تحتفل الأمم المتحدة هذه الأيام بعيد ميلادها الخامس والسبعين، في ظل جائحة كورونا التي غيّرت الكثير من الممارسات المستقرة والتقليدية والعادية. فقد بدأت الدورة السنوية العادية هذه بدون حضور رؤساء الدول، أو الحكومات، وبدون مهرجانات ومؤتمرات واحتفالات. فنادق نيويورك ومطاعمها وحاناتها وملاهيها العديدة، ومسارحها وأسواقها، ستفتقد زبائنها الأجانب، الذين تعودت على استقبالهم كل عام في مثل هذه الأيام تحت غطاء دورة الجمعية العامة، لكنهم كانوا يستغلون المناسبة ليغرفوا من «التفاحة الكبيرة» كل ما تشتهي الأنفس.
بسبب الجائحة استعيض عن الحضور الشخصي بكلمات مسجلة، وصل منها 119 خطابا لرؤساء، أو حكام دول، و54 خطابا لرؤساء حكومات، والباقي من وزراء خارجية أو ممثلين دائمين. يبدأ سفير الدولة الذي يجلس شخصيا في قاعة الجمعية العامة بتقديم مقتضب من جملة واحدة لرئيس الدولة أو الحكومة، ثم يبدأ خطاب الرئيس المسجل بالفيديو، الذي لا يجوز أن يتجاوز الخمس عشرة دقيقة. سفيرة الولايات المحدة، كيلي كرافت، الوحيدة التي قدمت خطاب رئيسها دونالد ترامب، بخطاب دعائي طويل نسبيا، قبل أن يتوسع ترامب في خطابه القصير والموجه أساسا للداخل الأمريكي تحضيرا للانتخابات المقبلة.
وبما أن هذه الدورة تنعقد في ظل الذكرى الخامسة والسبعين لإنشاء الأمم المتحدة، فمن الحكمة أن نراجع مسيرة هذه المنظمة بشكل موضوعي، لنرى ماذا حققت في مسيرتها الطويلة وأين أخفقت.
أعمدة الأمم المتحدة الثلاثة
أنشئت الأمم المتحدة في ظلال الحرب العالمية الثانية، وآثارها العميقة التي تركتها على مستقبل البشرية. كان هاجس الحرب هو المحرك الأساسي لفكرة إنشاء منظمة دولية، في أعقاب فشل عصبة الأمم. كانت مبادئ السلام والحرية والكرامة والمساواة هي التي جمعت المؤسسين معا لينشئوا منظمة دولية تعمل على إرساء تلك المبادئ. وقد رأى المؤسسون أن منع الحروب لا يكفي لإحلال السلام، لذلك أقيمت المنظمة الدولية على أعمدة ثلاثة كي تحقق الغاية القصوى من إنشائها للوصول إلى عالم أفضل وأكثر استقرارا وازدهارا تسوده علاقات الصداقة والتعاون والسلم والأمن. والأعمدة الثلاثة هي:
– السلم والأمن
– التنمية بمعناها الشامل
– احترام حقوق الإنسان
ولتحقيق هذه الأهداف أنشأت الأمم المتحدة شبكة واسعة من المنظمات والبرامج والصناديق الدولية المتخصصة، للتوجه نحو تحقيق باقة كبيرة من الأهداف التي يتفق على أهميتها المجتمع الدولي. كانت هناك إنجازات كبرى لبعض المنظمات المتخصصة، لكنّ هناك منظمات وبرامج وصناديق لم تتمكن من تحقيق كل المهمات التي ألقيت على عاتقها. وقد واجهت المنظمة الدولية مجموعة من التحديات الجديدة، التي لم تكن معروفة من قبل، أو لم تكن واضحة عند إنشاء المنظمة الدولية، إضافة إلى صعوبة توفير الإمكانيات المادية والعلمية والفنية لمواجهة تلك التحديات. وسنراجع باختصار تقييم الميادين الثلاثة التي قامت المنظمة لتحقيقها:
السلم والأمن الدوليان
ليس صحيحا أن الأمم المتحدة أخفقت في كل قضايا النزاع، لكن هناك ثلاثة شروط لتحقيق النجاح: أولا أن يكون هناك إجماع جدي وليس شكليا، بين أعضاء مجلس الأمن، خاصة الدول دائمة العضوية الخمس؛ وثانيا أن تكون هناك رغبة حقيقية لدى الأطراف المتنازعة للتعاون مع الأمم المتحدة، وقبول دور الوساطة الأممية، وتقديم التنازلات للوصول إلى حل وسط؛ وثالثا أن توفر الدول الأعضاء الإمكانيات المطلوبة لتحقيق السلام ووقف العدوان، وإعادة البناء وإيصال المساعدات الإنسانية. بدون هذه الشروط لا يمكن حل النزاعات وإعادة السلم للدول، أو الجماعات المتنازعة داخل حدود الدولة الواحدة أو العابرة للحدود. ولو طبقنا هذه القاعدة على النزاعات لعرفنا إذن لماذ نجحت الأمم المتحدة في حل النزاعات في كمبوديا وناميبيا وتيمور الشرقية والسلفادور ونيكاراغوا وغواتيمالا وهايتي وسيراليون وليبيريا وكوسوفو والكويت وساحل العاج. لكن الأمم المتحدة فشلت في حل الصراع العربي الإسرائيلي، وسوريا واليمن وليبيا والعراق، وأفغانستان وفيتنام وناغورنو كاراباخ وأوكرانيا وقبرص والبوسنة، وغيرها الكثير. إبحث عن الأسباب وستجد أن اللوم يقع على عاتق إحدى الدول الكبرى، أو مجموعة من الدول تتحالف مع أحد طرفي الصراع فتحوله إلى صراع بالوكالة، أو تحمي المعتدي بالفيتو، أو تقدم له إمكانيات القتال لمدة طويلة.
التنمية بمعناها الشامل
لقد أنشأت الأمم المتحدة منذ البداية المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لمساعدة الجمعية العامة في موضوع التنمية، وقد تشعبت مفاهيم التنمية مع مرور الزمن، وظهور العديد من التحديات لتشمل الصحة، ومحاربة الفقر، والتنمية المستدامة والتنمية الزراعية وترشيد النمو السكاني، والتعليم وتمكين المرأة وحماية الأطفال من النزاعات، وحماية اللاجئين والعمل على إعادتهم إلى مواطنهم، ومساعدة المهاجرين وحماية الطبيعة من التقلبات المناخية. كل الأمور متشابكة فلا تنمية بدون استقرار وتعليم وصحة وعلاقات دولية قائمة على الاحترام لتبادل المنافع والمعارف والتكنولوجيا. لهذا أنشأت الأمم المتحدة شبكة من المنظمات المتخصصة مثل منظمة الصحة العالمية، واليونسكو واليونسيف، ومنظمة الأغذية والزراعة، وبرنامج الأغذية العالمي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، ومنظمة التجارة العالمية، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، وغير ذلك الكثير. وقد بدأت الأمم المتحدة بتحديد معايير التنمية على المستوى العالمي، فاطلقت الأهداف الإنمائية للألفية 2000 -2015 ثم أهداف التنمية المستدامة 2015- 2030 للتقدم جماعيا نحو التنمية والاستقرار وكي لا يتخلف بلد عن الركب والانطلاق جماعيا نحو التصدي للتحديات العالمية معا.
حقوق الإنسان
مصطلح حقوق الإنسان ورد في ميثاق الأمم المتحدة عدة مرات من بينها البند الثالث في الفصل الأول حيث جاء في النص: «تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز، بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء». وقد أنشأت الأمم المتحدة لجنة حقوق الإنسان عام 1964 ثم عادت ووسعت الآلية بإنشاء «مجلس حقوق الإنسان» عام 2006. لكن حزمة القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مرت في ثلاث مراحل:
العالم الآن فعلا قرية صغيرة لا يشكو منه عضو إلا تداعت له بقية الأعضاء بالخوف والتأثر
أولا: حقوق الأفراد (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1965).
ثانيا: حقوق الجماعات، مثل حقوق المرأة والطفل والمهاجرين والسكان الأصليين.
وثالثا: الحقوق العالمية لكل السكان، مثل الحق في التنمية والحق في البيئة النظيفة. لقد تطور مفهوم حقوق الإنسان، وتوسع من حق الأفراد إلى الجماعات إلى سكان الأرض جميعا. وقد توصلت الأمم المتحدة إلى اتفاقيات دولية عظيمة في هذا المجال أسست لما نسميه «القانون الدولي لحقوق الإنسان».
إذن لا نستطيع أن نستعمل المسطرة نفسها لتقييم نجاحات وإخفاقات المنظمة الدولية في الميادين الثلاثة. لكننا نستطيع أن نعطيها علامات أعلى في موضوع التنمية ثم احترام حقوق الإنسان وأخيرا في ميدان الأمن والسلم الدوليين. وأود أن أذكر بأن من أهم إنجازات الأمم المتحدة، أنها منعت نشوب حرب كونية ثالثة بين الدول الكبرى، وساهمت في تصفية الاستعمار، حيث توسعت عضويتها من 51 دولة عند توقيع الميثاق إلى 193 دولة حاليا، وحاصرت وانتصرت على نظام الأبرثايد، ونظام الرق كما قضت على العديد من الأوبئة والأمراض، وساهمت في ترشيد الزيادة السكانية وحماية البيئة. كما توصلت إلى عدد من الصكوك القانونية المهمة التي أسست وتؤسس لصكوك «القانون الدولي» وأنشأت محكمتين واحدة لتقديم رأي قانوني في النزاعات، هي محكمة العدل الدولية، ثم الأخرى لمعاقبة مجرمي الحرب وهي المحكمة الجنائية الدولية.
لم يكن أحد يتوقع عام 1945 أن التحديات المناخية والكوارث الطبيعية والأوبئة الكونية، والإرهاب والجريمة المنظمة، والجرائم السايبرية، ستشكل تحديا لمجموع البشرية، إن لم يتم التحكم بها بسرعة. عدد اللاجئين والمشردين في عام 2020 قد زاد عن 65 مليونا، وعدد الجوعى دون خط الفقر يزيدون عن 800 مليون إنسان، والفقراء يزيدون عن المليارين. من كان يتوقع أن تنتشر جماعات إرهابية وظلامية تنشر الفكر العنصري، وتقتل بدون حساب. انظر إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا وكره الأجانب وإغلاق الحدود في وجوه المهاجرين. وانظر إلى التكنولوجيا الحديثة والبون الشاسع الذي خلقته بين الفقراء والأغنياء. العالم الآن فعلا قرية صغيرة لا يشكو منه عضو إلا تداعت له بقية الأعضاء بالخوف والتأثر. لم يعد أحد في مأمن من الكوارث الطبيعية، أو الإرهاب أو الكراهية، أو العنف أو الاتجار بالبشر، أو نشر المخدرات أو عسكرة الفضاء. لا يوجد أمام المجتمع الدولي خطة «ب». إذن لا بديل إلا التعاون الجماعي لحماية كوكب الأرض وحماية سكانه وأجياله القادمة من هذه التحديات الكونية، وإلا سيجدون أنفسهم وجها لوجه أمام كوكب آيل إلى التهلكة. فمن يقوم بكل هذه المهمات إلا منظمة عالمية فاعلة بحجم الأمم المتحدة؟
عبدالحميد صيام
القدس العربي