كلام بسيط للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقول فيه كلّ شيء ويختزل في الوقت نفسه الأزمة اللبنانية التي صارت أزمة مصيرية. ما على المحكّ مستقبل لبنان الذي يحكمه “حزب الله”.
هل يبقى لبنان أم يزول بعدما منع الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، الرجل العاقل الذي اسمه مصطفى أديب من تشكيل حكومة مصغرة من غير الحزبيين استنادا إلى مواصفات معيّنة؟ كانت مثل هذه الحكومة تمثّل أملا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أقلّه من أجل تمكين الجانب الفرنسي من فتح أبواب يستطيع لبنان من خلالها الحصول على مساعدات. قال ماكرون بالحرف الواحد وبأعلى صوته “لقد فضّلت القوى السياسية اللبنانية الفوضى على مساعدة لبنان وأضاعت شهراً من أمام الشعب اللبناني وجعلت من المستحيل تشكيل حكومة والبدء بالإصلاحات وتفاوضت بين بعضها على نصب الأفخاخ للآخرين وشدّدت على الطائفة على حساب الكفاءة”.
أكثر من ذلك سمّى الرئيس الفرنسي الأشياء بأسمائها عندما قال أيضا “لا يمكن لـحزب الله أن يكون جيشاً وميليشيا تشارك في حرب سوريا ويكون محترماً في لبنان وعليه احترام اللبنانيين جميعاً، وسأتصرف وفقاً للخيانة الجماعية من قبل القوى السياسية اللبنانية. جميعها تتحمل المسؤولية التي ستدفع ثمنها أمام الشعب اللبناني”. شرح لكل من يعنيه الأمر أنّ “الإصلاحات ضرورة وشرط لا بديل عنه كي يتمكن لبنان من الاستفادة من المساعدة الدولية. سننظم مع الأمم المتحدة مؤتمراً جديداً كمتابعة للمؤتمر الأوّل لتلبية الحاجات الصحية والتعليمية والسكنية. سأجمع أعضاء المجموعة الدولية لدعم لبنان للحصول على الدعم الدولي”.
تكمن المشكلة بكل بساطة في أن الرئيس الفرنسي يتكلّم لغة لا يفهمها معظم المسؤولين اللبنانيين. يتكلّم لغة العصر التي لا علاقة لهم بها من قريب أو بعيد. يعرف ما لا يعرفونه. يعرف قبل كلّ شيء معنى التفجير الذي حصل في ميناء بيروت يوم الرابع من آب – أغسطس الماضي. لعلّ أكثر ما يعرفه إيمانويل ماكرون الذي كان يعبّر بشفافية عن شعور كلّ لبناني أن ليس مطلوبا الذهاب بعيدا في إغراق لبنان في المأزق الإيراني الذي لن تستطيع “الجمهورية الإسلامية” الخروج منه يوما إذا لم تتغيّر كلّيا. لذلك كان تحذيره واضحا إلى “الثنائي الشيعي”، خصوصا أنّه بدأ يدرك أخيرا أنّ من يتحكّم بخيوط اللعبة هو “حزب الله” ولا أحد غير “حزب الله”. هل بدأ إيمانويل يكتشف أخيرا ما هو لبنان في “عهد حزب الله”، وأن عليه الإقدام على خطوة أخرى في الاتجاه الصحيح؟ تتمثّل هذه الخطوة في معرفة ماذا تريد إيران. كان على فرنسا التوجّه مباشرة إلى إيران وليس إلى “حزب الله”. كلّ مفاتيح اللعبة اللبنانية في طهران. كلّ ما تبقى إضاعة للوقت ليس إلّا.
يستطيع الرئيس الفرنسي إعطاء دروس في الوطنية والسياسة إلى كلّ المسؤولين اللبنانيين. يستطيع لعب دور أستاذ المدرسة في صفّ كلّ التلاميذ فيه من المشاغبين. لكنّ عليه في نهاية المطاف التوجه إلى حيث عليه التوجّه، أي إلى من يدير عملية الشغب. توجد بكل بساطة دولة اسمها إيران تعتبر أن لبنان جرم يدور في فلكها. النظام في هذه الدولة، أي في ايران، يلعب حاليا كلّ أوراقه. لبنان ورقة من أوراقه. لا يهمّه، على العكس من فرنسا، ما يحلّ بلبنان واللبنانيين.
يدلّ موقف رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون أكثر من أيّ شيء آخر على أن لبنان ليس سيّد قراره. أبدى عون “تمسّكه بالمبادرة الفرنسية” لدى استقباله السفير الفرنسي برونو فوشيه الذي جاء لتوديعه في مناسبة انتهاء مهمّته في لبنان. أقلّ ما يمكن قوله عن موقف رئيس الجمهورية أنّه كلام جميل لكنّه ليس في محلّه. ما الفارق إذا تمسّك بالمبادرة الفرنسية التي تقوم على أفكار بسيطة تتسم بالعقلانية وإذا لم يتمسّك بها؟ ما الفارق إذا تعاون مع المبادرة الفرنسية وإذا لم يتعاون؟ “حزب الله” هو من يقرّر… وقرار الحزب في طهران وليس في أيّ مكان آخر.
ما الذي يستطيع إيمانويل ماكرون عمله بعدما قال للبنانيين ما عليه قوله من زاوية الحرص على لبنان؟ ما الذي يستطيع عمله بعد اكتشافه أن لا وجود في لبنان لمن يفكّر بإصلاحات حقيقية وأن البلد رهينة عند إيران. ألم يسمع بما قاله محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني في أثناء زيارته الأخيرة لموسكو؟ سأل ظريف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: ماذا يفعل ماكرون في لبنان؟
تبدو المعادلة في غاية البساطة. هناك رهان إيراني على رحيل دونالد ترامب من البيت الأبيض وحلول الديمقراطي جو بايدن مكانه. من الآن إلى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية ستحاول إيران المحافظة على كلّ ما لديها من أوراق في المنطقة. تعتقد أن هذه الأوراق، بما في ذلك ورقة لبنان، ستساعدها في التوصل إلى صفقة مع “الشيطان الأكبر” شبيهة بصفقة صيف العام 2015 مع إدارة باراك أوباما الذي اختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط والخليج وأزماتهما بالملفّ النووي الإيراني.
كلّ ما على إيمانويل عمله هو ممارسة لعبة الانتظار التي فرضتها إيران. انضمّ إلى الذين ينتظرون هل سيتغيّر ترامب أم لا. اكتشف أخيرا ما هو لبنان في السنة 2020 وماذا يعني أن تسيطر إيران على البلد وأن تقرّر من هو رئيس الجمهورية الماروني وما إذا كان في استطاعة رجل آدمي وخلوق مثل مصطفى أديب تشكيل حكومة أم لا؟
من الآن إلى موعد الانتخابات الأميركية في الثالث من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل، يحتمل أن يتدهور الوضع في لبنان أكثر. لا يمكن سوى توقع مزيد من التدهور في بلد ليس فيه من هو قادر على تحمّل أي مسؤولية من أيّ نوع. لا يوجد على رأس هرم السلطة من يعرف معنى انهيار النظام المصرفي والنتائج التي ستترتب على تفجير ميناء بيروت. لا يوجد من يعي معنى أن يتحكّم بالبلد طرف لا تهمّه سوى مصلحة إيران ولا شيء آخر غير مصلحة إيران. هذا ما كان مفترضا بالرئيس الفرنسي أن يكون على علم تام به قبل إطلاق مبادرته اللبنانية التي لم تأخذ في الاعتبار أن “الجمهورية الإسلامية” لا تأبه بفرنسا التي لا تمتلك أي قدرة على ممارسة أي ضغط عليها في أي مكان كان…
صحيفة العرب