كيف تحدّد دبلوماسية السدود المشوّهة ملامح أزمة المياه في العراق

كيف تحدّد دبلوماسية السدود المشوّهة ملامح أزمة المياه في العراق

تشكّل السدود قضية مثيرة للخلافات في الشرق الأوسط، ولعلّ أكثرها وضوحًا مسألة سد النهضة الإثيوبي عند منابع نهر النيل، التي صرّحت مصر بأنّه يشكّل تهديدًا وجوديًا لإمداداتها المائية. ومع ذلك، فإنّ مسألة السدود وتأثيرها على المناطق التي تفتقر إلى المياه هي أيضًا مسألة حيوية في المشرق العربي، حيث يشكّل نهرا دجلة والفرات وروافدهما جزءًا كبيرًا من الحياة الزراعية في بيئة تكون قاحلة لولا منها.

في الشهور الماضية، خفضت الحكومة الإيرانية بشكل كبير من تدفقات نهر سيروان (المعروف أيضًا باسم ديالى) ونهر الزاب الصغير، وكلاهما يتدفّق عبر الحدود الإيرانية العراقية في إقليم كردستان العراق. ولوحظ هذا الانخفاض المفاجئ للمرّة الأولى في آب/أغسطس، وهو يلي فترة 3 سنوات تقريبًا استُنفدّت فيها التدفقات النابعة من مواقع السدود الإيرانية في جبال زاغروس. وعلى الرغم من أنّ النهرَين يمثّلان قضية محلية ظاهريًّا، إلا أنّهما دليلان على اتجاه أكبر نطاقًا لسوء إدارة المياه والجمود الدبلوماسي في جميع أنحاء بلاد الشام، ومن المرجح أن يكون للضغط الإقليمي الحالي لبناء سد أكبر عواقب طويلة المدى، على الرغم من أنّه من المقرّر المضي قدمًا فيه.

ويواجه العراق أصلًا ندرة في المياه تشكّل تهديدًا رئيسًا لسكّانه؛ فإلى جانب أزمات مياه الشفة الحديثة في مناطق جنوب العراق حول البصرة، تواجه البلاد انخفاضًا في قدرة الوصول إلى المياه بسبب بناء السدود ضدّ التيّار المائي صعودًا في إيران وسوريا وتركيا. وتتفاقم مشاكل نقص المياه بسبب الآثار الشديدة لتغيّر المناخ والتصحّر في جميع أنحاء البلاد، فأفاد برنامج الأمم المتحدة للبيئة في عام 2018 أنّ العراق يخسر حوالي 25000 هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة سنويًا.

وقد بدأت تركيا للتو في إنتاج الطاقة من سد إليسو الذي شُيِّد حديثًا، أي بعد مرور حوالي 50 عامًا على إطلاق مشروع بناء سد جاب الذي يتضمن 22 سدًا و19 محطة لتوليد الطاقة. وهذا سيجعل السد الجديد من أكبر السدود في البلاد وسيمنح الحكومة التركية سيطرةً كبيرةً على تدفّقات المياه في نهر دجلة. وتشكّل السدود على نهر الفرات في سوريا وتركيا أيضًا تهديدًا لأمن العراق المائي.

لكن ربما يكون التحدي الأكثر تعقيدًا هو الدور الذي تؤديه السدود الإيرانية في خنق تدفّق المياه العراقية، وهي واحدة فقط من الطرق المتعددة التي تُربَط بها مصالح البلدَين المتضاربة والمشتركة معًا بشكل لا ينفصم. وبعد الارتفاع في الروافد الشمالية الغربية لجبال زاغروس، يتدّفق نهرا سيروان والزاب الصغير إلى إقليم كردستان العراق. ويلتقي الزاب الصغير بنهر دجلة في بلدة الزاب التي تقع في محافظة كركوك، بينما يتجه سيروان جنوبًا ويمرّ عبر محافظة ديالى قبل التقائه بنهر دجلة جنوب بغداد. ويدعم كلا النهرَين مشاريع ري مهمّة على طول ضفافهما، ولا سيما نظام القنواة على نهر سيروان بعد ديالى وير بالقرب من سنسل، ومشروع ري كركوك على نهر الزاب الصغير الذي لم يكتمل بعد. ويساهم الرافدان معًا بحوالى ربع التدفّق السنوي لنهر دجلة في العراق.

إنّ التدفّقات المستنفدة في نهر سيروان تؤثر الآن على أكثر من 8000 فدان من الأراضي الزراعية في محافظة السليمانية وحدها. وبصرف النظر عن الري، من الممكن أن تكون مياه الشفة في مدن مثل قلعة دزة والرانية في محافظة السليمانية مهددة. ووفقًا لسد دربنديخان ومدير الخزان في إقليم كردستان العراق، يعتمد حوالي مليونَي شخص على النهرَين في محافظتَي السليمانية وديالى.

ولا يمثل نقص المياه خطرًا على الاحتياجات الزراعية والأمن المائي لإقليم كردستان العراق فحسب، بل من المحتمل أيضًا أن يؤجّج الخلافات بين حكومة إقليم كردستان شبه المستقلة والحكومة الفيدرالية العراقية في بغداد. وقد حجب المسؤولون الأكراد بالفعل التدفّقات إلى المناطق التي يسيطر عليها الشيعة في العراق خلال خلافات الميزانية مع الحكومة الفيدرالية العراقية.

وسيكون لانخفاض تدفّق هذه الأنهار تأثير أيضًا على السدود الموجودة أصلًا في العراق. حاليًا، ثمّة 3 سدود عراقية مهمّة على النهرَين، وهما سد دوكان على نهر الزاب الصغير، وسد دربنديخان وسد حمرين على نهر سيروان. وتتولّى حكومة إقليم كردستان تشغيل سدَّي دوكان ودربنديخان، بينما تتولّى الحكومة العراقية الاتحادية تشغيل سد حمرين. وتُعدّ هذه المشاريع حيوية ليس لأنّها تضمن الأمن المائي في إقليم كردستان العراق فحسب، بل أيضًا في المناطق الزراعية بالقرب من بغداد وخارجها. وبشكل عام، سيؤثر انخفاض القدرة على الاعتماد على التدفّقات الثابتة في نهرَي سيروان والزاب الصغير على الزراعة ونوعية المياه في جميع أنحاء حوض نهر دجلة.

في حين أنّ مشاريع السدود الجارية في تركيا قد حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، وقد تكون آثارها على العراق أكبر من منظور هيدرولوجي بحت، فإنّ مشاريع إيران جديرة بالملاحظة بشكل خاص نسبةً إلى الطرق التي تتشابك بها في العلاقات بين البلدَين. وبالمثل، تشير هذه المشاريع إلى ديناميكيات سياسية داخل إيران من المحتمل أن يكون لها تأثير على مستقبل العراق، حيث يسعى رئيس الوزراء الحالي للبلاد إلى المشي عبر ما أسماه مؤخّرًا حبل مشدود بين المصالح الأمريكية والإيرانية.

ويتطابق الانخفاض في تدفّق النهرَين في العراق بشكل مباشر مع استكمال مشاريع الري الجديدة في إيران. ففي العقود الـ 3 الماضية، تعاقدت الحكومة الإيرانية على بناء 600 سد على مستوى البلاد. ومن بين هذه السدود، جرى بناء مشاريع بارزة، على غرار سد داريان، على الروافد العليا لنهرَي سيروان والزاب الصغير، ويهدف معظمها إلى نقل المياه المتّجهة إلى العراق مجدّدًا إلى إيران من خلال مشاريع مثل نفق نصود الذي يبلغ طوله 48 كم والذي اكتمل بناؤه في عام 2013، ونفق طوله 10 كم اكتمل بناؤه حديثًا يهدف إلى إيصال المياه من نهر الزاب الصغير إلى الحوض الجاف لبحيرة أورميا الميتة.

إنّ أزمات المياه الداخلية في إيران هي المسؤولة إلى حدّ كبير عن هذه التطورات في نهرَي سيروان والزاب الصغير. فتفتقر البلاد إلى سياسة مائية شاملة، في حين تدّعي الحكومة الإيرانية الملكية الرسمية لجميع مياه البلاد، وتعطي السكان المحليّين الأولوية في استخدامها.

وبالمثل، غالبًا ما تكون إدارة مشاريع المياه داخل الحكومة الإيرانية فاسدة وغير فعّالة. ووفقًا لأحد التقارير، قد أصدرت جماعة ضغط لبناء السدود داخل الحكومة الإيرانية يُشار إليها أحيانًا باسم “المافيا الزراعية” تشريعات خاصّة بمشاريع البنية التحتية للمياه في جميع أنحاء البلاد، ورتّبت بشكل عام إبرام عقود لتنفيذ هذه المشاريع عبر شركة “خاتم الأنبياء” الإيرانية. ودفعت هذه الجهود إيران إلى تصنيف نفسها كثالث أكبر شركة لبناء السدود في العالم. ويصف تقرير آخر السياسيّين الإيرانيّين على أنّهم يحوّلون المياه إلى مناطقهم الأصلية كوسيلة محتملة لكسب الدعم من جمهورهم.

كما اتُهمت استراتيجية المياه في البلاد بتفضيل العرق الفارسي. فبشكل عام، تعمل عمليات نقل المياه التي تديرها الحكومة في إيران على تحويل المياه بعيدًا عن المقاطعات الغربية – غالبًا تلك التي تسكنها مجموعات عرقية غير فارسية مثل الأقليات الكردية والعربية – وتحرص على توصيلها إلى القطاعات الزراعية في المقاطعات الشرقية للبلاد. ووفقًا لأحد التقارير، قد شهد نهر كارون، وهو شريان الحياة الرئيس للمجتمعات الإيرانية بالقرب من الامتدادات الجنوبية للحدود العراقية، تحويلَ 45 في المئة من تدفّقه عن مجراه الطبيعي. وأدى نقص المياه الناتج إلى اندلاع أعمال شغب في مقاطعة خوزستان الغربية. وبالمثل، جرى تحويل التدفّقات النابعة من نهر الزياندة رود من مساره الغربي لخدمة المزارعين في منطقة يزد الشرقية.

ولزيادة الطين بلة، يُشاع أنّ الحكومة الإيرانية وقّعت اتفاقية مع الكويت في عام 2003 لتوجيه المياه إلى الكويت في تبادل فعلي للنفوذ السياسي. وبالمثل، ظهرت تقارير من البصرة في أيار/مايو 2018 تفيد بأنّ إيران كانت تزوّد السكان المحليّين بمياه الشفة النظيفة أثناء أزمة المياه هناك. ونظّم الإيرانيّون الغربيّون الغاضبون من استعداد حكومتهم لنقل المياه التي هم في أمسّ الحاجة إليها مقابل خدمات سياسية في بلدان أخرى، احتجاجات صاخبة في مدن مثل خرمشهر.

ومن المحتمل أن يكون لمثل هذا التلاعب السياسي بالموارد المائية آثار سلبية سواء في اتجاه مجرى النهر صعودًا ونزولًا. بالفعل، دعت إيران العراق إلى ري المناطق الجافة في البلاد وإدارتها، حيث زعمت أنّ التصحّر قد تسبّب في حدوث عواصف رملية مكثّفة حديثًا تضرب إيران، وتلوّث إمدادات المياه الخاصة بها. علاوةً على ذلك، يهدّد النقص الحاد في المياه في العراق بزيادة المخاوف الأمنية من خلال إفقار المجتمعات الريفية، وزيادة النمو السكاني في الأحياء الفقيرة الحضرية، وتوفير أرضية خصبة للتجنيد في المنظمات الجهادية السلفية مثل تنظيم الدولة الإسلامية. وربطت الدراسات مسألة خسارة الأراضي الزراعية في الشرق الأوسط بشكل عام بالاضطرابات المتزايدة والتجنيد في الجماعات المسلّحة المتمرّدة و/أو الإرهابية مثل تنظيم داعش. وتُعتبَر المياه عنصرًا حاسمًا هنا، حيث في عام 2018، ذهبت نسبة 80٪ من مياه العراق إلى قطاع الزراعة الذي يوفّر فرص عمل لأكثر من ثلث سكان البلاد.

ومن شبه المؤكّد أنّ الاستجابة الصحيحة لبناء السدود الإيرانية تشمل تحسين البنية التحتية للري في العراق، التي لا يزال جزء كبير منها يعتمد على الأساليب القديمة وغير الفعّالة للري بالغمر. وعلى المدى القصير، قد يكون من المفيد أيضًا لحكومة إقليم كردستان مواصلة العديد من مشاريع السدود المخطط لها. وقد تخزّن مثل هذه السدود الجريان السطحي من أمطار الربيع وتوفّر إمدادات مياه أكثر اتساقًا للمنطقة، حيث تبدأ إيران في تحويل المزيد من المياه من روافد نهر دجلة. بالإضافة إلى ذلك، ستزيد هذه السدود من كمية المياه المخزّنة المتاحة داخل حدود العراق. وسيساعد توافر كمية أكبر من المياه في حكومة إقليم كردستان أيضًا على تخفيف أيّ توترات مستقبلية متعلّقة بالمياه بينها وبين العراق الفيدرالي، حيث ستكون حكومة إقليم كردستان أقلّ إلحاحًا من ناحية مساعيها الحثيثة لتقليل التدفّقات إلى العراق الفيدرالي من أجل تلبية احتياجاتها الخاصة.

ومع ذلك، تبقى الحلول طويلة المدى لهذه التحديات أقلّ وضوحًا. ومن المرجح أن تحتاج أي اتفاقية مستدامة طويلة الأجل إلى تضمين إطار قانوني ملزِم للممرّات المائية العابرة للحدود في البلدَين، وهو معيار غير مرجح بالنظر إلى السياسات المحلية لكلا البلدَين. حاليًا، يبقى القانون الدولي الوحيد المطبّق في هذه الحالة، ألا وهو اتفاقية الأمم المتحدة لقانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية (1997) – غامضًا وغير مطبّق.

ولسوء الحظ، يعني الحلّ البديل المتمثّل في زيادة بناء السدود، ضغوطًا مالية على حكومة إقليم كردستان التي تعاني بالفعل من ضائقة مالية، ومن المؤكّد أنّ الآثار البيئية السلبية ستتبعها. علاوةً على ذلك، يساهم بناء السدود في نوع استراتيجيات إدارة المياه أحادية الجانب التي خلقت هذه القضايا في المقام الأول، وقد تسببت الخزّانات بالفعل في عمليات نقل جماعية للسكّان في إيران وتركيا، ما أدّى في كثير من الأحيان إلى الإضرار الاقتصادي بالسكان المعاد توزيعهم.

وتناولت المحادثات الأخيرة بين العراق وإيران قضايا جرف شط العرب، وهو الممر المائي الذي يحدّد الجزء الجنوبي من الحدود الإيرانية العراقية، لكن من غير الواضح ما إذا كان يمكن للبلدَين التوصّل إلى اتفاقيات حول الممرّات المائية الأخرى مثل نهرَي سيروان والزاب الصغير. وقد أثبتت إيران، من خلال توصيل المياه للعراقيّين في البصرة ودعمها المستمر للفصائل المسلّحة التي تزعزع استقرار العراق، أنّ الاتفاق الملزِم قانونًا ليس مفيدًا لرؤيتها الإقليمية بقدر ما هو مفيد استغلال الاضطرابات في العراق. علاوةً على ذلك، يستفيد القطاع الزراعي الإيراني بشكل كبير من قدرته على تزويد الأسواق العراقية بمنتجات رخيصة، ما يعني أنّ إيران على الأرجح ستحجم عن تسليم أي من المياه التي تحوّلها من الحدود العراقية من أجل دعم إنتاج المحاصيل لديها.

إلى جانب ذلك، اعتبرت إيران عبر التاريخ قضايا المياه على الحدود العراقية نزاعات داخلية خاصة بمناطق حدودية معيّنة، وما مِن تقليد قائم للمفاوضات الثنائية حول موضوع المياه، باستثناء حالة شط العرب، حيث المفاوضات كانت عبر التاريخ صعبة وغير ثابتة، على الرغم من أنّ الصراع على النهر لم يعد محتدمًا كما كان في السابق.

وفي حال تغيّرت المواقف الإيرانية، يمكن أن يؤدي التعاون الثنائي إلى حقبة جديدة في مفاوضات المياه بين البلدَين، خاصةً إذا كان بإمكان حكومة إقليم كردستان العراق والحكومة العراقية الفيدرالية الوصول إلى مستوى أكبر من التضامن في تعاملاتها مع الدول الأجنبية. في غضون ذلك، يمكن للعراق التركيز على السدود كرموز للوحدة الوطنية وضمانات ضد التقلبات في إمدادات المياه، وإجراء تحسينات في طرق الري التي ستظهر نتائج ملموسة، لكن استمرار بناء السدود الإقليمية كحلّ لندرة المياه من المرجح أن تسفر عنه عواقب طويلة المدى مؤسفة.

أوستن كورونا

معهد واشنطن