مشاكل إيران الداخلية في ظل الضغط الأمريكي

مشاكل إيران الداخلية في ظل الضغط الأمريكي

حتى في غياب التوقيع الأخير على صفقة التطبيع بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين وإسرائيل، ازدادت العلاقة المثيرة للجدل بين الولايات المتحدة وإيران توترًا، وذلك في وقت تواجه فيه إيران تحديات كبيرة أمام نجاحها الاستراتيجي في المنطقة. ولا تزال البلاد تحاول التكيف في أعقاب عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في مطلع العام الحالي، والتي شكلت إحدى أبرز التحديات الأمنية التي عاشتها إيران في الآونة الأخيرة. وتبرز قيمة هذا التحدي عند قراءة مسرح العمليات الإستراتيجية التي كان يتحرك فيها سليماني، وحجم الملفات العسكرية التي كان يشرف عليها، وعدد الجماعات والمليشيات المسلحة التي كان يديرها، وهو ما ترك إرث ثقيل جداً لخليفته في قيادة فيلق القدس إسماعيل قآني، أو من يلقبونه بالجنرال الشامي.

واجه قآني ظروف أمنية صعبة خلال الفترة الماضية، فهو مطالب بإدامة الفعل الإستراتيجي الإيراني بالوتيرة ذاتها التي كانت عليها خلال سنوات سليماني، خصوصاً في العراق وسوريا واليمن ولبنان، أضف الى ذلك، فرضت جائحة كورونا والعقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة تحديات كبيرة على إيران. علاوة على ذلك، شكلت اتفاقيات السلام بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل من جهة، ومحادثات السلام بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية من جهة أخرى، إستراتيجية أمريكية ناجعة لإحاطة إيران “بحزام سلام” يحتويها في داخل حدودها. وعلى هذا الأساس ينظر قآني بأن الدفاع والحفاظ على المشروع الإستراتيجي الإيراني من خطر التهديد أو الاندثار، يشكل قيمة عليا ينبغي الحفاظ عليها.

وفى حين استمرت إيران في ممارسة نفوذها في الخارج، لا سيما بين السكان الشيعة في الدول العربية، سعت الولايات المتحدة إلى كبح هذا النفوذ وإجبار إيران على تغيير سلوكها التوسعي. كما عملت على استخدام التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج العربية، بغية قطع أوصال أحزمة إيران الجغرافية التي تمتد من اليمن حتى البحر الأبيض المتوسط، ومن جنوب شرق آسيا حتى شمال إفريقيا، فيما يعرف بالهلال الشيعي. تأمل إيران أيضا في الحفاظ على إمكانية التواصل مع المجتمعات الشيعية في الخليج التي تمثل حلقة وصل تربطها بمصالحها الإستراتيجية في جميع أنحاء المنطقة. ومع ذلك، وضعت اتفاقيات التطبيع النفوذ الإيراني في منطقة الخليج موضع تساؤل. وبالمثل، تواجه إيران صعوبات كثيرة في سوريا ولبنان والعراق، حيث تشير العقوبات الأمريكية المفروضة على وكلاء إيران والاحتجاجات التي اندلعت ضدهم إلى تراجع نفوذها هناك.

داخل إيراني متأزم

عند النظر إلى طبيعة النظام السياسي الإيراني، نجد انه يعاني من تحديات كبيرة، أبرزها تحدي الخلافة والقيادة، وتحدي الشرعية التاريخية للحرس الثوري، وهي تحديات كافية لتشكل مصدر قلق مزمن للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. وعلى الرغم من نجاح التيار المحافظ في الهيمنة على مجلس الشورى الإيراني في انتخابات فبراير 2020، والتغيرات العسكرية التي قام بها خامنئي في الحرس الثوري، إلا إنها ليست كافية لتهدئة الداخل وتحقيق الاستقرار، خصوصاً وإن هناك شارع إيراني بدأ متحمساً اليوم للتفاعل مع أي جهد دولي للإطاحة بالنظام الحاكم في طهران.

على هذا النحو، تتطلع إيران إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في يونيو 2021 بترقب كبير، حيث يمكن القول هنا إن نوعية الرئيس القادم في إيران، ستتوقف بنسبة كبيرة على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر عقدها خلال أسابيع. وتتركز أغلب ترشيحات التيار المحافظ على ثلاثة شخصيات هم على باقري كني، وعلى شمخاني، و برويز فتاح. (باقري كني) مقرب من خامنئي ودبلوماسي سابق، و(على شمخاني)، وهو السكرتير الحالي للمجلس الأعلى للأمن القومي وشغل منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، وله دور بارز في القضاء على الحركات المعارضة للثورة الإسلامية سنة 1979. وينحدر من مدينة الأحواز. وهناك أيضا (برويز فتاح)، وهو عضو في الحرس الثوري ورئيس “مؤسسة المستضعفين”، المعروفة أيضا باسم “بنياد”. ورغم الحديث عن احتمال خوض إبراهيم رئيسي الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلا أنه قد يطمح في منصب المرشد الأعلى، ما يتركه غير مهتم بالرئاسة.

وفي مقابل مرشحي التيار المحافظ، يدفع التيار الإصلاحي أيضاً بمرشحيه لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، ورغم قلة حظوظهم، إلا إنهم يعولون على أن تأتي الانتخابات الرئاسية الأمريكية بجديد، والحديث هنا عن المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن. ومن أبرز مرشحي هذا التيار (محمد رضا عارف)، والذي يتفاخر مراراً بالانسحاب من الانتخابات الرئاسية الحادية عشرة لصالح حسن روحاني، ويبدو أنه حريص على تجربة حظه مرة أخرى، فضلاً عن إنه شغل سابقاً رئيس لمجلس السياسات في التيار الإصلاحي. والمرشح الآخر هو (علي لاريجاني) رئيس مجلس الشورى السابق، وكان في السابق كبير المفاوضين الإيرانيين في المسائل المتعلقة بالأمن القومي كالبرنامج النووي الإيراني، أما المرشح الثالث فهو (إسحاق جهنغيري) النائب الأول لرئيس الجمهورية في حكومة الروحاني، وكان يشغل منصب وزارة الصناعة والمناجم في حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمي.

على الرغم من أنه من المرجح فوز التيار المحافظ في الوقت الحالي، إلا أنه لا يزال من الممكن تؤثر الانتخابات الامريكية هذا العام بشكل بصورة مباشرة على الانتخابات الرئاسية الإيرانية. ففي حالة فوز ترامب بولاية ثانية، فإن هذا يعني بأن إيران ستكون أمام أربع سنوات قادمة من التصعيد، سواءً عبر مزيد من العقوبات الاقتصادية، أو مزيداً من الضغوط السياسية. أما في حالة فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن، فعندها يمكن الحديث عن أرضية جديدة للحوار، وذلك عطفاً على ما أعلن عنه بايدن في حملته الانتخابية.

كما أن بدء المحادثات تحت إدارة بايدن، ستتوقف بشكل كبير على طبيعة الفريق الرئاسي الذي سيكون حوله، وفي كلتا الحالتين فقد عبرت إيران عن هذه المسألة بوضوح، عندما أشارت التصريحات الرسمية للمسؤولين الإيرانيين، بأن الانتخابات الأمريكية لن تغير كثيراً من السلوك الأمريكي حيال إيران، طالما إن الموضوع أصبح لا يخضع فقط للعلاقات الأمريكية الإيرانية، وإنما يشمل الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وهو أمر تشترك فيه دول الخليج وإسرائيل أيضاً.

قد تكون هوية رئيس إيران المستقبلي مسائلة تمثل أهمية كبيرة وذلك بالنظر إلى المصير غير المؤكد الذي يواجه النظام السياسي الأوسع في إيران. فيمكن القول إن منصب الولي الفقيه ذاته يواجه تحدي البقاء أو الإلغاء بعد وفاة خامنئي، إذا ما استمرت الضغوط الشعبية والإقليمية بالتصاعد، وهل ستكون أمام ولاية الفقهاء، أم مجلس قيادة، أو أن يتم ألغاء المنصب، وتحويل صلاحيات المرشد الأعلى لرئيس جمهورية متشدد وثوري، كلها سيناريوهات صارت مطروحة اليوم في الداخل الإيراني. وحتى اللحظة لم يتمكن خامنئي من تعديل خلل القيادة الذي أصاب المؤسسات السياسية الدينية بعد إغتيال سليماني، إذ كان من المفترض أن يكون سليماني، إما قائداً للحرس أو رئيساً للجمهورية، كما كان يطمح خامنئي، إلا إن عملية الاغتيال بعثرت خيارات خامنئي، ولم يتمكن قآني حتى اللحظة الفوز بثقة خامنئي المطلقة

إضافة لتلك الضغوطات، يعاني الشارع الإيراني اليوم من تحديات اقتصادية واجتماعية وصحية صعبة للغاية، ونظراً لفشل الحكومة الإيرانية في معالجة التداعيات الخطيرة لجائحة كورونا، فضلاً عن عدم إيجاد حلول فاعلة لمواجهة تأثيرات العقوبات الأمريكية، وجد المواطن الإيراني نفسه محكوماً بخيار النزول للشارع للمطالبة بالتغيير وتحدي السطوة الأمنية للقوات الإيرانية. كما كشفت الحكومة الإيرانية عن قلقها إزاء هذه الاحتجاجات من خلال إعدام المصارع الإيراني نويد افكاري بسبب مشاركته في المظاهرات الاحتجاجية في 2018، فضلاً عن تشكيل وحدات ضاربة في أحياء طهران المختلف من أجل أيقاف حدة التظاهرات.

ماذا تنتظر الولايات المتحدة؟

بالنظر إلى المآزق الداخلي والخارجي الذى تعانى منه ايران، يبدو أن الوقت قد حان للتوصل إلى اتفاق أمريكي إيراني جديد، حيث أثارت تغريدة نشرها خامنئي تكهنات في وسائل إعلام إيرانية معارضة، بشأن إمكانية عودة طهران لإظهار “مرونة” مجدداً حيال واشنطن، والمرونة التي تحدث عنها خامنئي، تعكس بدورها الضعف الذي يعتري النظام الإيراني بعد مقتل سليماني، وسبق تغريدة خامنئي؛ تحرك من قبل وزير الخارجية محمد جواد ظريف، إذ أرسل خطاباً إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يعلن فيه استعداد إيران للانخراط في “أي مستوى من المحادثات، حرصاً على تطبيق بنود الاتفاق النووي بأكملها”.

وبناءً على ذلك، تنتظر الولايات المتحدة طلباً إيرانياً بالجلوس على طاولة المفاوضات من جديد، إذ أعلن الرئيس ترامب في 15 سبتمبر خلال اجتماعين منفصلين له مع وزير الخارجية الإماراتي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، قبيل مراسم توقيع الإمارات والبحرين لاتفاق السلام مع إسرائيل في البيت الأبيض، أته على استعداد للدخول في صفقة جديدة مع إيران حال فوزه بفترة رئاسية أخرى. كما قال ترامب خلال لقاء مع وزير الخارجية الإماراتي محمد بن زايد: “سنرى ما يحدث مع إيران، سأقول إنه عقب الانتخابات، ربما في غضون أسبوع، ربما في غضون شهر، ستعود إيران وتقول دعونا نحل هذا الأمر بأكمله”، وأضاف: “إيران تعاني، أعتقد أنهم يريدون عقد صفقة، لكنهم يفضلون التعامل مع جو بايدن النعسان أكثر مني، لأنه كما تعرفون سنعقد صفقة وسأعقد صفقة عادلة جداً”

إن نجاح الولايات المتحدة في توسيع مسارات الضغط على إيران، سياسياً واقتصاديا وعسكرياً، قد تؤدي إلى هذه النتيجة بالنهاية، خصوصاً إذا ما تمخضت اتفاقات السلام مع إسرائيل، عن دخول إسرائيل في شراكات أمنية موسعة مع دول الخليج، ومن ثم الوقوف قبالة السواحل الإيرانية، عندها ستفقد إيران الميزة الجغرافية التي حصلت عليها في سوريا ولبنان، أو حتى في مضيق باب المندب، وستتفرغ عندها الولايات المتحدة لمواجهة الصعود الصيني في آسيا، والمارد الروسي في الشرق الأوسط، بالإطار الذي يحقق بيئة إقليمية شرق أوسطية قادرة على الاستقرار والتنمية. إن الانتخابات الأمريكية المقبلة ستحدد إلى درجة كبيرة طبيعة التعاطي الأمريكي مع إيران، إذ تنظر إيران بترقب لنتائج هذه الانتخابات، وتشير وجهة نظر الشارع الإيراني إلى إنه ليس هناك جديد قد تقدمه الانتخابات الأمريكية لإيران.

وفى هذا الصدد يتحدث أحمد موسوي، وهو أحد التجار في العاصمة طهران أنه “لا يوجد اختلاف في وجهة النظر في إيران بالنسبة لتوجهات الجمهوريين والديمقراطيين تجاه الملف الإيراني، وأن كلاهما له نهج معادٍ لإدارة طهران”، وأوضح أن مشاكل إيران الرئيسية هي المشاكل الداخلية، مشيراً إلى أن “واشنطن تمتلك استراتيجية لا تتغير تجاه إيران، وأن هذه الاستراتيجية لن تتغير بتغير نتائج الانتخابات الرئاسية”. فمن الواضح أن العقوبات والسياسات الأمريكية أنتجت تأثير على الوضع الاقتصادي في إيران، لذلك، ينظر الشارع الإيراني إنه ينبغي على طهران أن تتخذ خطوات أكثر فعالية لحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، بدل البحث عن الفوضى ومغامرات خاسرة مع الولايات المتحدة.

فراس إلياس

معهد واشنطن