اعتمد الكيان الإسرائيلي منذ احتلال الضفة الغربية، سنة 1967، استراتيجية قضم أراضيها دونماً بعد آخر، وتهجير أهلها منها وضمِّها إلى الأراضي التي يحتلها، من أجل إقامة مستوطنات عليها. ولم يكن، باعتماده هذه الاستراتيجية، يهدف إلى إسكان إسرائيليين فائضين في أراضي الضفة، بقدر ما كان يريد من هذه المستوطنات أن تكون أسافين تُدقُّ في الدولة الفلسطينية المأمولة، من جهة، وأن تشكل، من جهةٍ ثانية، ومع مرور الأيام واستمرار عمليات القضم والضم والاستيطان، جسماً استيطانياً يصبح دولة إسرائيلية أخرى موازية لدولة الاحتلال، وجزءاً منها، في نهاية الأمر. في هذه الأيام، يكتمل هذا المشروع، مع جدار الفصل العنصري، والطرق الالتفافية التي تربط هذه المستوطنات بعضها ببعض، لتشكِّل ما يشبه الدولة.
يهدف استملاك الأراضي في أمكنة متعدّدة من الضفة الغربية إلى إقامة طرقٍ تربط المستوطنات الإسرائيلية
وإضافة إلى استملاك الأراضي لإقامة مستوطنات عليها، تتفاعل هذه الأيام قضية استملاك الأراضي في أمكنة متعدّدة من الضفة الغربية، بهدف إقامة طرقٍ تربط المستوطنات الإسرائيلية. وتتسم هذه الطرق بالخطورة الجسيمة، وربما غير المسبوقة، لسببين جوهريين، ينتجان عن علاقة تبادلية بينهما. يكمن السبب الأول خلف واقع أن هذه الطرق تصل المستوطنات بعضها ببعض، لكي تشكل كياناً استيطانياً واحداً، بعد أن كانت المستوطنات الإسرائيلية بؤرا وتجمعات متبعثرةً في مناطق الضفة. أما السبب الثاني، فيكمن خلف حقيقة أنها ستجعل مناطق الضفة الغربية التي كانت كياناً واحداً، كانتوناتٍ وجزرا متبعثرةٍ، لا يربط بينها أي رابطٍ أو ممرٍّ آمنٍ، على عكس المستوطنات التي يمكن القول إنها ستتحَّد، ولن يطول الأمر كثيراً حتى تعلن ذاتها دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع، تندمج في النهاية مع دولة الاحتلال.
يصادر الإسرائيليون آلاف الدونمات، ويهدمون المباني ويقطعون أشجار الزيتون لتحقيق أهدافهم
أما الطريق الجديد الذي برزت خطورته، ويندرج ضمن هذه الخطة فهو الطريق الالتفافي في بلدة حوارة، جنوبي نابلس، الذي أعلنت السلطات الإسرائيلية أخيراً عن مناقصةٍ لشقّه بهدف ربط المستوطنات الجبلية المعزولة في المنطقة. ولتنفيذه، يصادر الإسرائيليون آلاف الدونمات، ويهدمون المباني ويقطعون أشجار الزيتون. والطريق الجديد جزءٌ من مخطط قديم لتنفيذ شبكة طرقٍ تمتد من شمال الضفة إلى جنوبها فيقسمها. كما أن هنالك طرقٌ التفافيةٌ وأخرى عرضية، تمتدُّ من شرق الضفة إلى غربها، وتهدف إلى فصل شمال الضفة عن جنوبها، ومنها الطريق الذي يمرُّ قرب بلدة زعترة في منطقة بيت لحم، ويقسم الضفة قسمين ويقوِّض السلطة الفلسطينية.
تأتي الاندفاعة في حجم الاستيطان وبناء الطرق في ظل موجة التطبيع التي روِّج المُطبِّعون أنها ستوقف صفقة القرن التي تخطط لضم الضفة إلى دولة الاحتلال
وتأتي هذه الاندفاعة في حجم الاستيطان وبناء الطرق في ظل موجة التطبيع التي روِّج المُطبِّعون أنها ستوقف صفقة القرن التي تخطط لضم الضفة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي. فعلى عكس ما أعلن وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، قبل توقيع اتفاق تطبيع بلاده والبحرين علاقاتهما مع دولة الاحتلال، وفي خطابه خلال مراسم التوقيع في واشنطن، أن هذه الاتفاقية تأتي مقابل وقف الاستيطان وتأجيل تطبيق صفقة القرن، ازداد السعار الإسرائيلي وازدادت الهجمات الاستيطانية. إذ كذَّب الاحتلال الإسرائيلي هذا الادّعاء حين صادقت سلطاته، في 14 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي بعد شهر من توقيع الاتفاق، على مشاريع بناء 2123 وحدة سكنية استيطانية في الضفة الغربية، وهي جزء من مخططٍ أشمل لبناء أكثر من خمسة آلاف وحدة استيطانية على الأراضي الفلسطينية. وكذلك حين كُشف، في 16 أكتوبر الماضي، عن استيلائه على 11200 دونم من أراضي الأغوار الفلسطينية من أجل إقامة ثلاث محميات طبيعية، وهو ما يعد مقدمةً لتحويل هذه المحميات إلى بؤر استيطانية. وقال مدير عام توثيق انتهاكات الاحتلال في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، قاسم عواد، والذي كشف قرار الاستيلاء، إن الأراضي المُصادرة تقع في جوار بؤر استيطانية مقامة سابقاً، أي ستصبح أراضيَ زراعيةً تابعةً لها أو ستقام عليها مستوطنات، كما جرت العادة.
يمكن تفسير هذه الهجمة الاستيطانية غير المسبوقة أنها نتيجة أولية ومباشرة لاتفاقات التطبيع، التي اتخذها الإسرائيليون ضوءاً أخضر للمضي في مخطط تهويد أراضي الضفة. أولاً، عندما قوَّض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بنفسه ادّعاء دولة الإمارات أن التطبيع جاء مقابل وقف الضم والاستيطان، وقال، في 16 أغسطس/ آب الماضي، في اجتماع الحكومة الإسرائيلية: “لم يطرأ أي تغيير على الخطة (صفقة القرن)، والرئيس ترامب ملتزم بها، وأنا ملتزم بإجراء مفاوضاتٍ على أساسها”، وقطع بأن السلام ليس مقابل أي شيء سوى السلام. وثانياً، حين أوعز إلى المجلس الأعلى للتخطيط والبناء الإسرائيلي في الضفة الغربية، بداية الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، باستئناف اجتماعاته التي كانت متوقفة ثمانية أشهر. وأعطى توجيهاته يومها بالموافقة على بناء 5400 وحدة استيطانية. وثالثاً، عندما لم يجد من يطلب منه التوقف عن ذلك، أو يردعه مهدّداً بوقف مسار التطبيع، أو حتى يطلب منه تأجيل هذه الموجة. ورابعاً، عندما لمس الضعف والهوان الذي وصل إليه الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، حين رفضت جامعة الدول العربية، في اجتماع وزراء الخارجية العرب الافتراضي، في 9 سبتمبر/ أيلول الماضي، الموافقة على قرار يدين التطبيع بين الإمارات ودولة الاحتلال، تقدّمت به السلطة الفلسطينية، الضعيفة أصلاً.
هجمة استيطانية نتيجة أولية ومباشرة لاتفاقات التطبيع، التي اتخذها الإسرائيليون ضوءاً أخضر
أما الخطورة التي تُرافِق المخططات الإسرائيلية لتقسيم الضفة وتمزيق جغرافيتها فهي الأصوات التي خرجت، أخيراً، ودَعت إلى جعل المناطق التي تنتج عن هذا التقسيم إماراتٍ عشائرية، لتكون بمثابة انكفاءٍ للمشروع الوطني الفلسطيني الجامع، وتبدِّد ما راكمته جميع القوى الفلسطينية المقاومة من تضحيات ومنجزات من أجل تحقيق أهداف هذا المشروع بإقامة دولة موحَّدة. كما أنه سيكون بمثابة التبدّي للسياسة التي اتبعت في تكييف النضال الفلسطيني مع الممارسات الإسرائيلية الآنية، بعد فقدان الاستراتيجية النضالية ذات الأهداف البعيدة، والتي تسبَّبَ بفقدانها تَحوُّلُ حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى سلطة أشبه ما تكون بالإدارة المحلية.
وإزاء هذا الأمر، يبدو أن أبناء الشعب الفلسطيني قد عدِموا أي شكلٍ من أشكال مقاومة الاستيطان الذي يعد نكبةً جديدةً، وذلك بعد أن كان مشروعهم يتضمن مقاومة الاحتلال في أراضي 48 بعد طرده من أراضي 67. ومن مبادرة السلطة الفلسطينية، بعد خيبتها من جامعة الدول العربية، والتفاتها إلى مجلس الأمن مسلحةً بالقرارات الدولية، لطلب عقد مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية، على أساس قرارات الشرعية الدولية، من هذه الالتفاتة يمكن معرفة حجم اليأس الذي وصلت إليه، والذي لا يغيره سوى اندلاع انتفاضة شعبية جديدة، عملت هذه السلطة نفسها، وتعمل دائماً، على وأدها.
مالك ونوس
العربي الجديد