التبغ، الثورة الدستورية)، ثم أزمة محمد مصدق وتأميم النفط أثناء حكم الشاه. وكان ذلك نتيجة لعدد من الاتفاقات مع الدول الأوروبية مثل الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا وروسيا، واختراق روسيا الدولة والمجتمع الإيراني عبر امتيازات عدة، أيضاً بريطانيا استطاعت الحصول على عقود امتيازية حصلت بموجبها على تنازلات وامتيازات في معظم القطاعات الاقتصادية، وأهمها النفط عام 1901، وامتياز التبغ كذلك، والذي أدى إلى تأجيج احتجاجات المواطنين حول الاتفاقات والتفويضات الأجنبية.
ونتيجة لذلك، تم إدراج مبدأ الحرية والاستقلال في أول دستور إيراني عام 1906 كمبدأ أساسي، واستناداً لمبادئ الدستور عمل ممثلو البرلمان على التحكم في السياسات الاقتصادية، وإدارة الموازنة، والتحكم في نقل الموارد الوطنية للقوى الأجنبية وإبرام المعاهدات الدولية والاتفاقات، وقام أول مجلس برفض اقتراح الحكومة الحصول على قروض أجنبية، كما قام الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني في عهد الشاه بالدعوة لتأميم صناعة النفط وللسيطرة عليه بدلاً من التدخل البريطاني والروسي كخطوة لإصلاحات اقتصادية وسياسية.
وحينما اندلعت الثورة الإيرانية، أكد الخميني أن الثورة ليست قومية وإنما إسلامية تعود بالإسلام إلى مجده القديم، وأن الوحدة الإسلامية هي الأفضل للتغلب على الإمبريالية، وفى سبيل ذلك تبني مبدأ لا شرقية ولا غربية، وكان يقصد حينها عدم التحالف مع الاتحاد السوفياتي أو الولايات المتحدة والغرب.
أيضاً دائماً ما كانت تعلن إيران رفضها وجود قوات أجنبية في الخليج واستبعادها من أية ترتيبات أمنية ولم يكن يعني إيران الوجود الغربي فقط بل حتى وجود قوات عربية سورية أو مصرية، على غرار رفضها إعلان دمشق في التسعينيات، ومع ذلك نجد أن الصفقة السرية المتداول الحديث عنها الآن تربط إيران بالصين وروسيا في ترتيبات أمنية عبر إيران في المنطقة وذلك عبر منح إيران الصين جزراً وقواعد إيرانية مقابل الاستثمار الصيني في قطاع النفط الإيراني.
تفاصيل الصفقة ترتبط بشراكة استراتيجية شاملة بين الصين وإيران والتي تمتد مدتها 25 عاماً، وهي مبنية على اتفاقية سابقة تم التوقيع عليها في عام 2016. وتعتبر التفاصيل سرية للآن لكنها بحسب ما سرّب عنها تشمل عناصر عسكرية ترتب تداعيات أمنية، إذ قيل إن الصفقة تتضمن استثمار الصين حوالى 280 مليار دولار أميركي في تطوير قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات في إيران.
وسيتم تحصيل هذا المبلغ مقدماً في فترة السنوات الخمس الأولى من عمر الصفقة، في المقابل ستُمنح الشركات الصينية الخيار الأول للمزايدة على أي مشروعات جديدة، أو متوقفة أو غير مكتملة، للنفط والغاز والبتروكيماويات في إيران، وستتمكن الصين أيضاً من شراء جميع منتجات النفط والغاز والكيماويات بتخفيض مضمون بحد أدنى 12 في المئة لمتوسط سعر ستة أشهر للمنتجات القياسية القابلة للمقارنة، كما أن الصين ستشارك بشكل متكامل في بناء البنية التحتية الأساسية لإيران، والتي ستكون في توافق مع المشروع الجيوسياسي الصينى الحزام والطريق، كما تمتد الصفقة لتشمل تعاوناً عسكرياً جوياً وبحرياً كاملاً بين إيران والصين، مع قيام روسيا أيضاً بدور رئيسي في الموضوع.
وستكون السفن العسكرية الصينية والروسية قادرة على استخدام منشآت مزدوجة الاستخدام أُنشئت حديثاً في الموانئ الإيرانية الرئيسية في تشابهار وبندر بوشهر وبندر عباس.
إن الدافع وراء قبول إيران على هذا النفوذ الصيني والروسي هو أن الصين ضمنت أنها ستستمر في شراء كل النفط والغاز والكيماويات التي تحتاجها إيران، لا سيما مع فشل الدول الأوروبية في تعويض إيران باستثمارات اقتصادية لتقلل خسائر إعادة فرض الولايات المتحدة العقوبات على إيران في أعقاب انسحابها من الاتفاق النووي، أما الاهتمام الصيني فهو ليس استراتيجية إيران الاقليمية بل البعد الاقتصادي في الشرق الأوسط.
أي إن هذه الصفقة من جهة هي انعكاس لتوظيف صيني إيراني كل منهما للآخر في سبيل تنفيذ استراتيجيته، ومن جهة أخرى، لا تعكس مصالح متبادلة بل تخلي إيران عن التصورات والمبادئ التي نتجت من الأحداث التاريخية التي مرت بها إيران حول استغلال القوى الكبرى لإيران وغيرها من الدول، وكانت ملهمة لخطابات الخميني وخامنئي الثورية والخطابات أثناء الثورة الإيرانية التي قامت رفضاً لسياسات الشاه وعلاقته بالغرب، بل أيضاً ردة على أفكار ومبادئ قومية انتشرت بين التيارات الإيرانية المختلفة والتي أساسها كان القومية الإيرانية.
هبه رؤوف
اندبندت عربي