ما دلالة أن يصبح بايدن ثاني رئيس كاثوليكي في تاريخ أمريكا؟

ما دلالة أن يصبح بايدن ثاني رئيس كاثوليكي في تاريخ أمريكا؟

ثمة تفصيل حاسم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الراهنة، قد لا يتنبه الكثيرون إلى دلالاته الهامة، وهو أنّ جو بايدن يمكن أن يصبح ثاني رئيس كاثوليكي الولادة في تاريخ الولايات المتحدة، بعد الرئيس الـ35 جون فتزجيرالد كنيدي الذي ترأس خلال الفترة 1961 ـ 1963 وانتهت ولايته باغتياله. التاريخ، في المقابل، يشير إلى أربعة رؤساء من الطوائف اللاثالوثية Nontrinitarian، وإلى ثلاثة لم يُعرف لهم انتماء مذهبي (أندرو جاكسون، أبرهام لنكن، توماس جيفرسون) وأمّا بقية اللائحة (36 رئيساً) فهم من البروتستانت. المفارقة، إلى هذا، أنّ المرشح الرئاسي الديمقراطي بايدن لا يحظى، عموماً، بتأييد غالبية الناخبين الأمريكيين الكاثوليك؛ لأسباب تتجاوز تفضيل ابن المذهب الديني، وتصبّ في اعتبارات إيديولوجية وسياسية واجتماعية ودينية أخرى تخصّ مواقف بايدن الليبرالية إزاء مسائل الإجهاض أو المثليين أو الرعاية الصحية أو المهاجرين.
أكثر من هذا، تبدو ميول غالبية الناخبين الكاثوليك أقرب إلى الرئيس الأمريكي الحالي، وثمة اثنان على الأقلّ من كبار مليارديرات أمريكا الكاثوليك (كنيث لانغون وتوم موناغان) في صدارة لائحة المتبرعين لحملات دونالد ترامب؛ كما تشير إليزابيث برونيغ في مقالة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» مؤخراً. وفي سنة 2008 كان الأسقف جون ريكارد، كبير الأساقفة الكاثوليك في أمريكا، قد سطّر رسالة مفتوحة إلى بايدن، العضو يومذاك في مجلس الشيوخ، مشككاً في استحقاق الأخير للمناولة بالنظر إلى موقفه المعارض لتقييد حرية الإجهاض؛ الأمر الذي لم يتردد أساقفة آخرون في تنفيذه عملياً حين حرّموا المناولة على بايدن، في تشرين الأول (أكتوبر) 2019!
صحيح أنّ التمييز الذي عانى منه الكاثوليك في حياة أمريكا السياسية والإدارية والاجتماعية، وعلى مستوى الرئاسة بادئ ذي بدء، لا يُقارن بالتمييز ضدّ الأقليات الأخرى من السود والهسبان والآسيويين؛ إلا أنه تكفّل بشرخ الولايات المتحدة إلى مجتمعين، بروتستانتي وكاثوليكي، كما تستنتج برونيغ؛ ضمن تقسيم آخر يجعل البيض البروتستانت في موقع السيطرة على غالبية الفرص السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكلّ هذا على الرغم من انتماء الكاثوليك، إجمالاً، إلى الطبقة الوسطى، وإلى البشرة البيضاء، وإلى الكتلة العظمى من «القِيَم» و«المُثُل» التي يُقال عادة أنها تمثّل ثقافة الغرب. وعلى الرغم، أيضاً، من مضامين الحشد الديني العقائدي العالي، والمتعصب والمتشدد والاحتقاني، الذي تنطوي عليه حملات الكثير من المرشحين البروتستانت الجمهوريين والديمقراطيين على حدّ سواء، فضلاً عن اليمين ودعاة التفوق الأبيض والعنصرية.
وعلى سبيل المثال، في انتخابات 2016 التي تنافس فيها اثنان من البروتستانت، هيلاري كلنتون وترامب؛ نالت كلنتون 46٪ من أصوات الكاثوليك، و36٪ من البروتستانت؛ مقابل 59٪ و50٪ نالها ترامب. وعلى مستوى إيديولوجي، حصلت على تأييد 84٪ من الليبراليين، و52٪ من المعتدلين، و16٪ من المحافظين؛ ونال ترامب 10٪، و40٪ و81٪، للفئات الثلاث السابقة على التوالي. ولا يخفى أنّ عوامل أخرى عديدة تتدخل في تكييف ميول الناخبين، على خلفية الانتماء المسيحي المذهبي بين بروتستانت وكاثوليك؛ بينها الأصول، الأوروبية أو اللاتينية أو الأفريقية؛ والتوزّع الديمغرافي/ الجغرافي، وتأثيراته المختلفة؛ والقرائن السياسية المباشرة خلف التيارات الدينية، وخاصة في ضوء تأويلات التوراة وما يتفرع عنها من طوائف وفرق وجماعات…

لا جديد، استطراداً، في مشهد الشرخ البروتستانتي/ الكاثوليكي؛ سواء فاز بايدن وخسر ترامب، أو أسفرت الانتخابات عن نتيجة معاكسة. ستبقى معظم المياه القديمة راكدة في تلك المستنقعات!

وفي احتمال حدوث خلاف، من أيّ نوع في الواقع، وأياً كانت شدّته، بين الكنيسة البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكة؛ فإنّ الحلّ الأيسر والأسرع يتمثل في العودة إلى اعتبارات الهيمنة البروتستانتية منذ فجر الهجرات إلى أمريكا، وإلى طبيعة الدستور الذي يكفل الحريات، وإلى تاريخ غير قصير من التسامح (الذي لم يخلُ من عنف بالطبع). وأمّا إذا وقع الخلاف بين المسيحية إجمالاً واليهودية، على سبيل المثال شبه الحصري، فإنّ الكنيسة البروتستانتية تسارع إلى تقديم التنازلات لاعتبارات شتى؛ يمكن أن تبدأ من اشتراطات التوراة، الصحيحة أو الافتراضية، ولا تنتهي عند تأثيرات مجموعات الضغط اليهودية في ميادين مختلفة. الاشهر هنا قد يكون اضطرار الكنيسة البروتستانتية، في سنة 2014، إلى سحب كرّاس كانت قد وضعته على موقعها الرسمي، في شبكة الإنترنت؛ لأنّ منظمات يهودية أمريكية اعتبرته معادياً للعقيدة الصهيونية، ولدولة إسرائيل استطراداً؛ رغم أنه لم يتضمن أيّ عداء للديانة اليهودية ذاتها.
وكان الكرّاس، وعنوانه «صهيونية غير مستقرّة: دليل دراسة للرعايا» قد تمّ إعداده ونشره على الموقع لأغراض تعليميمة صرفة، ولخدمة أعضاء هذه الكنيسة العاملين في الشرق الأوسط عموماً، والأراضي الفلسطينية بصفة خاصة. لكنّ حملات استهداف الكرّاس انطلقت من وصف الصهيونية بـ«اللاهوت الزائف» والتذكير بأنّ الكنيسة البروتستانتية لم تعترف بهذه العقيدة أبداً. كذلك فإنّ الآداب الأمريكية الكلاسيكية، وخاصة في روايات هرمان ملفيل ومارك توين، توفّر مادّة خصبة حول فلسفة عتيقة تضرب بجذورها في الركائز العقائدية التي قام عليها أحد أبرز المعاني الرمزية لنشوء الولايات المتحدة الأمريكية؛ أي أنها «صهيون الجديدة» أو «كنعان الثانية». من جانب آخر، لا تكتفي التيّارات البروتستنتية الأصولية بالتبشير التوراتي القيامي وسيناريوهات عودة المخلّص بعد تهديم الهيكل، بل تتعداه إلى تشكيل ميليشيات دينية وسياسية مسلحة، يتردد أنها اليوم تُعدّ بالملايين في الولايات المتحدة وحدها. وهي تنتظم في سلسلة تحالفات عريضة، وتلتقي حول مناهضة الصيغة الفيدرالية للحكم في أمريكا، وتدعو إلى العنف كوسيلة كفاحية ضدّ ضد الطغيان الفيدرالي، ولا تجد حرجاً في اختيار أسمائها: «الأمم الآرية» «الوطنيون المسيحيون» «الهوية المسيحية» «رابطة البندقية الوطنية»…؛ ولا عجب أنها، في غالبية ساحقة، تؤيد ترامب، أياً كانت آثامه.
دلالات أن يصبح بايدن ثاني رئيس أمريكي كاثوليكي الولادة، لأنه في واقع الأمر ليس كاثوليكي العقيدة والسلوك، يمكن أن تعني المزيد من تعمّق الشرخ بين أمريكتين، واحدة بروتستانتية وأخرى كاثوليكية؛ دون أن يسفر تعميق هذه الحال عن تحولات ملموسة في المواقف العقائدية تجاه قضايا اجتماعية وسياسية وحقوقية مثار خلاف بين الليبراليين والمحافظين. وبهذا المعنى فإنّ استماتة ترامب، وخلفه الغالبية الساحقة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، في تسمية قاضية محافظة للمحكمة العليا بدلاً عن روث بادر غنسبورغ التي رحلت مؤخراً، لا يستهدف احتمالات اللجوء إلى هذه المحكمة لحسم الخلاف المتوقع حول نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، فحسب؛ بل يُراد منه أيضاً تعزيز الحضور الكاثوليكي المحافظ المحكمة: 5 من الكاثوليك، 3 من اليهود، 1 كاثوليكي التنشئة بروتستانتي الكنيسة؛ وكلا المرشحتين المنتظرتين، على لائحة ترامب لشغل العضوية، كاثوليكية أيضاً.
وهكذا، في خلاصة الأمر، لم يكن المكسب الذي تحقق لكاثوليك أمريكا بعد فوز كنيدي بالرئاسة انتصاراً دائم الأثر، أو عاملاً كفيلاً بتغيير قواعد اللعبة المذهبية المتأصلة في الانتخابات الأمريكية؛ والتي قضت أن يكون سيد البيت الأبيض بروتستانتياً، حتى إذا انكسرت قاعدة أخرى عتيقة متأصلة فوصل إلى سدّة السلطة الأعلى رجل أفرو ـ أمريكي مثل باراك أوباما. لا جديد، استطراداً، في مشهد الشرخ البروتستانتي/ الكاثوليكي؛ سواء فاز بايدن وخسر ترامب، أو أسفرت الانتخابات عن نتيجة معاكسة. ستبقى معظم المياه القديمة راكدة في تلك المستنقعات!

صبحي حديدي

القدس العربي