تطالب شخصيات وأقلام وهيئات إسلامية تركية، محسوبة على حزب العدالة والتنمية، السلطة السياسية الحاكمة بالتراجع عن “اتفاقية إسطنبول الأوروبية لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي” التي اقترحتها الحكومة عام 2011، عند ترؤسها دورة المجلس الأوروبي، وكانت أول الموقعين عليها عام 2012، لتثبت ارتباطها ببنود الاتفاق الذي مكّنها عام 2018 من ترؤس لجنة مراقبة التنفيذ عالميا أيضا.
كلما اقترب موعد الحسم حيال تصرف السلطة السياسية للخروج من ورطة التراجع عن “اتفاقية إسطنبول”، برز أكثر فأكثر حجم مشكلة حزب العدالة والتنمية في إقناع شريكه داخل “اتفاق الجمهور” وزعيم الحركة القومية، دولت بهشلي، بإعطائه ما يريد، وهو الذي يدعو إلى الدقة والحذر في التعامل مع الموضوع، وبحث سلبيات قرار الانسحاب من الاتفاقية على تركيا في الداخل والخارج وإيجابياته. وقد يجد الحزب الحاكم نفسه وحيدا في خطوةٍ مهمة من هذا النوع، طالما أن حليفه تحت سقف البرلمان يحذر من نقاشاتٍ جديدة، قد تضر بسمعة تركيا في هذه الظروف. كيف أقحمت أنقرة نفسها في اتفاقية من هذا النوع، حيث تعود بعد تسع سنوات لتناقش مسألة الانسحاب منها؟
امتحان ينتظر حزب العدالة والتنمية، إقناع الشارع التركي بضرورات الانسحاب من اتفاقيةٍ دعا إليها ودعمها
غالبية الأتراك، حسب استطلاعات الرأي، لا علم لهم بالاتفاقية ومضمونها، لكن الغالبية نفسها تدعم الانسحاب منها، انطلاقا من النقاشات التي تتابعها أمام الشاشات، وتتصدر صفحات الجرائد. لن يعني الانسحاب من اتفاقية إسطنبول معارضة قوانين جديدة تُتخذ لحماية المرأة وحقوقها، وتوفير الحصانة القانونية والاجتماعية والاقتصادية الكاملة لها في بيئتها الأسرية، ولكن استطلاعات رأي تقول أيضا إن دخول الاتفاقية حيز التنفيذ لم يردع الرجل، ولم يسجل تراجعا حقيقيا في أرقام العنف والشدة ضد المرأة في الأعوام الأخيرة.
تتمحور المشكلة حول المادتين الثالثة والرابعة من الاتفاقية المتعلقة “بالمساواة بين الجنسين وميول الخيار الجنسي”، وتنفيذ مضمون المادتين بدون أي تمييز قائم على أساس النوع، أو الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الرأي السياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو الميول الجنسية، أو العمر، أو الحالة الصحية. في العلن، هي اتفاقية تدعو إلى التصدّي للعنف الأسري، واستخدام الشدة ضد المرأة، لكن أصواتا إسلامية كثيرة تقول إنها تساهم في تفتيت الأسرة التركية، وإضعاف بنيتها الاجتماعية والدينية والأخلاقية.
بعض رافضي بقاء الاتفاقية يضعونها على مسافة واحدة من المحاولة الانقلابية الفاشلة في البلاد قبل أربعة أعوام، لناحية خطورتها وارتداداتها على المجتمع التركي. هناك من يصوّر الأمر أنه مصيدة أعدت لتركيا من لوبيات غربية ومسيحية لتصفية حسابات “آيا صوفيا” معها.
اتفاقية تدعو إلى التصدّي للعنف الأسري، واستخدام الشدة ضد المرأة، لكن أصواتا إسلامية كثيرة تقول إنها تساهم في تفتيت الأسرة التركية.
ويقول بعضهم أيضا إن هناك من أخطأ في التقدير والتحليل في السلطة السياسية، وأوصى بقبول بنود الاتفاقية والمصادقة عليها، عبر نقل معلومات خاطئة إلى الرئيس، رجب طيب أردوغان، قبل تسع سنوات، وإنه حان الوقت للتراجع، وخصوصا أن دولا أوروبية عديدة بدأت الانسحاب، هي الأخرى، من الاتفاقية او ترفض توقيعها. وأن العودة عن الخطأ في هذه المرحلة أفضل بكثير من الاستمرار في طريق خاطئ.
وتذكّر المعارضة، من ناحيتها، بأرقام العنف الأسري والشدة، وأرقام الانتحار بين النساء المرتبط بالشدة المستخدمة ضد المرأة. وأن قبول الاتفاقية لم يغير كثيرا في ظروف المرأة ومعاناتها، وأن ترجمة مواد الاتفاقية لم يكتمل قانونيا وتطبيقيا، حتى يتحرّك بعضهم للمطالبة بالانسحاب منها. وأن قاعدة الغلبة للأقوى هي المعمول بها في تركيا، مثل دول عديدة في العالم الثالث، خلال تقويم العلاقة بين المرأة والرجل. وان انسحاب تركيا من الاتفاقية سيعرّضها لمشكلات كثيرة، بعد تبني معايير أوروبية في مسألة حقوق المرأة فتحت الطريق أمام العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، وتغامر أنقرة اليوم بالتضحية بكل ما بذلته من جهود.
بعض رافضي بقاء الاتفاقية يضعونها على مسافة واحدة من المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا قبل أربعة أعوام
نسب الى الرئيس التركي أردوغان قوله “ارجعوا إلى المواطن التركي، لنعرف إذا ما كان يريدنا أن نستمر في هذه الاتفاقية أم لا”، لكن الحملة التي يقودها بعض الأقلام والجماعات الإسلامية تصر على أن مواد الاتفاقية تتعارض مع أسس المجتمع التركي وبنيته، وتدمر معالم كثيرة له، وأن الاستمرار فيها سيساهم في تفكيك الروابط الأسرية والاجتماعية، ويقضي على معايير دينية وأخلاقية مهمة.
تدعو المعارضة، وأصوات نسائية كثيرة، الحزب الحاكم إلى عدم الرضوخ والاستسلام لضغوط الذين يريدون انتزاع تنازلاتٍ من هذا النوع في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها الحزب. وأن تقديم التنازلات سيفتح الأبواب أمام المطالبة بتنازلاتٍ أخرى لن تنتهي. اليوم هو موضوع الشدة ضد المرأة، غدا موضوع الإنفاق، وبعد غد موضوع الميراث. وأنه طالما هناك عقلية تعطي الرجل حقّ التحكّم بأدق خصوصيات المرأة، فلن يكون هناك قيمة للتمسّك بهذه الاتفاقية، أو الانسحاب منها. هناك من سيواصل ضرب المرأة وقتلها، ورميها في البراميل، كما حدث قبل أيام مع الطالبة بنار غول تكين.
امتحان جديد ينتظر حزب العدالة والتنمية في السلطة. إقناع الشارع التركي بضرورات الانسحاب من اتفاقيةٍ دعا إليها ودعمها، وفتح الطريق، أوروبيا وغربيا، إلى المصادقة عليها إبّان ترؤسه دورة المجلس الأوروبي قبل سنوات، أو دفع ثمن خطوة التمسّك بالاتفاقية، والتي قد يكون لها ارتداداتها داخل الحزب، ووسط شعبيته المتململة بسبب اتفاقيةٍ من هذا النوع. اتفاقية تحمل اسم إسطنبول التي لعبت دورا مهما في ولادتها، والآن يريد بعضهم أن تنسحب تركيا منها، بعدما كانت اللاعب الأول في إعداد النص والمصادقة عليه. كيف وقعت تركيا الاتفاقية من دون مناقشتها شعبيا ولماذا تقول غالبية الأتراك إنها لم تسمع بالاتفاقية حتى اليوم ولا تعرف فحواها؟ كيف ستتم عملية ملء الفراغ الذي قد تتسبب به خطوة الانسحاب من الاتفاقية؟ أين كانت القيادات السياسية التي رحبت بذلك قبل سنوات، واعتبرته إنجازا اجتماعيا كبيرا، لتعود وتراجع مواقفها، وتدعو اليوم إلى التراجع عما أسمتها الأمم المتحدة يومها المعايير الذهبية المعلنة في إسطنبول؟
أصوات نسائية محسوبة على الجناح اليساري العلماني والليبرالي الذي بدأ يوحد صفوفه تقول إن الانسحاب من الاتفاقية سيشكل خطوةً كبيرةً إلى الوراء
“منتدى الفكر التركي” الاسلامي الذي رفع إلى أردوغان تقريرا مفصلا عن الأسباب الاجتماعية والدينية التي تدعم طرح الانسحاب من الاتفاقية يقود حراك رفض اتفاقية من هذا النوع، وهو في مواجهة مع أهل البيت أيضا، ففي فبراير/ شباط المنصرم، عبرت نائبات وقيادات نسائية في “العدالة والتنمية” خلال لقاء بالرئيس التركي عن ضرورة التمسّك بالاتفاقية، ورفض حملات الدعاية التي تشن ضدها. ولكن أصواتا نسائية محسوبة على الجناح اليساري العلماني والليبرالي الذي بدأ يوحد صفوفه تقول إن الانسحاب من الاتفاقية سيشكل خطوةً كبيرةً إلى الوراء، مرتبطة بسوء فهم الاتفاقية أو تشويه بنودها.
قد يكون الحسم لصالح تبني رزمة قوانين إصلاحية جديدة، قادرة على فض الخلاف وضمانة حقوق المرأة التي تريدها، وتزيل هذا العبء الكبير عن كاهل الشعب التركي، من دون الغوص في تفاصيل اتفاقية إسطنبول.
سمير مصالحة
العربي الجديد