دور المراكز الأبحاث والدراسات في صنع القرار السياسي: إيران إنموذجاً

دور المراكز الأبحاث والدراسات في صنع القرار السياسي: إيران إنموذجاً

أهم-3-مراكز-بحثية-فى-إيران

المقدمة

عقد مركز الأبحاث الاستراتيجية الدفاعية في 27آب/أغسطس من الحالي ، بالعاصمة الإيرانية طهران مؤتمراً تحت شعار” استراتيجية إيران الدفاعية” وكان الملفت في هذا المؤتمر  حضور كل من أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شامخاني ووزير الدفاع الإيراني حسين دهقان. ويعد هذا الحضور لمسؤولين كبيرين في النظام الإيراني مؤشراً على أهمية الدور الذي تضطلع به مراكز الأبحاث والدرسات في إيران. ومن هنا جاءت فكرة كتابة هذه للورقة للوقوف على دور تلك المراكز. وقبل تناولها، ستتطرق هذه الورقة إلى المفاهيم المختلفة لمراكز الأبحاث والدرسات، كما إنها ستهتم في تتبع النشأة التاريخية لمراكز الأبحاث والدراسات، ومعرفة وظائفها وخصائصها، وصولاً لدراسة مراكز الأبحاث والدراسات في إيران، كما ستنصرف الورقة إلى التعرف على حال مراكز الأبحاث والدراسات في العالم العربي ليس لغايات المقارنة مع ما يجري في إيران، وإنما الوقوف على أهمية دورها بالنسبة لصانع القرار العربي.

مراكز الأبحاث والدراسات، قبل أن تكون إنتاجا ثقافياً ومعرفياً، هي منجز حضاري متميز، فهي المرآة التي تعكس اهتمام الأمم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف آفاق المستقبل وفق المنظور العلمي والمعرفي، كما تعكس توجه الأمم والشعوب في حفظ تراثها ومنجزاتها المعرفية والحضارية. لأن حفظ المنجز الفكري والسياسي والاجتماعي والعلمي لمجتمع ما، هو ممارسة واعية بالتحولات والتطورات التي تحصل في المجتمع، وعملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمع الحضارية. فتلك المراكز، هي بمثابة المخزن والوعاء لذاكرة التاريخ الإنساني، في أبعاده المختلفة، وعلى حسب اهتمام واختصاص مراكز البحث والدراسة. وهي أيضاً كحدث أو منجز حضاري، وليد الواقع النهضوي، الذي يعيشه مجتمع ما، إذ يسعى كل مجتمع في مسيرته إلى تأسيس الأطر والأوعية المنسجمة وظروفه التاريخية، التي تحفظ منجزاته العلمية والمعرفية، وتسعى نحو تطويرها وتأكيدها في الوسط العام(1).

تزايد الاهتمام بمراكز الأبحاث والدراسات عالميّا بشكل واضح وملحوظ في العقود الأخيرة من القرن العشرين. فقد أصبحت تمثِّل أحد الدلائل الهامّة على تطور الدولة وتقييمها للبحث العلمي واستشرافها آفاق المستقبل؛ وذلك وفق المنظور المعرفي لتطور المجتمعات الإنسانية عمومًا، وانطلاقا من عدّ تلك المراكز مؤشرا للمنجزات الحضارية والنهضوية والثقافية وعنوانا للتقدم وأحد مؤشِّراته في التنمية ورسم السياسات. وتعد عملية دراسة القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمع والدولة وتحليلها، من أهم الأدوار التي تضطلع بها المراكز البحثية عموما؛ إذ تهدف من خلالها إلى معرفة الأسباب التي تكمن وراءها، وبلورة الرؤى والمقترحات العلمية المتعلّقة بها، ووضع الحلول المناسبة لها. وقد أصبح للمراكز البحثية دور رائد ومتقدم في قيادة السياسات العالمية، وصارت أداة رئيسة لإنتاج العديد من المشاريع الإستراتيجية الفاعلة. وهي الجهات الأساسية التي تستطيع رسم خطط المشاركة في تلك المشاريع، والإسهام فيها إسهاما فاعلا. كما أصبحت مراكز الأبحاث والدراسات جزءا لا يتجزّأ من المشهد السياسي والتنموي في العديد من البلدان المتقدمة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن لها دورا أساسيا في نهوض الأمم وتقدُّم الشعوب نحو تحقيق أهدافها. وقد ارتقت تلك المراكز الحديثة إلى حدّ، أصبحت فيه أحد الفاعلين في رسم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وأحد المؤثِّرين فيها، وأحد المشاركين في وضع الحلول لها؛ وذلك من خلال توظيف البحث العلمي في خدمة قضايا المجتمع، بتقديم الرؤى وطرح البدائل والخيارات، بما يدعم عمليات صنع القرارات ورسم السياسات(2).

أن تفعيل دور مراكز الأبحاث والدراسات قد أصبح من مقتضيات الضرورات السياسية والاقتصادية والإعلامية والأكاديمية والاجتماعية والتنمويّة؛ وذلك بوصفها الطريقة الأمثل لإيصال المعرفة المتخصصة، من خلال ما تقدمه من إصدارات علمية وندوات متخصصة، من شأنها أن تضاعف مستوى الوعي لدى صانع القرار والمؤسسات والأفراد، وتساعدهم على الربط بين الوقائع الميدانية وإطارها العلمي النظري(3).

فمراكز الأبحاث ليست مجرد مراكز لتجميع المعلومات، ولكنها مراكز لإنتاج الأفكار، وعملية صنع الأفكار لا تتم لذات الأفكار؛ فالفكر أصبح له علاقة حتمية بالواقع وما ليس له تأثير في الواقع لا قيمة له. فالأفكار عندما تصنع لا يتم الوقوف عند صنعها، وإنما يتم نقلها للمجتمع من ناحية ولصانع القرار السياسي من ناحية أخرى، من خلال وسائل متعددة، هذه العملية في ثلاث مراحل: بعد صناعة الفكرة يتم تأهيل المجتمع لها ثم تلقى في يد السياسي ليبني عليها قرارات وسياسات، فتكون هذه القرارات والسياسات مقبولة اجتماعيا(4)

أولاً- مفهوم مراكز الأبحاث:

ثمة غموض يحيط بتعريف مراكز البحث والدراسات أو”ثينكس تانكس” “Tink Tank. فتعريف هذه المراكز لا يزال محل خلاف؛ نظراً إلى أن معظم المؤسسات والمراكز المنتمية إلى مجال البحث، لا تعدّ نفسها من صنف ال “ثينكس تانكس” في وثائق تعريف الهوية الذاتية، وإنما تعلن عن نفسها كمنظمة غير حكوميّة أو منظمة غير ربحية. لذا، يبقى هذا المفهوم فضفاضا، ويحتمل أكثر من تعريف؛ بسبب كثرة التفاصيل والحيثيّات التي تحيط به، والأبعاد التي تكتنفه.

لقد عرّفتها الموسوعة المجانية المعروفة باسم (Wikipedia- Free Encyclopedia) بأنها” أيّ منظمة أو مؤسسة تدعي أنها مركز للأبحاث والدراسات، أو مركز للتحليلات حول المسائل العامة والمهمة”. وتعرّفها مؤسسة راند للأبحاث بأنها” تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة بهدف إجراء بحوث مركزة ومكثفة. وهي تقدم الحلول والمقترحات للمشاكل بصورة عامة وخاصة في المجالات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية والإستراتيجية، أو ما يتعلق بالتسلح”.

كما يعرّفها هوارد ج وياردا Howard J Wiarda (أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورجيا، وأستاذ باحث في مركز “ودورو ويلسون” في واشنطن) بأنها عبارة عن” مراكز للبحث والتعليم، ولا تشبه الجامعات أو الكليات، كما أنها لا تقدم مساقات دراسية؛ بل هي مؤسسات غير ربحية، وإن كانت تملك “منتجاً” وهو الأبحاث. هدفها الرئيسي البحث في السياسات العامة للدولة، ولها تأثير فعال في مناقشة تلك السياسات. كما أنها تركز اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامة، والدفاع والأمن والخارجية. كما لا تحاول تقديم معرفة سطحية لتلك المسائل؛ بقدر مناقشتها والبحث فيها بشكل عميق، ولفت انتباه الجمهور لها”.

وينتهي هوارد Howard J Wiarda بالقول:” إن هذه المراكز، هي مؤسسات بحثية هدفها الأساسي توفير البحوث والدراسات المتعلقة بالمجتمع والسياسات العامة، والتأثير في القضايا الساخنة التي تهم الناس”.

تشترك كل التعريفات المقدَّمة أعلاه؛ في أنّ “الثينك تانكس” منظمة أو مؤسسة أو معهد أو جماعة أو مركز. ويكون مخصصا للقيام بالأبحاث والدراسات في مجالات معينة أو في علاقة بعدد من القضايا المتنوعة؛ سواء بهدف نشر الثقافة والمعرفة العامّة، أو بغية خدمة أحد الأطراف الرسمية(الحكومة) أو غير الرسمية(المجتمع بصورة عامة). وتقديم المقترحات والحلول لمشاكل معينة. وهذا ما جعل تلك المراكز أحد المرتكزات الأساسية لإنتاج البحث العلمي والمعرفة والتفكير العامّ في الدولة؛ وذلك من خلال النشاطات العلمية التي تقوم بها، ممثّلة في المؤتمرات التي تعقدها، والأبحاث والإصدارات الدورية والكتب والمنشورات التي تصدر عنها. ولم تعد مهمة مراكز التفكير مقتصرة على تقديم دراسات أكاديمية تحليلية نقدية؛ بل صارت تشمل معالجة مشاكل معينة بصورة مباشرة، وتقديم المشورة لصانعي القرار مع اقتراح البدائل.

وعلى الرغم من غياب الإجماع على تحديد مفهوم مراكز الأبحاث والدراسات؛ فإن هذه الدراسة تستخدم مصطلح “مراكز الأبحاث والدراسات” باعتباره مرادفًا لمصطلح “مراكز الفكر ThinkTanks”، وتَعني بهذا المصطلح: مؤسسات بحثية، دورها الرئيس هو إنتاج الأبحاث والدراسات في مجالات متعددة، بما يخدم السياسات العامة للدولة؛ وتقديم رؤى مستقبلية تهم الفرد والمجتمع وصانعي القرار(5).

 ثانياً- التطور التاريخي لمراكز الأبحاث والدراسات:

أن مراكز الأبحاث نشأت داخل الجامعات في صورتها الأولى في العالم الغربي، حيث ظهرت أولى الجامعات الأوربية في القرن الثاني عشر الميلادي، وأن معظم هذه الجامعات أنشئت تقليداً للجامعات الإسلامية في مرحلة الحروب الفرنجة “الصليبية”، وفي تلك الأثناء أسس ما يعرف بالكراسي العلمية، وكان أول هذه الكراسي هو تأسيس كراسي الدراسات الشرقية في بولونيا وفي روما وفي باريس. كما أنشئت وقفيات نقلا أيضا عن الوقفيات الإسلامية، وكانت أول وقفية أنشئت في بريطانيا اسمها وقفية ديمورتن في جامعة أوكسفورد لتشجيع الدراسات الدينية بالتحديد.

أن تأسيس الكراسي العلمية كان هو الإرهاصات الأولى لتأسيس مراكز أبحاث، ولكنها كانت مراكز أبحاث لإنتاج الأفكار، ليتم بعد ذلك توظيفها في السياسة، ولم تكن علاقتها بالسياسة مباشرة، وظلت هذه المراكز والكراسي تنشأ وتنمو إلى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر تقريبا، عندما بدأت تظهر مراكز الأبحاث خارج الجامعات، في هذه المرحلة بدأت مراكز الأبحاث تنحو منحى آخر هو تسخير العلم لخدمة السياسة، في هذه المرحلة بدأ يظهر أول المراكز، عندما بدأت تظهر مراكز الأبحاث خارج الجامعات، في هذه المرحلة بدأت مراكز الأبحاث تنحو منحى آخر هو تسخير العلم لخدمة السياسة، في هذه المرحلة بدأ يظهر أول المراكز، حيث تم تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية ببريطانيا سنة 1831م، ثم تلته بعد ذلك الجمعية الفابية سنة 1884م(6).

وبعدها انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد كبير نتيجة لدعم كبار المتبرعين والمثقفين ورغبتهم في خلق مؤسسات يجتمع فيها الباحثين والقادة من القطاعين العام والخاص، لمناقشة القضايا العالمية والتداول بشأنها، وقد بدأ عدد من المؤسسات بنوع خاص بإثبات وجودها خلال القرن العشرين. وهي:

1-مؤسسة كارنيغي الخيرية للسلام العالمي سنة1910م.

2- مركز بروكنز سنة1914م.

3- مؤسسة هوفر حول الحرب والثورة والسلام1919م.

4- مجلس العلاقات الخارجية سنة1921م. وهي مؤسسة تطورت من نادي عشاء شهري لتصبح إحدى أكثر المؤسسات السياسية الخارجية التي تحظى بالاحترام.

5- مؤسسة راند في مايو1948م التي دشنت لظهور جيل جديد من المراكز والتي لقبت ب”مقاولي الحكومات” والتي اعتمد البيت الأبيض تطببق توصياتها بشكل كبير.

6- مركز أبحاث فض النزاعات في جامعة ميتشغان في عام1959م(7).

ومن المفيد الإشارة هنا، هو أن الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات؛ قد تشكلت نتيجة لأحداث مهمة في تاريخ دولة ما، أو لتغيير طرأ مثلا على النمط السياسي الداخلي والخارجي لنظام ما، أو بسبب قضايا ملحة قادت إلى البحث عن حلول أفضل. وتتكفّل مجموعة / أو فرد من ذوي الخبرة والاختصاص ومن المتابعين للقضايا العامة، بتأسيس تلك المراكز. ولا نخفي دهشتنا عندما نلقي نظرة على عدد مراكز الأبحاث في العالم، وحينما ندرك مدى تطورها منذ عقد السبعينيات وحتى نهاية القرن الحادي والعشرين. إذ نرى أن هناك تطورا وانتشارا كبيرين للمراكز البحثية في العالم؛ حتى أن عددها قد وصل – بحسب مشروع مؤشرات مراكز الأبحاث والفكر – إلى حوالي 6826 مركزا متخصصا في مجالات متعددة.

وبهذا الرقم، يتّضح أن الدول الغربية قد أدرك في وقت مبكر أن العلم “لم يعد شارةً تتزيّن بها المجتمعات؛ إنما هو أحد أهم أسلحة العصر. وعليه، فإنّ مساحات توليد الطاقات والقدرات العلمية فيها، لم تعد من اختصاص الجامعات وحدها؛ بل هناك المئات بل الآلاف من مراكز البحوث ومؤسسات البحث العلمي، بعضها تديره الدولة إدراكا منها لأهمية تفعيل مراصد البحث لامتلاك زمام الأمور. وأغلبها تدعمها مؤسسات مدنية، يشرف عليها كبار المسؤولين السابقين والخبراء، ممن لديهم خبرات متراكمة في مجالات معرفية تتعلق بالمشكلات والقضايا المطروحة؛ في ما يقوم على إدارتها والتفكير بآفاقها شباب طموح، لا يعرفون غير لغة العلم والعمل والإتقان، ولا هدف لهم سوى التقدم بأنفسهم وبلادهم نحو المستقبل. كما تغذي هذه المراكز البحثية المؤسسات الحكومية بالباحثين والخبراء؛ لينهضوا بواقع دولهم. إنّ الانتشار المتسارع في خريطة مراكز الأبحاث في العالم قد تعاظم بعد الأحداث التي طرأت على العلاقات الدولية، من انهيار القطبية الثنائية، وظهور العولمة، والتغير الذي طرأ على تلك البلدان وعلى الأوضاع السياسة والاقتصادية والأكاديمية والأمنية فيها، والتحديات التي باتت تواجهها. وهو ما استدعى الحاجة إلى مزيد من المراكز البحثية لمواكبة متطلبات العولمة؛ لاسيّما بسبب تأثير النظام العالمي الجديد، خاصة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، اللّتين يوجد فيهما أكبر عدد لمراكز الأبحاث والدراسات على مستوى العالم، بنسبة تصل إلى 57%(8).

وبمرور الوقت ظهر تطور جديد فيما يتعلق بمراكز الأبحاث يسمى المركز البحثي المؤسسي، أي أن يكون لكل المؤسسات، خصوصًا الجامعات، مركز أبحاث داخلها يقوم على التخطيط، هذا النوع من المراكز يرشد صانع القرار داخل المؤسسة، ويساهم في إعادة توظيف واستخدام ما هو متاح من المعلومات لخدمة المؤسسة ورسم طريقها المستقبلي. وبرز الاهتمام بإنشاء مراكز أبحاث لدى دول أخرى، كما نرى في الجدول أدناه. فانتشرت مراكز تُعنى بالأبحاث التاريخية وأخرى بالأبحاث السياسية، ومراكز إستراتيجية أمنية واقتصادية. ونلاحظ أن مراكز الأبحاث موجودة بأسماء وتعريفات مختلفة؛ ففي بعض الأحيان، تطلق على نفسها اسم “مؤسسة” Foundation، وفي بعضها الآخر تسمّى بـ “معهد” Institute. وتصف مراكز أخرى نفسها بـ “الصندوق” Fund، وفي حالات أخرى بـ “الوقف” Endowment. لكن في النهاية، تتبع هذه المنظمات  قطاعا عريضا هو قطاع مراكز الأبحاث والدراسات(9). ويبين الجدول التالي عدد مراكز الأبحاث في الدول العظمي والكبرى في الجماعة الدولية(10).

عدد مراكز الأبحاث حتى أوائل عام2015م

                الدولة عدد مراكز الأبحاث
    الولايات المتحدة الأمريكية 1828
              الصين 426
          المملكة المتحدة 287
                الهند 268
                ألمانيا 194
                فرنسا 177
            الأرجنتين 137
                روسيا 122
                اليابان 108

المصدر: برنامج تلفزيوني “في العمق”: قناة الجزيرة، بث بتاريخ 12كانون الثاني/يناير العام الحالي

 ثالثاً- وظائف وخصائص مراكز الأبحاث والدراسات:

بعد الإحاطة بأهم المراحل التطور التاريخي التي مرت بها مراكز الأبحاث والدراسات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في الدول المتقدمة، لابد من الوقوف على أهم وظائفها وخصائصها، لمراكز الأبحاث والدراسات العديد من الوظائف يمكن إجمالها بالآتي، وهي:

  • البحث وصنع الأفكار.
  • المساعدة في صنع القرار أو ترشيد صنع القرار.
  • وسيلة لتصنيع العلماء والباحثين باعتبارها ورشة للتدريب والتقاط الخبرة وهذه هي واحدة من المهام المستجدة التي أضيفت لمراكز الأبحاث في الربع القرن الأخير(11).

أما عن الخصائص التي يلزم توافرها في مراكز الأبحاث التي تستطيع عم القرار، من أهم هذه الخصائص:

  • وضوح الهدف والمهمة التي يقوم بها المركز لدعم القرار، بحيث يكون متخصصاً في مجال معين، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو أمني أو عسكري، أو يقوم بكل هذه التخصصات، على أن يتم تحديد مستوى التحليل: هل هو استراتيجي أم سياسات أم تكتيكي.
  • أن يرتكز المركز على مجموعة منتقاة من الخبراء والأكاديميين والمفكرين الاستراتيجيين، ويفضل من يجمعون بين الخبرة العلمية والعملية.
  • القدرة على الابتكار والإبداع، وإعداد سيناريوهات واستشراف المستقبل.
  • اقامة شبكة علاقات مع مراكز البحوث والفكر العالمية لتبادل الخبرات.
  • الانفتاح على الجمهور من خلال استقراء الرأي العام عبر تداول المعلومات ومن خلال عقد مؤتمرات مفتوحة وورش عمل يشترك فيها باحثو المركز وغيرهم.
  • توفر قيادة واعية ومدركة للمهمة الملقاة على عاتق المركز، وتستطيع الاستفادة من كافة الجهود والعقول.

وبشكل أكثر تحديدا، يمكن القول أن مراكز الدراسات المعاصرة تساعد على صنع الاستراتيجيات بصورة أفضل وذلك بفضل ما تؤمنه من منافع متعددة، من أهمها ما يلي:

  • اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها أو حتى لقطع الطريق عليها والحيلولة دون وقوعها. وبذلك تؤدي مراكز الدراسات الاستراتيجية وظائف الإنذار المبكر، والاستعداد المبكر للمستقبل، للتحكم فيه، أو على الأقل للمشاركة في صنعه.
  • إعادة اكتشاف أنفسنا ومواردنا وطاقاتنا، وبخاصة ما هو كامن منها، والذي يمكن أن يتحول بفضل العلم إلى موارد وطاقات فعلية. وهذا بدوره يساعد على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق لنا ما نصبوا إليه تنمية شاملة سريعة ومتواصلة. ومن خلال عمليات الاكتشافات وإعادة الاكتشاف هذه، تسترد الأمة الساعية للتنمية الثقة بنفسها، وتستجمع قواها وتعبىء طاقاتها لمواجهة تحديات المستقبل.
  • بلورة الاختيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عملية المفاضلة بينها. وذلك باخضاع كل اختيار منها للدرس والفحص، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج. ويترتب على ذلك المساعدة في توفير قاعدة معرفية يمكن لصناع القرار في الدولة أن يحددوا اختياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ضوئها، وذلك بدلا من الاكتفاء- كما هو حاصل حاليا- بالمجادلات الفكرية والمنازعات السياسية التي تختلط فيها الأسباب بالنتائج، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعي من ما هو ذاتي(12).

 رابعاً- مراكز الأبحاث والدراسات في إيران:

سنتاول في هذه الجزئية أثر مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية الإيرانية، الرسمية وشبه الرسمية في صناعة القرار السياسي. وتتفرع هذه الجزئية على النحو التالي:

1-الخلفية التاريخية لمراكز صنع القرار بإيران

إن مراكز صنع القرار في إيران تأخذ أهمية كبيرة خاصة في ظل مشروعــات تمــدد وطموحــات تتصــف بالديمومة، ولا تتغير بتغير أنظمة الحكم والقائمين عليها.

عهد الشاه محمد رضا بهلوي(1941م-1979م): بنــى قــراره في مجــال الطاقــة النوويــة علــى دراســة سياســية نصحتــه بــأن ينــوع مصادر الطاقــة في بــلاده، بالرغــم مــن عــدم الحاجــة الإيرانيــة إلى الطاقــة الذريــة، واعتمادهــا بشــكل أســاسي علــى النفــط في الطاقــة اللازمــة للصناعــة، خاصــة أن إيــران كانــت قــد بــدأت بالفعــل في بنــاء عــدد مــن المصانــع الضخمــة المختصــة بالصناعــات الثقيلــة في أصفهــان وغيرهــا بخـبـرات روســية، ولم تكــن في حاجــة وقتيــة للطاقــة النوويــة. وبالفعل أنشــأ الشــاه مفاعلاتــه النوويــة التــي اســتقدمها مــن جهــات ثــلاث: الولايــات المتحــدة الأمريكيــة وألمانيــا الغربيــة وفرنســا. وقد كان الشاه رجلاً متابعاً باســتمرار للأحداث الجارية عــن قــرب، حيث كان يُزّود بالتقييــمات السياســية التــي يُعدها الخبراء السياســيون في الــوزارات والمؤسســات الأمريكيــة التــي تحصــل بدورهــا عــلى مكافــآت ماليــة مــن إيــران.

أما في عهد الخميني(1979م-1989) وهاشمي رفسنجاني(1989م-1997م) و محمد خاتمي(1997م-2005م) وحسن روحاني: يمكن القول بالنسبة للخميني وعهده لم يبد اهتماماً كبيراً بمراكــز الأبحاث والدراسات في الوقــت الــذي كانت فيه الجماعة الدولية قــد بــدأ بالفعــل في الاهتــمام بتلك المراكز، كوسيلة من الصعوبة بمكان الاســتغناء عنهــا لفهم طبيعة التفاعلات التي تجري داخل الدولة والتفاعلات على المستوى الإقليمي والدولي والتــي عــلى ضوئها تتخذ الدولة قراراتها وفق مقتضيات مصالحها العليا. أما هاشــمي رفســنجاني الذي يعد رابع رئيس لجمهورية إيران منذ قيام ثورتها في العام1979م، والذي استلم رئاستها في العام 1989م، ففي عهده أنشأ العديد من الجامعــات والاهتــمام بمراكز البحث العلمي والدراسات السياســيات كأحــد مباحــث العلــوم الاجتماعيــة والدراســات الإنســانية.

وقد بلغ الاهتمام بمراكز الأبحاث ذروته حينما استلم محمد خاتمي رئاسة الجمهورية في العام 1997م  حيث نهج خاتمــي سياسة مغايرة لما اعتادت عليه مؤسســات الدولــة الإيرانية، متجــاوزاً العُرف في عملية صنع القرار التقليدي. وفي هذا السياق وللتدليل على صحة ذلك يمكن لنا أن نسوق المثل الآتي: نــزل الرئيــس الإيــراني محمــد خاتمــي مــن غرفتــه في فنــدق إقامتــه في العاصمة السويسرية جنيــف لاســتقبال الرئيــس المصــري الأسبق محمــد حســني مبــارك في العام 2003م. وقد بُني هذا التحرك الدبلوماسي على دراسة أعدها أحد الباحثين السياسيين الإيرانيين المختصيين في الشؤون المصرية وكان من بين توصياتها ضرورة تجاوز المرحلة التاريخية من الخلافات في العلاقات الإيرانية المصرية والعمل الحثيث على بناء جسور الثقة والتقارب مع مصر.

أما الرئيس السادس لجمهورية إيران حســن روحــاني والذي تقلد منصبه في آب/أغسطس عام 2013م، ومنذ توليــه الرئاسة اصدر مجموعة قــرارات تبيّن أنهــا نتيجة تقديــرات موقــف وتوصيــات صادرة عن مراكز أبحاث ودراسات محسوبة على مؤسسات الحكم في إيــران بخصــوص الملف ذي الأولويــة الكبــرى في السياســة الخارجية الإيرانيــة وهــو: البرنامج النــووي الإيــراني، وإزاء هــذه الدراســات السياســية صــدر قــراران مفصليــان تجــاه الجماعة الدولية.

أولهما: تعيين السفير محمد جواد ظريف وزيراً للخارجية، ومرد هذا الإختيار تعود لخبرته في أروقة الأمم المتحدة، حيث كان سفيراً لإيران فيها ما بين(2002م-2007م). كما يرتبط بعلاقات حسنة مع الدول الغربية. وله علاقات جيدة مع المسؤولين في الإدارة الأمريكية، ومن ضمن ما هدف إليه هذا التعيين هو تبوأ دبلوماسي إيراني مقرب من الولايات المتحدة الأمريكية هرم العمل الدبلوماسي في إيران.

كرسالة ضمنية من الرئيس حسن روحاني على انفتاح إيران عليها في إطار برنامجه الإنتخابي الذي وعد من خلاله بالإصلاحات الاقتصادية التي من الممكن أن تأتي عبر إعادة العلاقات الأمريكية الإيرانية المقطوعة منذ قيام الثورة الإيرانية والتي أطاحت بحليفها في الشرق الأوسط محمد رضا بهلوي في العام 1979م.

ثانيهما: نـقل صلاحيــات التفــاوض النــووي مــن هيئــة الأمــن القومــي الإيــراني برئاســة ســعيد جليــي وإســناد الملــف البرنامج النــووي كليــاً إلى وزارة الخارجيــة، في رســالة إلى الدول الغــربية مفادهــا أن البرنامج  أصبــح بالنســبة لطهــران في عهــد الرئيس حسن روحــاني ضمن المسار الدبلوماســي وليس الأمني.

وقد انعكس تعيين ظريف ونقل الصلاحيات بشكل إيجابي على المفاوضات التي جرت بين إيران من جانب والدول(5+1) من جانب آخر بشأن برنامجها النووي، إذ وقع الجانبان علــى الاتفــاق الإطــاري النــووي في جنيــف فجــر 24 مــن نوفمــبر/ تشريــن ثــاني مــن العام 2013م، أي بعد قرابــة 3 أشــهر فقــط مــن تــولى روحــاني الرئاسة في إيران. وتبعه بعد ذلك توصل الجانبان في2 نيسان/إبريل من هذا العام إلى “اتفاق إطار” ليتوج في 14تموز/يوليو إلى اتفاق نهائي بينهما.

2- مراكز الأبحاث والدراسات وعلاقتهما بعملية صنع واتخاذ القرار في إيران:

ترتبــط هذه المراكز ارتباطــاً وثيقــاً بالمؤسسات الحكومية في الدولة الإيرانية، وتنقسم هذه المراكز إلى قسمين الأول: مراكز تعمل الدولــة على إنشائها ومنهــا مــا يتبــع جامعــات حكوميــة، أما الثاني فهي مراكز غيــر رســمية تتخــذ صفــة الاســتقلالية، لكنهــا في الحقيقــة تخــدم المؤسســات الرســمية وتقــوم بــأدوار متعــددة؛ أهمها تقديــم تقديــرات مواقــف أو توقع سيناريوهات لحدث مــا قبــل وقوعــه ثــم الدعايــة السياســية للقــرار الســياسي بعــد أن يتــم صنعــه في مؤسســة المرشــد علي خامئني إذا كان قــراراً يتعلــق بالسياســات الخارجيــة، أو مؤسســة رئاســة الجمهوريــة إذا كان قــراراً يُنظّم علاقــة الرئاســة برجــال الديــن أو البــازار أو الأحــزاب السياســية أو حتــى قوانيــن تنظيــم الحيــاة اليوميــة للمواطنــين مثــل حظــر تركيــب الأطبــاق التــي تلتقــط إشــارات القنــوات الفضائيــة مــن الأقــمار الاصطناعيــة أو إغــلاق موقــع التواصــل الاجتماعي “فيســبوك” وموقــع التدوينــات القصـيـرة “تويــتر” وغيرهــا، أو توجيــه الرســائل الضمنيــة إلى الــدول أو الجماعــات المســتهدفة.

يعد المثال البارز على نزعة إنشاء الدولة الإيرانية مراكز أبحاث تحقق الأهداف الاستراتيجية لها وتمولها وتوفر لها البيئة البحثية المواتية، أربعة مراكز رئيسة تتشكل فيما بينها كمربع متساوي الأضلاع يمثل أجنحة صنع القرار السياسي في العاصمة الإيرانية طهران في القضايا الداخلية والخارجية، حتى وإن تباينت الأدوار بين الأضلاع الأربعة لكنها تبقى دائماً بمثابة أطراف صنع القرار السياسي للنظام.

مركز دراسات رئاسة الجمهورية: يهتم المركز –الذي يشرف رئيس الجمهورية عليه بنفسه- بالدراســات والأبحــاث السياســية والاقتصاديــة وتقديــم المشــاريع والمقترحــات الاستراتيجية لصنــاع القــرار في رئاســة الجمهوريــة في مجــالات العلاقــات السياســية والاقتصاديــة والاجتماعيــة والثقافيــة والعســكرية والدوليــة الخارجيــة، وفقــاً للسياســات العامــة للدولــة الإيرانيــة.

حددت رئاسة الجمهورية للمركز ثلاثة عشر هدفاً نذكر منها: تقديم أوراق بحثية علمية استراتيجة توافق السياسات العامة لجمهورية إيران، تقديم الدراسات الحديثة الآنية في مجال عمل أجهزة الدولة التنفيذية ذات الطبيعة الاستراتيجية المستقبلية مع كتابة توصيات استراتيجية تُمكن صناع القرار من اتخاذ القرار المناسب في القضايا ذات الصلة. الاستفادة من المشاريع البحثية التي تنتجها معاهد البحوث المحلية والأجنبية ومراكز البحوث ذات الصلة في المجالات التي تتعلق بالاستراتيجيات الوطنية الإيرانية. تحديد وتفسير اختصاصات صناع القرارات السياسية والاستراتيجة في المجالات الرئيسة التي تتعلق باستراتيجيات الأمن القومي الإيراني.

ويســتضيف المركــز خبــراء سياسيين خارجيــن مــن قــارات العــالم في مجــالات العلاقــات الدوليــة وشــؤون الــشرق الأوســط ويقيــم حلقــات نقــاش في الشــأن ذاتــه. ولعــل أبــرز مثــال علــى ذلــك اســتضافة مركــز رئاســة الجمهوريــة الإيرانيــة للدراســات والبحــوث البروفيسور إيمانويــل فالــر شــتاين في 1آذار/مارس 2014م، وهو أحد أهــم الخبــراء السياسيين في العلاقــات الأمريكيــة -الدوليــة. ودار الحديث من خلال الحلقة النقاشية حول العلاقات الإيرانيــة -الأمريكيــة والســيطرة الأمريكيــة والنفــوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن العلاقات الإيرانية الدائرة بين إيران والدول الكبرى.

مركز دراسات البرلمان: وهو مركز بحوث “إسلامي” وقد تأسس في العام 1992م، وبدأ في إنتاج الأوراق السياسية بحلول العام 1995م، أي في عهد الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني، وتقوم مهمته الأساسية على تقديم أوراق بحثية سياسية وقانونية تُمكن النواب وصناع القرار من اتخاذ القرار السياسي السليم خاصة في مسائل التشريعات التي يصدرها مجلس الشورى”الاسلامي” والتي تبنى عليها بقية مؤسسات الدولة.

ويلاحــظ تركيــزه على القضايــا التنمويــة والثقافيــة والاقتصاديــة والقانونيــة الداخليــة. فضــلاً عــن تلــك القضايــا المتعلقــة بعلاقــات إيــران الخارجيــة. علــى ســبيل المثــال: وافــق مجلــس الشــورى الإيــراني بالإجــماع علــى دخــول المصريــين إلى إيــران مــن دون تأشــيرة وفقــاً لورقــة سياســات قُدمت إلى النــواب. ويمكن استعراض بعض آخر الموضوعات التي تطرق إليها مراكز دراسات مجلس الشورى الإيراني في النقاط التالية: دراسة وأحكام وتطوير مــشروع قانــون الموازنــة الريفيــة والقبلية. دراسات تخطيط  استخدام الأراضي الإقليمية في إيران.

معهد دراسات وزراة الخارجية: يشغل هذا المعهد مرتبة متقدمة في السياسة الإيرانية، لاسيما في أوقات الأزمات، ويتكــون المعهــد مــن تســعة قطاعــات أو وحــدات أو مراكــز بحثيــة تنطــوي عــلى الأولويــات الإيرانيــة الرســمية في دراســة القضايا الدوليــة، وتتشــكل فــرق أبحــاث هــذه المراكــز التســعة مــن خــبراء سياسيين يعملــون في وزارة الخارجيــة الإيرانيــة فضــلاً عــن الســفراء الســابقين ذوي الخبــرة في القضايا المنوطــة بهــم وكبــار دبلوماســيي وزارة الخارجيــة وباحثــن خارجيــن بالإضافــة إلى أعضــاء هيئــة التدريــس بالجامعــات الإيرانيــة.

ويعمل على تأليــف وترجمــة الكتــب المتعلقــة بالقضايــا الدوليــة المختلفــة. وينــشر المعهــد عــشرات الكتــب ســنوياً في الملفــات الملحــة منهــا أعــمال بحثيــة محكمــة لخـبـراء المعهــد والســفراء الســابقين، ودراسات وتحليلات دورية شهرية في المجالات التسعة المذكورة، لكن الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط هي الأكثر كثافة في إصداراتها المعهد في السنوات الأخيرة. يصدر المعهد دوريات ومجلات سياسية تخاطب الشعوب الخارجية.

مركز دراسات مجمع مصلحة تشخيص النظام: يهتــم المركــز بالدراســات الاستراتيجية المنوطــة بوضع استراتيجيات مســتدامة لجمهوريــة إيــران في القضايــا الإقليمية والدولية وعلى مختلف المستويات. ويعود تاريخ تأسيسه إلى العام 1990م، أي في عهــد الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني. أما فيما يتعلق بإصداراته العلمية فقد أنتج المركــز العديد مــن الدراسات الاستراتيجية في مجــالات الدراســات السياســية والاقتصاديــة والقانونيــة والثقافيــة والاجتماعيــة.

كما عني المركــز بالأنشــطة البحثيــة التــي تتعلــق بتنظيــم المؤتمــرات والحلقــات النقاشــية والدوائــر المســتديرة المنتجــة للدراســات ذات النزعــة الاستراتيجية لإعانتهم في اتخاذ القرار السياسي السليم. وينشر الجزء الآخر من أبحاثه ودراساته في شكل أوراق بحثية توزع على الكوادر الحكومية.

يشتمل المركز على 6 وحدات بحثية تتكون كل وحدة منها من عدد من الوحدات المصغرة، على سبيل المثال: وحدة أبحاث السياسة الخارجية، تتكون من دراسات الشرق الأوسط والخليج الفارسي، والدراسات الأوروبية والأمريكية.

3- توجهات المراكز البحثية الخارجية

كي يتســنى فهــم توجهــات المراكــز البحثيــة الإيرانيــة حيــال الولايــات المتحــدة الأمريكيــة وتركيــا والــدول الخليجيــة والتيــارات الإســلامية بالمنطقــة العربيــة والمملكــة العربيــة الســعودية، وموقفها من التحولات السياسية العربية لاسيما بعد اندلاع عدة انتفاضات عربية في تونس ومــصر وليبيا وسوريا واليمن.

اقترب هذا التحليل مــن مراكــز الدراســات المســتقلة القريبــة مــن الســلطة ومراكــز الدراســات التابعــة للجامعــات الحكوميــة ومراكــز الدراســات التابعــة للجامعــات الخاصــة حيث تبين أنه من الصعوبة بمكان وجود مراكز بحثية مستقلة عن الحكومة استقلالية تامة، كخضوعها لمقررات الدستور ونصوصه كمحدد لوجود تلك المراكز.

أنه في كثــير مــن الأحيــان تتعــدى المراكــز الخاصــة دورهــا ويتصــدر باحثوهــا واجهــة المشــهد سياســياً ودبلوماســياً، ويروجــون لأفــكار النظــام عبــر وســائل الإعــلام باعتبارهــم محللـيـن سياسيين مستقلين، وكثيــراً مــا تســند لهــم الدولــة أدواراً تتعــدى أدوار أي محلــل ســياسي في أي نظــام ســياسي آخــر. مثال عن المحلــل الســياسي أمــير موســوي الــذي يظهــر في الإعــلام بلقــب: رئيــس مركــز الدراســات الاستراتيجية والعلاقــات الدوليــة في إيــران، والذي كُلف بمهــام سياســية ـــــ دبلوماســية غــر اعتياديــة كان آخرهــا جولــة مباحثــات اســتمرت لأيــام في العاصمــة الســودانية الخرطــوم للتفــاوض حــول أنشــطة المؤسســات الشــيعية وبرامــج عمــل الســفارة الإيرانيــة في الســودان(13).

إنه من الصعوبة بمكان مغادرة هذا التحليل قبل التطرق إلى حال مراكز الأبحاث والدراسات في العالم العربي ليس لجهة المقارنة وإنما من باب العلم بالشىء ليس إلا.

يمكن القول أن عدد المراكز البحثية أقل بكثير من حاجات المجتمع، فالعدد ضئيل جدًّا من حيث الكم، ومن حيث التمويل، فالإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي يقل عن 1%(14). ويوضح الجدول التالي عدد مراكز الأبحاث والدراسات في بعض الدول العربية (15):

عدد مراكز الأبحاث والدراسات الدول العربية
55 مصر
43 فلسطين
43 العراق
40 الأردن
39 تونس
30 المغرب
30 اليمن

المصدر: برنامج تلفزيوني “في العمق”: قناة الجزيرة، بث بتاريخ 12كانون الثاني/يناير العام الحالي

وبإمعان التحليل على الواقع العربي نجد أن البيئة المحيطة غير مواتية لتفعيل دور مراكز البحوث والدراسات، فأغلب الدول العربية تعانى من نقص هائل فى الاستثمار فى التعليم والبحث العلمى، حيث تنظر الحكومات العربية إلى هذا النوع من الاستثمار على أنه إنفاق هامشى ونشاط ترفى يجرى إنفاق بعض الأموال عليه من أجل الوجاهة الاجتماعية الإقليمية والدولية، وليس من أجل تحقيق إنجازات علمية وتقنية حقيقية. ومن الطبيعى فى ظل الإنفاق المحدود على البحث والتطوير العلميين أن تظل مصر وغيرها من الدول العربية معتمدة على التقنيات الحديثة المنتجة فى الدول الأكثر تقدما، وتابعة لهذه الدول فى هذا المجال. ومن البديهى أن الدول التى لا تسهم فى الإنجازات العلمية والتقنية العالمية لا يمكنها أن تحصل على أحدث التقنيات الإنتاجية، وإنما تحصل عادة على تقنيات من الدرجة الثانية والثالثة؛ لأنها ببساطة لا تملك ما تتبادله من إنجازات علمية وتقنية مع الدول الأخرى المبدعة الفعلية لمثل هذه الإنجازات.

وإضافة إلى ذلك، تفتقر الدول العربية إلى البيئة العلمية المناسبة، فالمناخ العام للبحث العلمى ليس منتجاً للتقدم، لذلك فإن ما هو موجود فى العالم العربى من مراكز ومعاهد ومؤسسات بحثية، مع ندرتها، لا يحمل أكثر من مجرد الأسماء، إلا فيما ندر، لأسباب كثيرة منها ما أشرنا إليه بخصوص التمويل الكافى للعملية البحثية، ومنها أيضاً الاستقلالية المالية والإدارية عن الحكومات، فأغلب مراكز البحوث والدراسات العربية تابعة بشكل أو بآخر للحكومات نظراً لعزوف القطاع الخاص عن احتضان وتأسيس المراكز العلمية والبحثية، ومنها المناخ السياسى غير الموات للعملية البحثية بسبب غياب الديمقراطية والافتقار إلى الحريات وإلى الشفافية فى التعامل مع حرية تداول المعلومات، واحتكارية السلطة التى تجعل نظم الحكم سلطوية وشخصانية بما يكفى لتهميش أى دور استشارى أو ترشيدى لمراكز البحوث فى عملية صنع القرارات وفى مقدمتها قرارات السياسة الخارجية.

وبسبب هذه الخصوصيات لا توجد فى العالم العربى رغبة حقيقية فى بناء قاعدة بحثية علمية حقيقية. لا توجد إرادة سياسية لفعل ذلك، ولا يوجد قرار سيادى يدرك أهمية الإنفاق فى البحث العلمى، والسلطة السياسية لا تعترف بدور مراكز البحوث والدراسات فى صنع القرارت وفى صنع السياسة العامة(16).

الخاتمة:

بناء على ما تقدم، تسير الجمهورية الإيرانية على خطى الدول المتقدمة في الاعتماد بشكل أو بآخر على التوصيات التي تصدرها مراكز الأبحاث والدراسات بشأن القضايا الإقليمية والدولية، والتي من شأنها أن تقدم المشورة لصانع القرار الإيراني، خدمة لمشروعها السياسي المبني على التوسع في مجالها الإقليمي ولاسيما في العالم العربي.

الهوامش:

1- د.عصام عبدالشافي، المراكز البحثية ودورها المفقود في الإستراتيجية العربية، ينظر الرابط الآتي: http://kenanaonline.com/users/ForeignPolicy/links/16239

2- خالد وليد محمود، دور مراكز الأبحاث في الوطن العربي: الواقع الراهن وشروط الانتقال إلى فاعلية أكبر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كانون الثاني/يناير 2013م، ص1، ينظر الرابط الآتي: http://www.dohainstitute.org/release/3c6dea13-7bd7-4ea8-83af-f95b9cefb574

3- مراكز البحوث وصناعة التغيير: مطابخ لصناع القرار وخلايا تفكير للإبداع، شبكة النبأ المعلوماتية، حزيران/يونيو 2009م، ينظر الرابط الآتي: http://annabaa.org/nbanews/2009/06/100.htm

4- عباس أبو غانم، مراكز الأبحاث بين صناعة الأفكار وترشيد السياسات، اسلام أون، تموز/يوليو 2005، ينظر الرابط الآتي: http://www.onislam.net/arabic/madarik/culture-ideas/96738-2005-07-12%2017-42-25.html

5- هزار صابر أمين، مراكز التفكير ودورها في التأثير على صنع السياسة، ينظر الرابط الآتي: http://fcdrs.com/mag/issue-4-2.html، كما ينظر أيضاً: THINK TANKSمراكز التفكير أو بنوك التفكير، ينظر الرابط الآتي: http://strategy.unblog.fr/2013/04/06/%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D8%B1-%D8%A3%D9%88-%D8%A8%D9%86%D9%88%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D8%B1-think-tanks/، وينظر أيضا: خالد وليد محمود، مصدر سابق، ص ص4-5.

6- عباس أبو غانم، مصدر سابق.

7- سامي الخزندار، “دور مراكز الدراسات الخاصة في البحث العلمي وصناعة السياسات العامّة: إطار عام”، ص 10، على الرابط:

http://partnership-forum.org/Papers/7-2-AR.pdf

8- المصدر نفسه.

9- ينظر: هزار صابر أمين، مصدر سابق، مراكز التفكير أوبنوك التفكير، مصدر سابق، خالد وليد محمود، مصدر سابق.

10- “في العمق”: برنامج تلفزيوني يبث على قناة الجزيرة، بث بتاريخ 12كانون الثاني/يناير العام الحالي.

11- عباس أبو غانم، مصدر سابق.

12- د.حسين علاوي خليفة، مراكز الدراسات واثرها في ادارة الإستراتيجية الإقليمية: دراسة في برنامج الأمن والدفاع للإتحاد الخليجي، ينظر الرابط الآتي:   http://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=94824

13- ينظر: محمد محسن أبو النور، مراكز صنع القرار بإيران: المحددات والتوجهات، أوراق سياسية، مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث، بيروت، ينظر الرابط الآتي: http://www.fikercenter.com/ar/p/political_analysis/view/5512e4c7785b7

وينظر أيضاً: مراكز صنع القرار الإيرانية: الأداة العلمية الثابتة لمشاريع التوسع والتمدد، ينظر الرابط الآتي: https://www.alsouria.net/content/%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%B2-%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9%D8%8C-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D8%A8%D8%AA%D8%A9-%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%B3%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D8%AF%D8%AF

كما ينظر أيضا: أهم3 مراكز بحثية في إيران، ينظر الرابط الآتي: http://www.cairodar.com/477732/%D8%A3%D9%87%D9%85-3-%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%B2-%D8%A8%D8%AD%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%89-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86

14- عباس أبو غانم، مصدر سابق.

15- برنامج “في العمق”، نصدر سابق.

16- د.محمد السعيد إدريس، مستقبل دور مراكز الدراسات والمعلومات الوطنية والقومية في الصراع حتى عام 2015م، ينظر الرابط الآتي: http://www.mesc.com.jo/final%20seminar/Sim-05-03-03.htm

د.معمر فيصل خولي

مركز الروابط والبحوث والدراسات الإستراتيجية