إعلان إسرائيل قرارها بناء آلاف الوحدات الاستعمارية الاستيطانية الجديدة هو ممارسة للضم الفعلي على الأرض، وهو يمثل النفي القاطع للادعاءات بأن معاهدات التطبيع مع إسرائيل أوقفت ضم أراضي الضفة الغربية المحتلة، بل إن التطبيع في الواقع رفع وتيرة الاستيطان، وزاد من التطرّف العنصري اليميني الإسرائيلي، وعزز نواياه تنفيذ الضم.
تقع الوحدات الجديدة التي أُعلن عن قرار بنائها في مناطق حساسة للغاية في الضفة الغربية، فتوسيع مستعمرة معاليه أدوميم يعني قضم أراضي المنطقة المسمّاة E1، وتوسيع الاستيطان فيها يعني شطر الضفة الغربية نهائياً إلى شطرين، والقضاء النهائي على فكرة دولة فلسطينية متواصلة وحقيقية، بالإضافة إلى أنه يمثل ربطاً لمستعمرات الأغوار بمستعمرات القدس في إطار مخطط الضم. أما الوحدات التي ستبنى في مستعمرة “بيت إيل” فتعني توسيع المستعمرة الكبرى الواقعة في قلب الضفة الغربية، وعلى بعد بضع مئات من الأمتار من المقاطعة أو مقر السلطة الفلسطينية، وهي المستعمرة التي أنشئت أصلاً مركزا لقيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتم تحويلها، بعد مصادرة آلاف الدونمات الفلسطينية، من مستعمرة عسكرية إلى مستعمرة مدنية وعسكرية، أصبحت ملاصقة، وملاحقة بالقمع، لمخيم الجلزون للاجئين الفلسطينيين.
أما البناء في مستعمرتي جيلو وافرات فيعني تطويق مدينة بيت لحم بالكامل، وعزل قراها ومحاصرتها، في إطار مخطط تجزئة الضفة الغربية إلى 224 جيتو معزول. وستساهم الوحدات التي ستبنى في مستعمرة قرنيه شمرون في تعميق تقطيع أوصال محافظتي سلفيت وقلقيلية، وهي بالمناسبة مستعمرة أنشئت في العام نفسه الذي وقع فيه اتفاق كامب ديفيد. أما مستعمرة نيكوديم فستواصل خنق قرى شرق بيت لحم، ومنها قرية جب الديب المحاطة بثلاث مستعمرات، والتي تصارع يومياً من أجل البقاء. وتستخدم الوحدات الاستيطانية في مستعمرة تلمون لسلب (وضم) الأراضي الزراعية التابعة لقرى راس كركر، والمزرعة القبلية، ودير عمار في منطقة رام الله.
ما تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية، من دون رادع، مطابق لما فعلته بالأراضي التي احتلتها عام 1948
هذه مجرّد نماذج لما تقوم به إسرائيل عبر الاستعمار الاستيطاني، ولا يحتاج الإنسان لذكاء خارق كي يكتشف أن ما تقوم به إسرائيل في الضفة الغربية، من دون رادع، مطابق لما فعلته بالأراضي التي احتلتها عام 1948، في يافا وحيفا وعكا وصفد والجليل والمثلث والنقب. المخطط نفسه والأهداف نفسها التي اكتسبت زخماً كبيراً بسبب تقاعس المجتمع الدولي عن تطبيق القانون الدولي، وبسبب انكفاء التضامن العربي، وتسارع عمليات التطبيع، وبسبب استمرار الانقسام الداخلي الفلسطيني.
لا تحتاج إسرائيل للإعلان الرسمي عن الضم، ما دامت تنفذه فعلياً، مع كل مستعمرة تنشأ، ومع كل وحدة استيطانية تُبنى، ومع كل تغيير للأمر الواقع على الأرض. وما من أمر أكثر غرابةً، في ظل هذه الأحداث، من الترقب والمراهنة على الانتخابات الرئاسية الأميركية، مع أن القاصي والداني يعرفان أن ترامب إن نجح سيدفع عملية الضم إلى نهايتها، وأن بايدن لن يوقف (أو يفكّك) مستعمرة استيطانية واحدة، بل سيواصل كلاهما الدعم الاستراتيجي المطلق لإسرائيل ونظامها العنصري، وسيواصلان الاعتراف بضم إسرائيل للقدس المحتلة والجولان، وتوفير الغطاء لها في كل المحافل الدولية. الفرق الوحيد، بينهما ربما، سيكون أن ترامب سيغلق الباب نهائياً في وجه ما تسمى “المفاوضات”، إلا إذا كانت مفاوضات للاستسلام، بينما سيضغط بايدن من أجل إعادة الفلسطينيين إلى حظيرة “عملية السلام” بديلا للسلام، وإلى “ساحة المفاوضات” بديلا للحل، لتكرار ما جرى طوال الأعوام السبعة وعشرين الماضية منذ وقع اتفاق أوسلو، ومنح الوقت لإسرائيل لاستكمال الضم والتهويد، ولاستكمال قتل فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولترسيخ نظام الأبارتهايد العنصري، والتخطيط لترحيل أكبر عدد من الفلسطينيين عن أرض وطنهم.
لن ترتدع إسرائيل، إلا إذا جوبهت بمقاومة شعبية موحدة وفعالة، وحركة مقاطعة عالمية قوية ومؤثرة
ما تؤكّده هذه الأحداث أن الفلسطينيين ليسوا في مرحلة حل الصراع، بل في ذروة خوضه، وأن فكرة الحل الوسط مع الحركة الصهيونية لا وجود لها في عقل حكام إسرائيل ومخططي الحركة الصهيونية، وأن المجتمع الدولي كالعادة لن يتحرّك ما لم ير معالم أزمة تنفجر على أرض الصراع. وما أكّدته الأحداث أن الوضع الفلسطيني لن يتغير ما لم يتم تحقيق أمرين: إنهاء فعلي وسريع لحالة الانقسام الداخلي، لصالح تغليب مشروع النضال الوطني على حالة التنافس والصراع على سلطة تحت الاحتلال. وإنهاء المراهنة على نهج المفاوضات والتنصل النهائي من اتفاقيات أوسلو، وتبني استراتيجية وطنية كفاحية بديلة. وكلا الأمرين ضروري لاستعادة ثقة الشعب والجماهير الفلسطينية التي ملّت مسلسل المصالحات التي لا تنتهي إلى نتائج، وصارت تكره فكرة الدوران في حلقاتٍ مفرغة، وهي لن تصدق شيئاً نظرياً ما لم تره يطبق فعلياً على أرض الواقع.
يجب إنهاء المراهنة على نهج المفاوضات والتنصل النهائي من اتفاقيات أوسلو، وتبني استراتيجية وطنية كفاحية بديلة
بعد صفقة القرن، ومعاهدات التطبيع، ومشاريع الضم، نشأ أملٌ بأن القوى الفلسطينية اتعظت، وأدركت أن لا خلاص لها، إلا بوحدتها، وبناء منظومة قائمة على مبدأي الشراكة والديمقراطية. وعلى الرغم من أن الأمل ما زال قائماً، إلا أن بطء الخطوات، وارتباكها، وفتح الأبواب للضغوط الخارجية، يهدّد بزوال هذا الأمل، وهو ما يراهن عليه نتنياهو والمنظومة الصهيونية وكل أعداء الشعب الفلسطيني. وما من حكمة أكثر صحةً في ظروف الشعب الفلسطيني من “ما حكّ جلدك مثل ظفرك”، ولن ينفع الفلسطينيين أحد في عصر المصالح، إن لم ينفعوا أنفسهم. ولن ترتدع إسرائيل، إلا إذا جوبهت بمقاومة شعبية موحدة وفعالة، وحركة مقاطعة عالمية قوية ومؤثرة.
مصطفى البرغوثي
العربي الجديد