في تقرير مشترك لمراسلي صحيفة “نيويورك تايمز” ديفيد كيركباتريك ورونين بيرغمان وفرناز فصيحي، قالوا إن عملية اغتيال عالم الذرة الإيراني محسن فخري زاده، كشفت عن مكامن ضعف إيران التي تحاول البحث عن طرق للرد. فبعد عام من الضربات الموجعة، تواجه طهران خيارات مؤلمة: الرد على مطالب المتشددين الداعين لضربات حاسمة أو الانتظار والتعامل مع الإدارة الأمريكية المقبلة لجوزيف بايدن.
وبدأ التقرير بالحديث عن عملية اقتحام جريئة للموساد الإسرائيلي لمخزن محصن في طهران، حيث سرق عملاء الموساد 5.000 وثيقة سرية عن برنامج إيران النووي. وبعد أربعة أسابيع ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحافي طالبا ممن شاهدوا وحضروا مؤتمره أن “يتذكروا الاسم” أي فخري زادة، الذي أصبح الضحية الأخيرة في تصعيد جريء للعمليات السرية تهدف لتعذيب القيادة الإيرانية وتذكيرها بضعفها.
وأشار التقرير إلى عملية الجمعة التي قتل فيها عالم الذرة عندما اعترضت موكبه سيارة مفخخة وانفجرت، ثم هاجمه مسلحون، حيث ترك مرميا على الشارع ليموت. وترى الصحيفة أن مقتل فخري زادة هو العملية الأخيرة في سلسلة من عمليات القتل الغامضة التي شملت تسميما وسيارات مفخخة وقتلا عن قرب وسرقات وتخريب، استُهدفت بها الجمهورية الإسلامية.
وكل تلك العمليات استهدفت علماء أو مؤسسات حيوية مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، ونسبها الإيرانيون والأمريكيون إلى عدو طهران الأكبر، إسرائيل، التي تباهي قادتها بنجاح العمليات بدون الاعتراف بمسؤوليتهم عنها.
لكن إيران لم تعان من عمليات وهجمات مثلما ما عانت في 2020 الذي قُتل فيه قاسم سليماني بغارة أمريكية على موكبه بعدما خرج من مطار بغداد الدولي، وهي غارة سهلتها المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية. وفي آب/ أغسطس، تعرضت إيران للإهانة عندما قُتل قيادي في تنظيم القاعدة بشوارع طهران، وهذه المرة بطلب من الولايات المتحدة الأمريكية.
ويقول المحلل السابق في المخابرات الأمريكية والزميل في معهد بروكينغز، بروس ريدل، إنه لم يحدث إلا نادرا أن تقوم دولة بعمليات في داخل حدود أعدائها وتتصرف بدون خوف من المساءلة. وقال: “هذه سابقة.. ولا توجد أية إشارة عن مواجهة الإيرانيين لها”.
وبعملية القتل يوم الجمعة لكبير علمائها النوويين، تواجه إيران أسئلة حول مكامن الضعف لديها، وعملية تطهير لمؤسساتها الأمنية والتخلص من العملاء وكذا كيفية الرد. وعلى رأس الإهانة الأخيرة، عانت إيران من عقوبات اقتصادية مدمرة أو ما أطلقت عليها إدارة دونالد ترامب حملة “أقصى ضغط”. ويأمل قادة إيران بإجراءات من نوع ما تقوم بها إدارة جوزيف بايدن القبلة لتخفيف الضغط عليها. فقد تعهد الرئيس المنتخب بالعودة إلى الاتفاقية النووية التي رفعت العقوبات عن إيران مقابل الحد من نشاطاتها النووية.
وبالنسبة للبراغماتيين في إيران، فالشهران الباقيان لترامب في البيت الأبيض، ليسا مناسبة للرد بشكل يعيد المواجهة. ومع ذلك يعترف بعض القادة في إيران وبشكل مفتوح أن أعداءهم في الولايات المتحدة وإسرائيل سيستغلون اللحظة الحالية للهجوم على طهران وزيادة الضغط على قادتها الذين يواجهون دعوات بالانتقام وأخرى بانتظار علاقات أفضل مع الإدارة الأمريكية المقبلة.
وكتب المسؤول السابق في وزارة الثقافة الإيرانية محمد حسين خوشوقت: “من اليوم حتى مغادرة ترامب البيت الأبيض هي المرحلة الأخطر لإيران”. وأضاف أن الانتقام ضد إسرائيل أو حليفة نتنياهو الرئيسية، الولايات المتحدة ستعطي فرصة لأعداء إيران في المنطقة الذين يريدون “خلق وضع” لا يتمكن من خلاله بايدن العودة إلى الاتفاقية النووية.
في المقابل يقول المتشددون في إيران، إن مقتل فخري زادة أظهر أن ضبط النفس منح أعداء إيران الفرصة للضرب. وقال المحلل المحافظ فؤاد إزادي: “لو لم ترد على هذا المستوى من الإرهاب فربما كرروا العمل لمعرفتهم أن إيران لن ترد”. وأضاف: “من الواضح أن هناك مشكلة عندما ترى أن هذه الأمور تتكرر”.
ومما أكد هذا الوضع، هو قرار الحكومة الإيرانية منح فخري زادة رغم عدم معرفة الإيرانيين به جنازة مهيبة تليق ببطل، ودفنه في مقبرة تحظى بقداسة في البلاد. وانتشرت فيديوهات لكبار مسؤولي الدولة ورجال الدين وهم يقفون معزين أمام كفن العالم الذي لف بالعلم الإيراني، حيث بدا وجه العالم ظاهرا، في تخل عن تقليد يتم فيه تغطية الميت من الرأس إلى القدم.
وتبنت إسرائيل سياسة القتل المستهدف لإبطاء الجهود نحو بناء برنامج نووي فاعل، واستهدفت علماء ذرة مصريين وعراقيين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. واتهمت إيران بالوقوف وراء عمليات اغتيال واحد من علمائها عندما سقط في مختبره عام 2007 بعد تسميمه.
وتبع ذلك سلسلة من الهجمات القاتلة من 2010- 2012 وقتل فيها عدد من العلماء الإيرانيين، التي اتهمت طهران إسرائيل بالمسؤولية عنها. وفي أحد تلك الحوادث، تم تفجير دراجة نارية كانت مركونة أمام منزل، وقتلت عالما كان يغلق مرأب بيته.
وفي حوادث أخرى، قُتل ثلاثة علماء وهم في سياراتهم بإطلاق النار من دراجات نارية كانت تسير إلى جانبها. ويقول ريدل إن إسرائيل لديها سجل من النجاح ضد إيران؛ بسبب تركيزها مصادر تجسسية على أعدائها هناك.
وبالإضافة إلى هذا، طورت إسرائيل علاقات قوية مع جيران إيران، واستخدمت أراضيهم كنقطة انطلاق للمراقبة والتجنيد خاصة في باكو، أذربيجان.
وفي الحرب الأخيرة بإقليم ناغورني قرة باغ، قدمت إسرائيل الدعم العسكري والطائرات المسيرة لأذربيجان التي استخدمتها في الحرب مع الأرمن. كما استهدفت إسرائيل اليهود الفرس والمتحدثين بالفارسية لعمل اتصالات داخل إيران أو تحليل الرسائل التي تم التنصت عليها.
وأضاف ريدل أن إسرائيل استطاعت تجنيد عدد من العملاء الإيرانيين. ويضيف أن عملية قتل فخري زادة هي إشارة عن عودة إسرائيل لحملات الاغتيال بعد توقف لثمانية أعوام. وبقول: “أعتقد أنها تشير إلى أن العملية جارية أو قادمة”.
وقال مسؤول إسرائيلي بارز شارك في ملاحقة فخري زادة، إن إسرائيل ستواصل استهداف البرنامج النووي الإيراني كيفما استطاعت. مضيفا أن فخري زادة والبرنامج النووي يشكلان خطرا لدرجة أن على العالم تقديم الشكر لإسرائيل على عملها.
وفي إيران أدت حوادث الاغتيال تلك، إلى ضرورة التشديد على اقتلاع جذورالعمالة داخل المؤسسة الأمنية. وفي أول رد له على العملية، دعا المرشد الأعلى للجمهورية، آية الله علي خامنئي إلى تقديم أولوية “التحقيق بهذه الجريمة والمعاقبة القاطعة لمرتكبيها”.
واتهم المتشددون حكومة حسن روحاني الذي ينظر إليه كبراغماتي يدعو للتفاوض مع أمريكا وحملوه مسؤولية الفشل الأمني. وقال حسين دهقان، أحد قادة الحرس الثوري ومستشار خامنئي الذي يحضر لانتخابات الرئاسة: “الليل طويل وقد استفقنا”. وقال في تغريدة: “سنأتي مثل الرعد على رؤوس المسؤولين عن جريمة قتل الشهيد وسنجعلهم يندمون”.
من جانبه، قال روحاني إن بلاده ستمارس ما أسماه “الصبر الإستراتيجي” أو ما وصفه نقاده “انتظار بايدن”. وقال: “سنرد في الوقت المناسب” و”على جميع الأعداء معرفة أن الشعب الإيراني العظيم شجاع وشريف وسيرد على الفعل الإجرامي”.
ولكن المستفيد الوحيد من هذا العمل هم المتشددون في إيران، كما تقول سنام وكيل، من تشاتام هاوس في لندن. ومنذ انتخاب بايدن، بدأ التيار المتشدد بالدفع لمنع أي مفاوضات مع الإدارة الأمريكية الجديدة. وقالت وكيل: “حادث كهذا يقوي المتشددين” و”لأنهم سيؤجلون المفاوضات حتى الانتخابات الإيرانية وهو ما يعملون من أجله”.
القدس العربي