حمّلت وسائل الإعلام زيارة الوفد الروسي إلى دمشق برئاسة وزير الخارجية سيرغي لافروف الكثير من التوقعات غير الواقعية، خلاصتها أن موسكو تريد أن تمارس ضغوطاً «جدية» على نظام الأسد الكيماوي من أجل تحقيق تقدم في المسار السياسي، وتحقيق استقرار في الوضع الأمني في شمال غرب سوريا (محافظة إدلب والمناطق المجاورة). غريبة هي الأسباب التي استندت إليها تلك التوقعات الغريبة بدورها، ويمكن حصرها في أنها أول زيارة للافروف إلى دمشق منذ العام 2012، وأنه يرأس وفداً متعدد الاختصاصات، سياسي واقتصادي وعسكري. وفي غياب أي إعلان أو تسريبات عما دار في لقاءات تلك الوفود، لا يبقى أمامنا سوى المؤتمر الصحافي الذي أعاد الأمور إلى نصابها حين اتفق كل من وليد المعلم ولافروف على أن «الانتخابات الرئاسية هي شأن سيادي سوري»! وأنها ستجري في موعدها في منتصف العام القادم، مع تأكيد الوزيرين على أنه لا سقف زمنياً لعمل اللجنة الدستورية الذي يعرقل وفد النظام غير الممثل للنظام تحقيق أي تقدم فيه.
على رغم هذه الخلاصة غير المفاجئة يبقى أنها زيارة مهمة، ليس لأن لافروف «نزل إلى دمشق» بكل ثقله بعد غياب طويل، ولا لأن الوفد متعدد الاختصاصات، بل لمجرد أنها حدثت. فقد جرت العادة أن يتم شحن السفاح السوري بشار الأسد إلى موسكو إذا أراد صاحب القرار فلاديمير بوتين أن يملي عليه تعليمات مهمة، أو أن يستدعيه إلى إحدى القواعد العسكرية الروسية على الأراضي السورية ليهينه بروتوكولياً ويملي عليه ما يريد. بعكس التوقعات فزيارة لافروف إلى دمشق ما كان لها أن تنطوي على تغييرات كبيرة من نوع ممارسة الضغط على الحليف التابع، بل وضع خطط عمل تنفيذية ومراقبة التنفيذ لقرارات سبق واتخذها سيد الكرملين. من المحتمل، بالنظر إلى تركيبة الوفد الروسي، أن الجانب الاقتصادي كانت له أولوية على غيره من الجوانب، فالمأزق الكبير الذي يغرق فيه الاقتصاد منذ سنة على الأقل، وازداد قتامةً بعد بدء تطبيق العقوبات الأمريكية في إطار قانون قيصر، وتلاشي الأمل باستعادة السيطرة على حقول النفط في الشمال الشرقي بعد توقيع الاتفاق بشأنها بين الإدارة الذاتية وإحدى الشركات الأمريكية، يرغم المحتل الروسي على البحث عن مخارج من هذا المأزق.
سياسياً، قد يكون الأمر الواقع الموجود في الشمال الشرقي تحت المظلة الأمريكية هو ما شكل الموضوع الرئيسي في مباحثات الوفد الروسي، وبصورة خاصة الاتفاق الذي تم توقيعه في موسكو بين مجلس سوريا الديمقراطية ومنصة موسكو لصاحبها قدري جميل، وتضمن نقاطاً لا يمكن للنظام أن يقبل بها إلا بإرغام روسي.
في غضون ذلك تستمر المعاناة الرهيبة للسوريين، معاناة مركبة تشمل تجبر قوى الأمر الواقع، وانخفاض القدرة الشرائية لعموم السوريين إلى مستويات مرعبة، وتسارع انتشار وباء كورونا، لتنضاف إليها أخيراً حرائق الغابات
فهذا الاتفاق المفاجئ الذي يمكن قراءته كاتفاق أمريكي ـ روسي بالوكالة، يعني أن المنطقة المذكورة ستبقى خارج سيطرة النظام لفترة غير محددة، وتشكل نوعاً من ورشة عمل دائمة لتغيير طبيعة النظام انطلاقاً من جزء من الأراضي السورية. بكلمات أخرى، وبشرط أخذ البنود المعلنة للاتفاق على محمل الجد، تتشكل «سوريا أخرى» في شرقي الفرات قد تكون نموذجاً للنظام في سوريا بكاملها، وذلك بصرف النظر عن رأي مختلف الأطراف المعنية بتلك السوريا الأخرى وموقفهم منها، ونعرف أنها موضوع جدلي بين مختلف جماعات السوريين، وليس فقط القوى السياسية أو العسكرية أو الدول المنخرطة. من نافل القول أن هذا التثبيت لا ينطوي على أي تفاؤل بشأن «المشروع» المشار إليه، بل يكتفي بقراءة مجردة للاتفاق بين «مسد» وقدري.
من السابق لأوانه الحديث عن توافق أمريكي ـ روسي بشأن مصير سوريا، انطلاقاً من اتفاق موسكو المذكور بين وكلائهما، خاصة وأن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة باتت على الأبواب، ولا يمكن توقع اتفاق روسي ـ أمريكي شامل بشأن سوريا، قبل انتهاء الانتخابات، وقد يستمر الانتظار إلى ما بعد الشهر الأول في حال فاز جو بايدن بمنصب الرئاسة، وهو ما ترجحه استطلاعات الرأي إلى الآن. أي أن الاستنقاع في المسار السياسي مستمر لبضعة أشهر قادمة، هذا إذا كان له أن يشهد تحريكاً بعدها، ومن غير أن يعني أن توافقاً أمريكياً روسياً محتملاً، بعد أشهر، سوف يحقق تطلعات السوريين، بل سيحقق مصالح الأطراف المتوافقة.
في غضون ذلك تستمر المعاناة الرهيبة للسوريين، سواء في مناطق سيطرة النظام وسجونه ومعتقلاته الفظيعة، أو في المخيمات داخل الأراضي السورية وخارجها، أو في مناطق سيطرة «قسد» أو الميليشيات المدعومة من تركيا، أو في مناطق سيطرة جهاديي هيئة تحرير الشام وأمثالها، معاناة مركبة تشمل تجبر قوى الأمر الواقع، وانخفاض القدرة الشرائية لعموم السوريين إلى مستويات مرعبة، وتسارع انتشار وباء كورونا، لتنضاف إليها أخيراً حرائق الغابات.
كل ذلك ليس في وارد تفكير الدول المنخرطة في الصراع السوري، ولا في وارد قوى التسلط التي تحكم بقوة السلاح. ولن تكون زيارة الوفد الروسي، بصورة مخصوصة، معنية به.
بكر صدقي
القدس العربي