يبدأ وعي الإنسان بالتبلور، والتشكل الجدي في عمر المراهقة، وهذه في الحقيقة ليست مقولة نظرية، قرأتها في أحد الكتب النفسية، أو التربوية، إنما هي خلاصة تجربة حياتية سابقة.
لكن كيف كانت مراهقتنا؟
طبعًا، وكبقية المراهقين في العالم، كنا في سوريا نقضي معظم وقتنا في المدرسة، والشارع، والملعب، ما يعني أن تعرضنا للمؤثرات السلوكية، والنفسية، والتربوية، مصدره البيئة العامة، والخارجية، بدرجة أكبر من البيئة الخاصة الداخلية، المتمثلة في الأهل، والمنزل.
في عمر الثالثة عشرة، ينتقل ‘‘التلميذ’’ إلى مدرسةٍ جديدةٍ، ونظامٍ تعليمي جديدٍ، يمتاز عن المرحلة الابتدائية، بوجود مدرس أو مدرسة لكل مادة على حِدة، وبكل الأحوال لم تكن مدرستنا مختلطةً، رغم أن مدارس الريف كانت كذلك، فقربنا من المدينة، جعلنا تابعين لما يطبق فيها من أنظمة، وكان نظام الأسد ‘‘العلماني’’، يفصل بين الذكور والإناث في مدارس العاصمة، حرصًا على مشاعر النخبة الدينية – التجارية، السنية، المحافظة، والموالية له.
فجأة، ودون علمنا، تحولنا من أطفالٍ عابثين، إلى جيشٍ منظمٍ في صفوفٍ، وصار اسمنا “الرفاق”، أو “شبيبة حافظ الأسد”، نرتدي بدلات، وقبعات، وأحزمة عسكرية، وأحذية سوداء، ونضع شارات تعريفية على الأكتاف، وهو مشابه لما كان عليه الحال في ليبيا “القذافي”، التي اتبعت نظامًا تعليميًا/عسكريًا مماثلًا، وبتنا في عهدة من كانوا يعرفون باسم “مدربي الفتوة”، أو أساتذة مادة التربية العسكرية، ويُقال إن “الرفيق القائد” استوحى ذلك التنظيم العسكري المدرسي، من جمهورية كوريا الشمالية ‘‘الديمقراطية’’، أو لعله استوحاه من تنظيم شبيبة “هتلر”، فلا أحد يعرف حقًا، ما كان يدور في خلد “القائد المناضل”!
سيحفر هذا التعليم العسكري عميقًا في وعينا الطري، ويشكل كثيرًا من مكنونات لاوعينا العام.
كان مدرب العسكرية ربّ المدرسة، وإلهاها الأعلى، وكان حضوره يطغى على حضور مديرنا (الذي كان مخبرًا أمنيًا)، ولم يكن تواجد المدرب مقتصرًا على حصته، فهو حاضر في حياة الطلاب منذ دخولهم في الصباح، وحتى خروجهم بعد الظهر. في الغالب كان مدربو الفتوة أشخاصًا مرضى، معقدين، وفاشلين، رفضتهم الكليات العسكرية، أو كانوا ضباطًا فاسدين نقلوا من الجيش، وأجهزة الحزب لمديريات التربية العسكرية، أما “المدربات” فكن نساء بالاسم، رجالًا في الشكل، والسلوك.
الوصف الأقرب لأولئك الزمرة، كان السجانين، أو عناصر المخابرات. وفي الحقيقة، كانت مدارسنا سجونًا، ومعابد متطرفة لتلقين صلوات القائد، الذي كان حاضرًا دائمًا باسمه، وصوره، وتماثيله، وبالشعارات اليومية التي نرددها، وفي دروس التاريخ، والتربية القومية الاشتراكية، والاجتماعات الشبيبية، التي كنا نُلزم بحضورها، وفي الإعلام، والثقافة، والفن، و…
هذا أيضًا سيحفر في دواخلنا، ويحولنا ببطءٍ إلى نوويات عسكرية لاواعية، مرتبطة بدارات تحكم مغلقة، ليست لها أية غاية، إلا الحفاظ على نظام “الأب القائد”. كنا نتعرض للعقوبات العسكرية على أية مخالفة نرتكبها، ونتعرض للصفع، والركل، والشتائم، لمجرد تأخرنا دقائق في الصباح، أو نُجبر على أداء التمرينات الشاقة، أو الاستلقاء، والتقلب في برك الماء شتاء، في حال نسياننا للقبعة، أو النطاق العسكري.
في الحصة الأولى، حضر مدرب الفتوة ببزته المموهة، ومسدسه الحربي، ليلقي علينا الدرس العسكري الأول، وكان عنوانه: الفاتحة العسكرية. وكان واضحًا ما تحمله دلالة الاسم من معاني الاستفزاز، والإساءة، ومعاني التحريم، والقداسة التي لا تحتمل الخطأ، ولا تقبل النقاش. يقول مطلع الفاتحة: ‘‘بما أن قوة الجيش في نظامه، فقد اقتضى ذلك أن يحوز القائد على طاعة مرؤوسيه التامة دون تردد، أو تذمر’’. وجاء فيها أيضًا جملة شهيرة، لطالما سنسمعها لاحقًا، في المدرسة، والجامعة، والسوق، والدوائر الحكومية، وهي: ‘‘نفذ، ثم اعترض’’.
وبعد الفاتحة، جاء موعد انتخاب عريف الصف، وكانت تلك أول عملية ‘‘ديمقراطية حرة’’، نختبرها في حياتنا، وستنطبع أجوائها في مخيلتنا أيضًا. حيث أُمر المتفوقون دراسيًا أن يرشحوا أنفسهم، وأُمر البقية أن يصوتوا، وجرت الانتخابات، التي فزت فيها، فيما اقتصرت آثارها الجانبية على بعض الشتائم، وصفعة مدوية لأحد الرفاق.
كانت الصورة مفرطة في تناقضها، وعبثيتها، سلطة مرعبة، ومسلحة، تأمر رعيتها، أو عبيدها بإجراء انتخابات شكلية، سخيفة، لاختيار ممثلين عاجزين، يقتصر دورهم على تنفيذ تعليمات السلطة، والوشاية بأفراد الرعية لتلقّي العقوبات العسكرية التي يستحقونها. هكذا تكون الديمقراطية إذن، وهذا هو مضمونها وحقيقتها!
ثم كان يتوجب علينا الخضوع للمعسكرات الشبيبية، واجتياز الفحوصات العسكرية حتى يُسمح لنا بالتقدم لامتحانات الشهادتين الإعدادية، والثانوية، أما في الجامعة فكان الخضوع للتدريب العسكري إلزاميًا لنتمكن من النجاح والتخرج، وفي كل تلك السنوات كانت العسكرة حاضرة في كل أركان حياتنا، وكان الجيش السلطة الوحيدة الفاعلة، والقادرة على فعل كل شيء.
السلطة الحقيقية في سوريا وليبيا والعراق، وغيرها من الجمهوريات العربية، هي رئيس الجمهورية، وهو ابن المؤسسة العسكرية وقائدها العام. وأبناؤه كانوا مشاريع قادة عسكريين، يجري إعدادهم في الكليات العسكرية ‘‘الوطنية’’، التي لا يمكن مقارنتها مطلقًا بأكاديمية “ساند هرست” الملكية البريطانية.
وفيما الإعلام يعمل على تكريس الصورة العسكرية للزعيم وخلفائه، ويقوم بالترويج لقوة الجيش وعظمته، باعتباره الضمانة الوحيدة لاستقرار البلاد، وبصورة ما كان ينفذ إلى اللاوعي فكرة أن الجيش وقائده يختصران الوطن والأمان والاستقرار. بينما الجيش في الواقع، مؤسسة قمع وإخضاع، وضبط للمواطنين، والمواطنون يدفعون ثمن عسكرة حياتهم، من أرزاقهم ومستقبلهم وحرياتهم، وفوق ذلك فالجيش لم يحفظ لهم أمنًا، ولم يحقق لهم أي نصر، فقد اقتصرت حروبه وانتصاراته عليهم وحدهم.
عندما وصل الربيع العربي إلى ليبيا، وسوريا كان مقدرًا ربما أن تتحول ثوراتهما السلمية، بعد وقت قصير إلى انتفاضات مسلحة، على عكس الوضع في مصر وتونس، حيث تتمتع المؤسسات العسكرية فيهما باستقلال نسبي عن الرؤساء وأبنائهم، وحيث يوجد هامش حياة مدنية أوسع، وقد لعب العنف المفرط، الذي واجه به نظاما “القذافي”، و”الأسد” تلك الثورات، دورًا في ذلك التحول، كما ساهمت أطراف خارجية في عملية التحويل تلك، وزادت التيارات الإسلامية المسكونة بأحلام ‘‘الخلافة’’، التي لا تقوم إلا بالسيف والفتوحات من سرعة وديناميكية العسكرة الثورية. لكن، ما كان له أعظم الأثر، وإن لم يجر الحديث عنه سابقًا في عسكرة الثورات، هو مخزون اللاوعي الفردي والجمعي، والذي تهيمن عليه فكرة الجيش/السلطة، أو السلطة/الجيش، والتي تعني باختصار أن السلاح لا يواجه، ولا يسقط إلا بالسلاح.
في هذا السياق، ربما يصح القول أن هناك ثورات تُعسكر قبل أن تولد، وأن هناك أوضاعًا لن تتغير ما لم يحضر السلاح. وفي هذا السياق أيضًا، قد يفيد التحذير من أن الموجات الثورية العربية القادمة، ضد الأنظمة التي ساهمت بكسر موجة الربيع الحالية، ستلجأ إلى حمل السلاح في الغالب، فاليأس والخذلان الذي وصلت إليه الشعوب العربية، لن يتولد عنه إلا انفجارات عنيفة مريعة ومدوية.
وقد تكون البداية من مصر “السيسي”، الذي يذهب بعيدًا في عسكرة الدولة والمجتمع المصريين، ويدفع بالجيش مقابل الشعب، معتقدًا أنه سيقضي على أحلامه المشروعة بالخلاص والتغيير.
علي فاروق :جريدة التقرير
http://goo.gl/Qss6Xk
الكلمات الدلالية: الربيعالعربي، التنظيم العسكري المدرسي،مصر،تونس،سوريا، الشعوب العربية.