كان للسياسة التي رسمتها، وقننتها ونفذتها الوﻻيات المتحدة الأمريكية في العراق اثرها الكبير في تصفية النخب والكفاءات العراقية، وتهميشها وتشريدها وتهجيرها،كجزء من خطة انهاء العراق دولة وشعبا بالتدمير والتمزيق المذهبي والعرقي والطائفي،الى درجة ان اصبحت دماء اﻻقتتال والحرب اﻻهلية والتهميش حاجزا، قسم العرب العراقيين الذين يشكلون 85% الى طرفين متناقضين، صار من الصعوبة اعادة اللحمة اﻻجتماعية بينهما، وابعد الكرد عنهما تجاه تحقيق حلم الدولة الكردية المستقلة .
وﻻ نقول هذا تنظيرا او خياﻻ، بل ان الوقائع واﻻحداث الموثقة تثبت ذلك، فبالعودة الى خطط الوﻻيات المتحدة قبل الغزو واﻻحتلال نجد ان هذا المشروع كان قائما قبل احداث الحادي عشر من سبتمبر، بل وقبل تسلم بوش اﻻبن السلطة كهدف من اهداف ما يطلق عليهم المحافظون الجدد من اليعقوبين.
يقول جورج تنت رئيس جهاز ال سي آي أي في كتابه “في قلب العاصفة”: انه في صباح اليوم التالي لھجمات11 أيلول/ سبتمبر, وبينما كان يدخل البيت الأبيض, التقى المسؤول السابق في وزارة الدفاع وأحد أبرز مفكري المحافظين الجدد ريتشارد بيرل, وقد فوجئ تنت ببيرل, الذي لم يكن يشغل منصبًا رسميًا في الإدارة الأميركية, ليقول : “على العراق أن يدفع ثمن ما حدث بالأمس….إنه يتحمل المسؤولية” ويضيف تنت انه شعر بالصدمة. ولم ينبس ببنت شفة, لأنه قد قام قبل ساعة باستنساخ قوائم ركاب الطائرات الاربع المختطفة، والتي أظهرت، و بما لا يدع أي مجال للشك، أن تنظيم القاعدة وراء ھذه الهجمات. وخلال التحقيق وعلى مدى الشهور والسنوات التالية، لم يجد دليلاً واحدا يشير إلى تورط العراق.
ليس هذا فقط, بل ان ضابطا عسكريا كبيرا كان برفقة نائب وزير الدفاع الامريكي دوجلاس فيث في أوربا وقت وقوع ھجمات11 أيلول/سبتمبر، وفي أثناء عودته معه على متن طائرة عسكرية في اليوم التالي للهجمات، قال ھذا الضابط الكبير لفيث إن القاعدة ھي المسؤولة عن هجمات اليوم السابق وأنه لا بد من القيام بحملة عسكرية كبرى ضد معاقلها في أفغانستان. وكم كانت صدمة ھذا الضابط كبيرة لدى سماعه نائب وزير الدفاع فيث يرد عليه قائلاً الحملة يجب أن تتجه على الفور إلى بغداد.
هذا التصميم على غزو العراق, الذي يؤكده رئيس جهاز السي آي أي تنت, لم يظهر فجأة يوم هجمات ال11 من ايلول/سبتمبر, وانما يمتلك عمقا يعود الى اليوم الاول الذي فاز فيه بوش الابن بالانتخابات الرئاسية. ففي مطلع شهر كانون الثاني/يناير 2001، وقبل أن يؤدي بوش القسم رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية, أرسل نائب الرئيس المنتخب ديك تشيني رسالة إلى وزير الدفاع المنتهية مهمته قائلاً “إننا يجب أن نقدم للرئيس الجديد إيجازا لبعض القضايا وانه يريد مناقشة جادة حول العراق وخيارات مختلفة حوله، فالرئيس المنتخب يجب أن لا تقدم له معلومات عامة عن العالم كالذي يجري في العادة للرؤساء الجدد، ويجب أن يكون موضوع العراق في قمة المواضيع” .
وكان تشيني كما هو معروف وزيرا للدفاع في حرب بوش الأب على العراق عام 1991 وما زال يحمل شعورا، أن مهمتهم في تلك الحرب لم تنجز وان العراق هو البلد الوحيد الذي تقوم الولايات المتحدة بقصفه هذه الأيام من خلال منطقتي الحظر الجوي . لقد أراد تشيني التأكد من الرئيس الجديد بوش يفهم معنى هذا، خصوصا ان الكونغرس الأمريكي اقر قانونا عام 1998 خصص فيه 97 مليون دولار لمساعدة المعارضة العراقية “من اجل إزاحة النظام في العراق” و “إقامة حكومة ديمقراطية مكانه” .
ولذلك، وقبل عشرة أيام من أداء القسم الرئاسي، وفي صباح يوم الأربعاء 10 كانون الثاني/يناير ذهب بوش وتشيني ورامسفيلد ورايس ووزير الخارجية المرشح كولن باول إلى البنتاغون، لمقابلة وزير الدفاع كوهين المنتهية مهمته. وفي غرفة رئاسة الأركان المشتركة استمعوا جميعا إلى شرح من قبل جنرالين عن طبيعة الحظر الجوي والقصف الدفاعي العراقي للطائرات الأمريكية في كل مهمة يقوم بها الطيران.
بعد بضعة أيام تلقى بوش ومجموعته إيجازا ثانيا من مدير المخابرات المركزية سي آي أي، جورج تنت ومساعده للحركات، وقد حدد تنت الخطر الذي يواجه الولايات المتحدة بثلاث ، أولها: ابن لادن وتنظيم القاعدة، والثاني أسلحة الدمار الشامل الكيمياوية والبيولوجية، والثالث والاخيرنهوض الصين بعد خمس إلى خمس عشرة سنة أو أكثر. ولم تكن هناك أي إشارة للعراق .
وفي يوم 5 شباط/فبراير، أي بعد 17 يوما فقط من تولي بوش للرئاسة، ترأست رايس اجتماعا للجنة الرؤساء حضره تشيني وباول ورامسفيلد ومساعد تنت بالنيابة عنه، وكان الهدف هو استعراض سياسة العراق ودراسة كيفية زيادة الاستطلاعات المخابراتية، حول أسلحة الدمار الشامل فيه.
وخلال الفترة 31 مايس/مارس – 26 تموز/يوليو 2001 اجتمع وكيل مستشار الأمن القومي هادلي أربع مرات مع لجنة الوكلاء لصياغة سياسة حول العراق، وفي شهر آب/اغسطس قدمت هذه المجموعة ورقة سرية للغاية تحت عنوان (استراتيجية التحرير). حيث ناقشت ملاحق هذه الورقة أيضا، الوسائل الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية والمفتشين الدوليين والعمليات العسكرية في منطقتي الحظر الجوي ونوع الدعم الذي تقدمه المخابرات المركزية لتقوية المعارضة العراقية.
هذا التحرك في التخطيط لغزو العراق قد سبق هجمات ال 11 ايلول/سبتمبر بثمانية اشهر تقريبا. وعندما تطور هذا التخطيط عسكريا وسياسيا, بعد هذا التاريخ, ودخل في مرحلة التهيئة للتنفيذ بحجة اسلحة الدمار الشامل، حسبما وثق بوب وود في كتابه خطة الهجوم ومايكل كوردن في كتابه كوبرا 11, ان العلماء والاكاديميين والنخب العراقية عموما احد اهداف التخطيط لغزو العراق، واحتلاله للقضاء على قدراته العلمية والتقنية.
وقد تجسد ذلك بخطط مدروسة نفذتها الولايات المتحدة قبل الغزو وبعد الاحتلال، بدأتها الادارة الامريكية مبكراً في أثناء عمليات التفتيش، وقبل احتلال العراق بفترة طويلة، منها سن قانون خاص لهجرة العلماء العراقيين، صادق عليه مجلس الشيوخ لمنح العلماء العراقيين، الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عن برامج بلادهم التسليحية بطاقة الهجرة الأمريكية الخضراء تمهيدا للتجنس، وكان الهدف واضحاً وهو ما عبر عنه السيناتور بايرن، الذي أقترح مشروع القانون صراحة بأن القانون يسعى لحرمان العراق من الكوادر الفنية والهندسية الضرورية لاستمرار برنامجه في إنتاج أسلحة الدمار الشامل.ثم كان القرار الأممي 1441 الذي أصرت واشنطن على تضمينه بنداً يقضي باستجواب العلماء العراقيين.
وبعد الغزو والاحتلال، خصصت الولايات المتحدة برنامجاً بقيمة 25 مليون دولار لتأهيل العلماء العراقيين، الذين عملوا في برامج التسلح العراقية. والهدف المعلن هو الاستفادة منهم في برامج للاستخدام السلمي للطاقة، لكن الهدف الحقيقي هو استغلال عدد كبير من هؤلاء العلماء عبر ترحيلهم إلى الولايات المتحدة وإعطائهم الجنسية الأميركية، ودمجهم في مشاريع معرفية هناك.
ويذكر الخبير في الشؤون الإسرائيلية، عماد جاد، أن الولايات المتحدة نقلت جوا 70 من العلماء العراقيين إلى خارج العراق، ووضعتهم في مناطق نائية خشية أن يسربوا ما لديهم من معلومات، أو يحولوا تلك المعلومات إلى منظمات أو دول معادية، وأسفرت هذه المغريات عن زيارة عدد من العلماء العراقيين للكيان الصهيوني.
وكان ترحيل العلماء هو احد الخيارات, ثم يأتي بعده خيار التصفيات الجسدية، وتكشف المصادر ان قوات الاحتلال كانت تحمل قوائم بأسماء العلماء العراقيين والمتخصصين، الذين وردت أسماؤهم في قوائم مفتشي الأسلحة الدوليين وعناوينهم والأبحاث التي يعملون عليها، وهو ما أدى إلى اعتقالهم أو قتلهم.
ولم يسلم أساتذة الجامعات والمؤسسات التعليمية من التصفيات- فقد أصدرت رابطة الجامعيين العراقيين تقريرا عن أشكال الاعتداءات عليهم ، وعن الجهات التي تنفذ هذه الاعتداءات، مثل: القتل والاعتقال والخطف والاقصاء في حملة تصفية وإبادة منظمة لعلماء وأستاذة العراق وعقوله، وهي حملة تخريب شاملة لكل مؤسساته العلمية وجامعاته.
ان مخطط تصفية علماء العراق وأكاديمييه وتنفيذه , قد جرى ايضا بالتعاون مع الموساد الاسرائيلي.. حين قدّمت أجهزة الأمن الأميركية لإسرائيل سير حياة كاملة للعلماء العراقيين والأكاديميين من أجل تسهيل عملية قتلهم.
واظهرت عدة دراسات تورط فرق الموت الاسرائيلية في اغتيال علماء وأكاديميي العراق بين اعوام 2003 و 2006. وفي تقرير أعدته وزارة الخارجية الأميركية عام 2005، كُشف عن قيام عناصر إسرائيلية وأجنبية أرسلها الموساد بالتعاون مع الولايات المتحدة إلى العراق لاغتيال 530 عالماً عراقياً على الاقل, منهم علماء في الذرة والبيولوجيا, وأكثر من 200 استاذا جامعيا وشخصيات أكاديمية.
وقد تمكنت هذه الفرق من اغتيال 310 من علماء ونخب وأساتذة العراق، وتم الكشف عن أن أكثر من 500 من علماء العراق وأساتذته ونخبه العلمية موضوعون على قوائم الاغتيال الإسرائيلية، وتشير أيضاً إلى أن 17 ألفاً من العلماء والاطباء والمهندسين والاكاديميين ونخب اخرى أجبروا على الرحيل من العراق منذ بدء الاحتلال.
ومن جانب آخر, كشفت وثائق ويكيليكس ان الادارة الامريكية كانت على علم بقتل الموساد الإسرائيلي 350 عالماً نووياً عراقياً، وأكثر من 300 أستاذ جامعي منذ بداية غزو العراق عام2003، بعد أن أخفقت إدارة بوش وأعوانها في استمالتهم للعمل داخل أراضيها، فرأت أن الخيار الأمثل لها تصفيتهم.
هذه الحقائق أكدها تقرير أميركي أعدته وزارة الخارجية، ورفعته الى الرئيس جورج بوش، وقالت فيه ان: “الموساد” تمكن بمساعدة قوات الاحتلال وميليشيات واجهزة امنية من تصفية العلماء النوويين المتميزين وأساتذة جامعيين من الاختصاصات العلمية كافة، وأنه ولهذا الغرض تقرر قيام وحدات من الكوماندوز الاسرائيلية بهذه المهمة, وأن هناك فريقاً أمنياً عراقيا كُلف بمساندة الكوماندوز والميليشيات لإتمام تلك المهام، وإنه ترتب على ذلك قتل 350 عالماً نووياً و300 أستاذ جامعي، واضاف التقرير ان هذه العمليات تستهدف أكثر من ألف عالم عراقي مطلوب تصفيتهم.
ومنذ عام 2003 تشردت النخب والكفاءات العراقية خارج الوطن، وعانت ما عانته من صعوبات الغربة وعوائلهم معنويا وماديا. ولم يتسن منذ ذلك الوقت مناقشة اوضاعهم من قبل اي جهة رسمية او غير رسمية الى ان قرروا اخيرا اﻻجتماع بأنفسهم وبإمكانات متواضعة، وفرها لهم وطنيون عراقيون، فكان اجتماعهم في اسطنبول انطلاقة ايجابية جديدة تجاوزت المذهبية والحزبية والعنصرية، لمعالجة احوالهم التي مضى عليها احد عشر عاما دون حل. وقد تمثل ذلك بشكل واضح في اهداف المنتدى وفعالياته التي وضعت له نظاما داخليا مهنيا، وشكلت لجانا علمية، وانتخبت امانة عامة كخطوة تأسيسية اولى على طريق العمل الجاد للحفاظ على هذه النخب والكفاءات، وايجاد الحلول لمشاكلها سواء في داخل العراق او خارجه من اجل مصلحة البلاد ومستقبلها، ومستقبل اجيالها القادمة .
لقد شارك في المنتدى 250 شخصية عراقية مهنية واكاديمية تقيم في 28 بلدا من انحاء العالم من بينها العراق، واكد المنتدى في بيانه الختامي انه كيان وطني مهني علمي وبحثي مستقل، ليس له اهداف سياسية او حزبية وهو غير مرتبط بأي جهة او طرف داخلي او خارجي، وبذلك فهو ليس بديلا عن اي منظمة او تيار وطني آخر، فهو كيان وطني جامع يتسع لكل العراقيين الذين شملهم النظام الداخلي. ودعا المنتدى الى فتح آفاق التعاون والتنسيق مع الجهات المختلفة التي تسعى لتحقيق خدمة وطنية للعراق وشعبه.
وعليه فانه مطلوب من الجميع التعامل مع هذا المنتدى وقيادته بروح ايجابية بعيدة عن اﻻتهامات الباطلة، واسناده من قبل كلة القوى والشخصيات والمنظمات العراقية واﻻقليمية والدولية.
أ.د محمد مظفر الادهمي