عن عالم كيسنجر: التراجيديا المحتَّمة

عن عالم كيسنجر: التراجيديا المحتَّمة

طال العمر بهنري كيسنجر. فهو الآن في السابعة والتسعين، وما زال يعتبر عند مثقفي العالم الغربي أكثر رجال الدولة والدبلوماسية الباقين على قيد الحياة تأثيراً في صياغة واقع عالمنا المعاصر – وقد صوّت أساتذة علوم السياسة وباحثوها عبر الجامعات الأميركية عام 2014 على اعتباره أكثر وزراء الخارجية فعالية خلال الخمسين سنة الأخيرة، ولا يزال كبار متعاطي السياسة في الولايات المتحدة على تنوع اتجاهاتهم يطلبون مشورته ورأيه فيما يستعصي عليهم من الأمور، رغم أنه لا يحتفظ بأي منصب رسمي، فهذا ديك تشيني – الذي تولى منصب نائب الرئيس قال حينها: «ربما أنا أتشاور مع هنري كيسنجر أكثر من أي أحد آخر»، وهذه هيلاري كلينتون كتبت «كيسنجر صديق مقرّب وكنت لا أستغني عن نصائحه عندما كنت أتولى منصب وزيرة الخارجيّة»، وكثيراً ما شوهد في زيارات متكررة لسكان البيت الأبيض: من كارتر إلى ريغان، ومن جورج دبيليو بوش إلى ترمب اليوم.

تمتع كيسنجر دائماً في المخيال الغربي بمكانة وشهرة لم يسبقها إليه ربما سوى نجوم الفكر السياسي في العصور الأوروبية ما قبل الحديثة ميكافيللي وريشيليو وماتزييني، ومن دون أدنى شك هو أهم من تولى مناصب وزير الخارجية ومستشار الأمن الأمني في تاريخ الدولة الأميركية، وكان يسمى داخل أوساط ثعالب السياسة في وزارة الخارجيّة البريطانيّة بـ«عرّاف العالم الغربي»، وقد حصل على جائزة نوبل للسلام (1973)، وعلى أعلى جائزة للكتاّب في بلاده (الجائزة الوطنيّة للكتاب – 1980) عن مؤلفاته – المرجعية لمثقفي الغرب وواسعة الانتشار -، وتلك مكانة لا بأس بها لأكاديمي تخصصه الدّقيق تاريخ مؤتمر فيينا، ومهاجر من ألمانيا المدمّرة بالحروب إلى العالم الجديد.

ومع مطلق النجوميّة تلك، فإن كيسنجر وسياساته لم تكن موضع اتفاق أبداً لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها، ولا أيّام توليه المناصب الرسمية ولا بعد تركها، وطالما تعرضت مواقفه لانتقادات من اليمين الأميركي قبل اليسار بوصفها غير أخلاقيّة وذرائعية ومرحليّة، كل بحسب مرجعيته الآيديولوجية.

البعض رآه مجرم حرب موغلاً في دماء الملايين وظّف إمكانات دولة العالم الأعظم لفرض الهيمنة على الشعوب الفقيرة وتدمير مجتمعات كاملة من لاوس وكمبوديا إلى فيتنام، ومن تشيلي إلى بنغلاديش دون أن يرفّ له جفن، ناهيك بالطبع عن آلاف القتلى والمعوقين من الشبان الأميركيين ومنهم بيرني ساندرز المرشّح الرئاسي السابق عن الحزب الديمقراطي الذي صرّح خلال جدال انتخابي هذا العام بأنّه «فخور بكونه ليس صديقاً لهنري كيسنجر»، فيما اعتبره البعض الآخر مسؤولاً عن تراجع هيبة الولايات المتحدة في العالم نتيجة دفعه باتجاه الحلول الدبلوماسية عبر القنوات الخلفيّة بدل فرض نفوذ الإمبراطورية من خلال فائض القوة الهائل – ومنهم الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان في خطابه أمام مؤتمر الحزب الجمهوري 1976 – الذي اتهمه والرئيس جيرالد فورد بتعريض الولايات المتحدة للخطر، وربما الاندثار بعدما تسببا بتوجهاتهما المهادنة بتراجع بلادهما إلى المركز الثاني في مواجهة القوة العسكريّة السوفياتية.

هذا التفاوت الحاد في النظرة إلى الرجل وتقييم أعماله انعكست بالضرورة على الكتب التي رصدت تجربته فانحازت إلى طرفي النقيض، لكن أغلب نتاجات المؤسسة الثقافيّة الرسميّة كانت متعاطفة معه، بل هناك مؤخراً موجة مستجدة من رؤية أكثر تفهماً لواقعية السياسة الكيسنجريّة وتقبلاً لهفواتها الأخلاقيّة لمصلحة أهميتها الفائقة في تحقيق انتهاء الحرب الباردة لمصلحة المنظومة الرأسماليّة – الأميركيّة، ومنها مؤخراً السيرة التي وضعها له الأكاديمي اليميني البريطاني نيل فيرجسون وطوَّبه فيها نبياً للمثاليّات. ولذلك فإن كتاب باري غيوين – المحرر بـ«نيويورك تايمز» – الصادر حديثاً «التراجيديا المحتّمة: هنري كيسنجر وعالمه*» يبدو الأكثر توازناً إلى الآن ويقدّم قراءة أعمق للمنهجيّة الكيسنجريّة – إن جاز التعبير – ويضعها في سياقات قابلة لاستخلاص العبر – أقلّه من قبل الساسة الغربيين المعاصرين – : نظرته إلى التاريخ وفهمه لديناميكيات القوّة، وموقفه من الديمقراطيّة، ومنهجيته في تحقيق الغايات الاستراتيجية بغض النظر عن طبيعة الوسائل المستخدمة في ذلك، وتصوره للنظام السياسي العالمي.

ليس نص غيوين (نحو 450 صفحة) بسيرة ذاتيّة لكيسنجر الشخص من المهد إلى اللحد بقدر ما هو متابعة للرحلة الفكرية للرجل خلال المراحل المختلفة لحياته من بداياته الأكاديميّة بجامعة هارفارد – معاصراً لرفاق مثل زيبيغنيو بريجنسكي وصمويل هانتغتون وستانلي هوفمان وآرثر شليزنجر جونيور – مروراً بتجربة السلطة في خدمة الرئيسين نيكسون وفورد، وانتهاء بدوره لاحقاً كعرّاف و(شامان) يستعان برأيه في إدارة واشنطن لأوجاع العالم. ولذلك يتضاءل الجانب الشخصي المحض عن «العزيز هنري» – كما كان يدعوه تحبباً الرئيس المصري الراحل أنور السادات – لمصلحة استنطاق للفلسفة السياسية الواقعيّة التي تستهدف الحفاظ على المصالح القوميّة العليا للولايات المتحدة ببناء توازنات للقوى الدوليّة تضمن عقلنة الصراعات، وترشيدها في إطارات خطوط حمراء وخوضها دائماً ضمن منظور طويل المدى بدلاً من الوقوع في مطبات اللحظي والمرحلي والعابر.

غيوين يرى أن تجربة كيسنجر لا يمكن فهمها دون إدراك تأثره العميق بمعضلة صراعات القوة والنفوذ في أوروبا ما قبل الحرب العالميّة الثانية، وتلك الهشاشة المفرطة للنظام الديمقراطي الذي أمكن للقوى الفاشية في غير ما بلد تسلقه لإنهاء الديمقراطيّة الليبرالية وانتخاب الديكتاتوريين، ومن ثم الدخول في صراعات طاحنة ضد برغوازيات الدول الأخرى كانت أثمانها البشريّة والمادية فادحة ومؤلمة. وهو من خبرته الشخصيّة تلك طعّم السياسة الخارجيّة الأميركيّة بواقعيّة عملانيّة جريئة وازاها فكريّاً في ميادين العلوم النظريّة والمعارف الأخرى جيل المثقفين اليهود الذين هاجروا من أوروبا الرايخ الثالث واتخذوا الولايات المتحدة وطناً جديداً: حنة أريندت وليو ستراوس وهانز مورغينثاو وغيرهم الذين خلصوا بطرق مختلفة إلى النتيجة نفسها: البشر، يمكن خداعهم وسوقهم لخدمة الديماغوجيّات وليسوا بقادرين على مواجهة الشر أو حتى رؤيته أحياناً.

ولا شكّ أن كيسنجر كان أكثر بصيرة من صقور النخبة الأميركيّة بإحساسه المتشائم بالتراجيديا المحتمّة، إذ أدرك أن جبروت الإمبراطوريّات ليس دائماً، إذ هي تتجه حتماً إلى السقوط (روما القديمة) أو الضعف (بريطانيا المعاصرة)، مما يستدعي البحث عن طرائق غير القوة العسكريّة المحضة لتمديد الهيمنة، وهي عنده في بناء توازنات لقوى متقاطعة ومتنافسة في نوع من نظام عالمي يضمن أن أي منها لن يكون قادراً على مواجهة الولايات المتحدة في أي وقت قريب. فبدلاً من معاداة الكتلة الشيوعيّة كقطعة صماء واحدة مثلاً، كان كيسنجر وراء نظريّة منع التحالف بين الصين والاتحاد السوفياتي عبر التقارب مع بكين، وكذلك دعوته المتكررة سابقاً واليوم في تحجيم المنافسة الحادة مع العملاق الصيني الصاعد، لأن ذلك سيكون بشكل أو آخر ترجيحاً لكفة العناصر المتصلبة والصقور الذين قد يصبحون أعظم نفوذاً وأكثر عداءً للولايات المتحدة، والاشتباك الإيجابي مع روسيا لمنع تصاعد خطر مواجهة نووية ديستوبيّة، وخوض حروب تقليم الأظافر الإقليميّة كوجه آخر للدبلوماسيّة وضمن حدود وقواعد اشتباك لمنع تدحرجها في مواجهة كارثيّة بين الدول الكبرى.

إذا وضعنا أكوام الجثث التي تسببت بها سياسات كيسنجر وقتها جانباً، فإن هذه الواقعيّة لسياسته الباردة تبدو شديدة العقلانيّة مقارنة بالتوجهات الحاليّة لإدارة الرئيس ترمب.

غيوين مع دفاعه عن سياسات كيسنجر الدمويّة في جنوبي شرق آسيا وأميركا الجنوبيّة بوصفها ضرورات استراتيجية وتكاليف لا بد من دفعها لضمان استمرار توازن القوى العالمي على حاله لمصلحة تأبيد هيمنة الولايات المتحدة ومنع انكسارها فإنه مع ذلك يُبقي مسافة نقديّة من موضوع كتابه، تسمح له باعتبار العقل الاستراتيجي في الثنائي نيكسون – كيسنجر، كان الأول فيما كانت عبقريّة الثاني وراء تنفيذ الاستراتيجيّات وتحويلها إلى مكاسب للمشروع الأميركي. العارفون بدواخل إدارة نيكسون يعلمون بأن الرئيس – بصفته الشخصيّة كصديق – دعاه لطلب معالجة سيكولوجية تخفف من جلواء هستيريا صراعات القوة التي استحوذت عليه.

ينقل جون فاريل من «نيويورك تايمز» عن كيسنجر إعجابه الشديد بشخصيّة الكاردينال ريشيليو. والأخير كان داهية سياسة، قال عنه البابا أوروبان الثامن يوماً «إذا كان ثمّة إله يحكم هذه الدنيا فإن الكاردينال سيواجه حساباً عسيراً على ما ارتكبت يداه، وبعكس ذلك فإنّه سيكون قد عاش حياة صاخبة أصاب فيها من النجاح». البابا لن يجد بالطبع كلمات أفضل لوصف كيسنجر لو كان التقاه.

ندى حطيط

الشرق الأوسط