على الرغم من الرصيد الثقافي الثري الذي تحظى به ليبيا على مدار تاريخها، حيث تعج بعدد كبير من الكتاب والأدباء والفنانين، فإن الواقع الثقافي في البلد ظل راكدا تحت وطأة الأزمات والصراعات والانقسامات السياسية. ولم ينجح مثقفو البلد في إيصال صوتهم للشارع واستكمال مشروع التحديث في ظل تهميش السلطة المستمر في مرحلة ما قبل ثورة فبراير2011 وما بعدها وكذلك حالة الانغلاق الاجتماعي، إضافة إلى رضوخهم إلى ضغوط القوى المتسلحة بعنف الميليشيات، ما قاد بالتالي إلى تحييد المثقف الليبي عن دوره الحقيقي.
تبدو الثقافة الليبية أبرز ضحايا الأزمة المستفحلة التي تواجهها البلاد منذ أكثر من تسع سنوات، فعلى أرض تحكمها نزوات المتصارعين من أجل السلطة والثروة، وتتسع فيها دائرة الفكر المتشدد ونفوذ الميليشيات المسلحة، وتشهد أوسع ظاهرة للفساد ونهب المال العام، وغيابا واضحا للخدمات، يصبح الحديث عن الثقافة شكلا من أشكال الترف الفكري واللغوي، رغم أن ليبيا تعتبر منجما ثريا بالتنوع الثقافي المدهش، وبالمواهب المبدعة والأشكال الفنية التراثية الزاخرة، وبالآثار الخالدة التي تعود إلى آلاف السنين، وغير ذلك من الأنماط الثقافية التي واجهت الطمس والتجاهل والتهميش خلال مختلف المراحل التي عرفتها البلاد بعد استقلالها.
يأتي ذلك رغم المحاولات الجادة التي قام بها النظام الملكي خلال عقد الستينات، قبل أن يطاح به، حيث عرفت ليبيا بعده اتجاها نحو تكريس ثقافة عقائدية مرتبطة بالمشروع السياسي للنظام القائم، ما أثر سلبا على حرية الإبداع وحركة المبدع في اتجاه تحقيق مشروعه الشخصي والدفع به إلى الاندماج في الرؤية النظامية للثقافة، باستثناء بعض الأسماء التي غادرت البلاد كالصادق النيهوم في الفكر الفلسفي وإبراهيم الكوني في الرواية وأحمد الفكرون وحميد الشاعري في الموسيقى.
أحمد الفيتوري: المؤسسات الثقافية أصابها شلل تام بعد تفاقم الحرب الأهلية
ومع ذلك، كانت ليبيا قبل العام 2011 تعج بعدد كبير من الكتاب والأدباء والفنانين وخاصة في الموسيقى والمسرح والفن التشكيلي، الذين حالت طبيعة النظام وعلاقاته المتوترة مع المحيط الإقليمي والدولي دون انتشار إبداعاتهم خارج بلادهم، لعل من أبرزهم الأدباء والكتاب خليفة التليسي وعلي صدقي عبدالقادر وعلي مصطفى المصراتي وعلي فهمي خشيم وأحمد إبراهيم الفقي، ومن الموسيقيين محمد حسن وحسن العريبي وعادل عبدالمجيد، ومن الفنانين التشكيليين علي العباني وعوض عبيدة وفوزي الصويعي ورسام الكاريكاتور محمد الزواوي، وغيرهم كثر.
وبعد الإطاحة بالنظام في العام 2011، عرف المجتمع الليبي حالة من الانقسام لم تستثن الواقع الثقافي، فقد اضطر عدد من المثقفين المحسوبين على العهد السابق إلى الهجرة القسرية بينما تم الدفع بآخرين إلى السجون والمعتقلات من قبل الميليشيات التي سيطرت على المشهد العام، وظهر التشدد الديني كإحدى أبرز علامات المرحلة الجديدة بانتشار ظاهرة التدين السلفي التكفيري وسعي الإسلام السياسي إلى السيطرة على مناحي الحياة، والتركيز في حركته على الإعلام كأداة للتعريف بمشروعه المحلي والإقليمي، في حين وقع تجاهل الثقافة بشكل شبه كامل، ما دفع بالمثقفين إلى تأسيس مشروع مواز من خلال منظمات المجتمع المدني التي كانت في تلك الفترة تعد نفسها بدولة ديمقراطية مدنية في إطار ليبرالي يحترم الحريات العامة والخاصة.
وأشار الكاتب أحمد الفيتوري في مقال له إلى بدايات مرحلة ما بعد القذافي بالقول إن “وقت انبثاق الربيع العربي في ليبيا تحررت الثقافة في ليبيا من أسرها، خلالها انبثق المجتمع المدني، وتكونت جمعيات ومراكز ثقافية وبحثية، ففي مدينة بنغازي وحدها تجاوز عددها الثلاثمئة، وصدرت صحف خاصة وحتى متخصصة، وأقيمت العديد من الملتقيات الثقافية والفنية وتأسست مؤسسات وتنظيمات ثقافية وسياسية ومراكز بحثية ونواد للكتاب، وعقدت مؤتمرات وندوات حول كل المستجدات في البلاد”.
وحسب ما ذهب إليه الفيتوري، بدا آنذاك وكأن المجتمع المدني الذي يعمل من أجل تأسيس دولة مدنية هو البديل للسلطة الغاشمة التي سقطت، لكن ساعتها كان “الإسلام في الأسر” دين الناس في أسر منظمات سرية مسلحة وإرهابية انبثقت في تلك اللحظة الاستثنائية وتقنعت بالدين، واستولت بالقوة على مرافق الدولة واتخذت من المساجد منابر لنشر وتوكيد أيديولوجيا العنف للسيطرة على ما تبقى من الدولة.
ويضيف “لقد انطلقت مُؤسساتٌ ثقافية أهلية وسرعان ما توقفت بعد أن تفاقمت الحرب الأهلية”، مستحضرا مُؤشرا هامّا رصدته مؤسسة “بي.بي.سي” الدولية في دراسة ميدانية لدول الربيع العربي في الشمال الأفريقي يؤكد أن “الإنجاز الذي تم في مجال المجتمع الأهلي وخاصة الثقافي منه فاق ما حصل في مصر وتونس وأنه انطلق من الصفر تقريبا، وقد كشف أن المبادرات المجتمعية أنشأت مراكز بحثية مستقلة إضافة إلى إصدار تقارير دورية وإقامة ورش عمل في القضايا الثقافية خاصة السياسية منها”.
ولاحظ الفيتوري أن المبادرات الفردية والأهلية يمكنها أن تساهم في المجال الثقافي أيضا حينما تتمكن من ذلك لأن الحرية تتيح المجال لهكذا مبادرات، وهذا ساهم في إجراء ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة ونجح فيها تيار الدولة المدنية بالأغلبية وفشل الإسلام السياسي في هذه الانتخابات مما دفعه لأن يُعلن الحرب على الصندوق الانتخابي الذي قبل به قبلا.
وساهم في هذا أن الإثنيات كالأمازيغ والطوارق والتبو لأول مرة في ليبيا تتمكن من أن تكون من المكونات الاجتماعية الثقافية والسياسية الناشئة، خلال السنتين الأوليين للثورة حيث أقيمت مراكز تختص بالشأن الثقافي والمجتمعي لكل منها، بل وصدرت معاجم ومجلات في اللغات الأمازيغية والتباوية التي يسمع عنها لأول مرة العالم، ولهذا اعتبروا قبائل ليبية وهم قوم لهم تاريخهم ولغتهم ومن سكان الصحراء القدماء وممن ساهم في حضاراتها القديمة.
ليبيا الجديدة تغتال الثقافة
لقد كان على ليبيا الجديدة أن تستوعب تنوعها الثقافي والحضاري في إطار دولة قادرة على احترام خصوصيات الأفراد، وعلى فتح المجال أمام هذا التنوع أن يفرز منتجا ثقافيا زاخرا بالكم وباذخا بالكيف، خصوصا وأنها تعج بالمواهب والطاقات التي كانت تبحث لنفسها عن فضاء تطلق فيه أجنحة العطاء الفني والفكري والأدبي، وتحيي فيه موروثها الثري وخاصة في مجال الشعر والموسيقى والمأثورات والقصص والعادات والتقاليد والآثار وغيرها.
لكن القوى السياسية المتسلحة بعنف الميليشيات سعت إلى تحييد المثقف الحقيقي عن دوره، خصوصا بالاستهداف المباشر للإعلاميين والصحافيين والحقوقيين والناشطين السياسيين، وترويع المرأة، ومحاولة فرض ثقافة وافدة على المجتمع، وكبت الأصوات الحرة التي تمثل في غالبها مشروعا للخروج من القمقم الأخلاقي الاجتماعي نحو أفق إنساني رحب، ورغم أن الفنانين الشعبيين نجحوا في القفز وراء الأزمة شعرا وغناء متحصنين بقدرتهم الفائقة على ربط الصلة المباشرة مع المجتمع، إلا أن بقية المبدعين وجدوا أنفسهم مدفوعين إلى العزلة التي يمكن فهم أسبابها باعتبارها استمرارا منهجيا لما كان قبل العام 2011.
ففي العام 2008 كتب عبدالمنصف البوري برؤية المعارض لنظام القذافي، وهو يشغل حاليا منصب سفير بلاده في الدوحة “في ليبيا هناك ظاهرة غريبة تبدو أكثر وضوحا عن غيرها في بقية الدول العربية، وهي ظاهرة إرغام غالبية المثقفين الليبيين للتخلي عن أدوارهم في المجتمع الذي ولدوا وتربوا وترعرعوا فيه، ومحاولة قطع صلتهم بالوطن بحيث لا تتجاوز هذه الصلة التواجد المكاني المجرد فقط، وجعل علاقتهم به وبالمجتمع ككل لا تعرف معنى الانتماء إلى الوطن، بكل ما يمثله هذا الانتماء من حقوق وواجبات، وما يتطلبه من روابط وعطاء وبذل وتضحيات”.
عمر أبوالقاسم الككلي: البعض من المثقفين في ليبيا تعرض للاختطاف والاغتيال
ويبدو أن هذا التصور لموقف أو دور المثقف الليبي لم يختلف بعد 2011 وهو ما أشار إليه أبوالقاسم قزيط بعد حديثه عن مواقف مبدعين وفنانين كبار من الحروب والأزمات التي عرفتها بلدانهم ومستشهدا بموقف بيكاسو من الحرب الأهلية في إسبانيا، مستنتجا أن “المثقف الليبي يتسلح بصمت القبور انتظارا لموجة تعلو حتى يركبها، أو ينحاز بقوة لأحد الأطراف بغض النظر عن صوابية مواقفها، أو يحاول أن يكون في موقف بعيد عن النقد والقدح وهو المستحيل بعينه في مجتمع تحول جزء كبير من نشطائه وسياسييه إلى شتامين”، ومتسائلا “أليس دور المثقف هو تنوير المجتمع. فإن كان واجبا في الماضي لأن المجتمع جاهل وأمي، فهو اليوم أكثر وجوبا في عصر سرقة عقول الناس بالإعلام الموجه، وسيل الفخاخ التي تنصب للعقول في فضاء الميديا والتواصل الاجتماعي، مما جعل معظم الناس يغرقون في الزيف والوهم والسراب”.
وتابع “المثقف هو من بين النخبة القليلة القادرة على العوم في متاهات الوهم هذه.. فالمثقف الحقيقي هو مثقف عضوي في التحليل الأخير، لا يمكن أن يدفن رأسه في الرمال وألا ينتصر حتى لمبدأ السلم الأهلي.. فهل هناك جذوة من الإحساس بالواجب تجاه المجتمع ينفخ فيها، وهل نأمل من المثقف الليبي غرنيكا ليبية؟”.
لكن الكاتب عمر أبوالقاسم الككلي يرى أنه كان أحرى ببلقاسم قزيط ألا يهاجم المثقف الليبي، وإنما يهاجم الذين يهاجمون المثقف ويخنقونه، حرصا على عافية الثقافة وسلامة المثقف وتوفير مناخ صحي لنشاطه، مشيرا إلى أن قزيط قد لا يعرف ما كان يتعرض له المثقفون في عهد النظام السابق من تضييق وسجن، ولا ما أصبح ينالهم بعد زواله من مصادرة للكتب وتكفير، مستندا في ذلك إلى حالات الاختطاف والاغتيال التي طالت بعض المثقفين من كتاب وصحافيين ونشطاء مجتمع مدني، وإلى قضية الكاتب خليل الحاسي وتكفيره بسبب كتاب “شمس على نوافذ مغلقة” وما تلا ذلك من تهديد لحياته.
وتعود قصة كتاب “شمس على نوافذ مغلقة” الذي شارك في تأليفه عدد من الكتاب والأدباء الشبان إلى العام 2017 عندما صدر عن دار نشر مصرية، وفي 25 مايو من ذلك العام جرى الاحتفاء به في مقر الجامعة الأميركية بالقاهرة، ثم من خلال حفل توقيع في طرابلس في شهر يوليو في دار الفقيه حسن، بالتنسيق مع الجمعية الليبية للآداب والفنون.
وفي الـ17 من الشهر نفسه تم الاحتفاء بالكتاب في مدينة بنغازي برعاية مكتب الثقافة والإعلام ببنغازي برواق وهبي البوري، لكن عندما أقيم حفل للكتاب في مدينة الزاوية في 26 أغسطس 2017 بدأت أزمة الكتاب في ليبيا، وخرج أحد الشيوخ السلفيين ويدعى مجدي حفالة من مسجد “عائشة أم المؤمنين” بحي الأكواخ بطرابلس للتحريض على المشاركين في الكتاب، واصفا إيّاهم بالسفهاء والمجرمين، أما “كتاباتهم فهي فاجرة، تريد إفساد البلد المسلم وتلويثه”، وحرّض من وصفهم بولاة الأمر من الجهات الرسمية والأمنية “بمنع طباعة الكتاب ونشره وعدم التهاون والضرب بيد من حديد ضد كل من يتطاول على الدين الإسلامي”، و”حذر الكتاب المشاركين في الكتاب بأن أقدام الدعوة السلفية ستطأهم”.
وفي شرق البلاد، قام الشيخ محمد الدرسي خلال خطبة الجمعة بمسجد العلي القدير بمدينة البيضاء بتكفير الكاتب خليل الحاسي حيث وصفه بأنه “شيعي كافر”، محرضا عليه المصلين، وداعيا إياهم إلى عدم الاقتراب منه.
وأوضح بيان لعدد من الكتاب والأدباء الليبيين أن نشر كتاب يعد إنجازا متميزا ومهما في الحركة الثقافية الوطنية الليبية، هو كتاب “شمس على نوافذ مغلقة” الذي ضم كتابات شباب ليبيين في مجالات الشعر والقصة والرواية كتبت بعد سنة 2011، أدى إلى حالة من الاعتراض والغضب، وجرى التشهير بأسماء كاتبات صاحبات نصوص في الكتاب، ومحرري الكتاب كما تم اتهام كاتب رواية “كاشان” بتهم متفرقة وصلت لحد تكفيره، بل بلغ الأمر حد التهديد والتحقيق مع البعض منهم، ووسط انتقاد عنيف على كل المستويات الرسمية والشعبية، بل تعدى الأمر ذلك إلى المطالبة بمحاكمة أصحاب النصوص المنشورة في الكتاب ووصفهم بالعمالة والمطالبة بإنزال أشد العقوبات عليهم، وآخر هذه التطوّرات الخطيرة، هو إقدام مجموعة مسلّحة على إغلاق دار حسن الفقيه حسن التاريخية التي شهدت حفل التوقيع على كتاب “شمس على نوافذ مغلقة”.
ويعتقد المراقبون أن اتساع دائرة التشدد الديني في ليبيا بات واضحا للعيان، سواء في غرب البلاد الخاضع لحكم الإسلام السياسي وبعض التيارات الجهادية المتسترة بحكومة الوفاق، أو في المنطقة الشرقية حيث تسجل الحركة السلفية تمددا تحت غطاء دعم المؤسسة العسكرية في مواجهة جماعة الإخوان وحلفائهم، وفي الحالتين يتم تضييق الخناق على الأفكار المتحررة والإبداعات الفنية والأدبية، التي تحاول أن تطرح الأسئلة الصعبة في علاقة بطبيعة المجتمع الذي لا يزال يواجه محاولات للإبقاء عليه في حالة انغلاق أمام رياح الحرية والتنوير.
تهميش مستمر
مما يزيد الطين بلة، أن الحكومات المتعاقبة منذ العام 2011 عملت على أن تجعل من الثقافة مسألة هامشية بإخضاعها لسلطة القرار السياسي والرؤية العقائدية ضمن منظومة الصراع القائم، وتم في أغلب الحالات تعيين شخصيات جدلية على رأس المؤسسات المهتمة بالثقافة، مع جعل الثقافة والإعلام تحت غطاء إداري واحد، رغم الاختلاف بينهما في ظل ما يسمى بالدولة المدنية الديمقراطية غير المنجزة، وهو ما تم تفسيره بعد ذلك بأن على الثقافة أن توفر المادة المستساغة للبث الإعلامي وفق حسابات ومصالح وقناعات من يقف وراء أجهزة الإعلام التي لا تعدو أن تكون أبواقا لمن يقف وراءها.
وبرأيه فإن “لهذا التحول انعكاسا سلبيا على الثقافة التي باتت مغتالة بلا هوية، والمثقفين الذين انقسموا إلى مصطفين خلف صفوف المتحاربين، ضاربين عرض الحائط بالمبادئ والثوابت الوطنية وبين المنزوين الذين تراجعوا خطوة إلى الخلف في انتظار ما ستسفر عنه الأحداث وفي كلتا الحالتين تُغتال الثقافة وتغيب ملامح مشهدها الحقيقية حيث ومع صوت الرصاص وفوهات البنادق اختفى المثقف الحقيقي، وبرز أشباه المثقفين”.وفي هذا السياق، اعتبر الأديب والكاتب الليبي فرج رزق أن “المشهد الثقافي في ليبيا منسجم مع مجريات الأحداث، ولم يستطع أن يرسم ملامحه بشكل بارز وسط حزمة الأزمات التي تمر بها البلاد منذ فبراير 2011 حتى يومنا هذا”، لافتا إلى “أن أغلب من تقلدوا مهام إدارة هيئة الثقافة والإعلام لعبت بهم كرة الصراعات السياسية ومغريات الفرقاء ليتحولوا إلى طرف رئيس في الصراع”.
ورأى المحلل التونسي المهتم بالشأن الليبي شريف الزيتوني أن معاناة المثقف الليبي بعد 2011 تنقسم إلى قسمين؛ قسم تتحمله الدولة الهشّة التي قامت بعد تلك التحولات، من خلال إهمالها للثقافة وانخراط المشرفين عليها في العمل السياسي في سياق صراع المواقع الذي ضرب المشهد الليبي، فأصبح المثقف على هامش الخارطة، في مستوى توفير الفضاءات التي تسمح له بالنشاط، وفي مستوى احترامه ماديا حيث غابت كل أشكال الدعم التي تحفظ للمبدعين كرامتهم.
عدد من المثقفين المحسوبين على العهد السابق اضطر إلى الهجرة بينما تم الدفع بآخرين إلى السجون
أما القسم الثاني وهو الأخطر، هو صعود أفكار رافضة أصلا لدور الثقافة، تحت تبريرات دينيّة تحرّم كل ما هو إبداع، بل تهدد وتصفّي كل من لا يسير في صفّها.
ويستنتج أغلب المتابعين للساحة الثقافية الليبية أن المشكلة الأكبر التي يواجهها المثقفون هي غياب الحماس المجتمعي لدورهم التنويري والتحديثي في ظل حالة تكفير وتخوين لكل القيم الحداثية ناتجة عن تشدد في التمسك بالثقافة التقليدية وبالانغلاق على الهوية القبلية التي ترى في أي مشروع ليبرالي أو علماني أو ديمقراطي ضربا لها وتهميشا لدورها، وهو ما جعل السلفية القبلية تتخفى وراء السلفية الدينية أو العصبية العرقية لتواجه أي مد لا يوافق مصالحها، لذلك بات من الطبيعي أن تحتفي المدن والقبائل الليبية بحصول حافظ شاب على جائزة في مسابقة للقرآن الكريم، وترى فيه إنجازا عظيما، بينما لا تهتم لظهور رواية أو فيلم أو مسرحية أو ديوان شعر حديث.
وكما يقول الشاعر والقاص الليبي جمعة الفاخري وزير الثقافة في الحكومة المؤقتة “رغم أن المثقف الحقيقي يبرزُ في مثلِ هذه المنعطفات التاريخية الخطرة، ويساهم في إخماد نيرانِ الفتن، والسَّعي للمصالحة بين أبناء الوطنِ الواحد، ورأب تصدعات المجتمع النَّاتجة عن ارتدادات زلازل الحروب الفظيعة المفجعة”، إلا أن ما يحدث الآن هو أن المثقف لم يواكب الأزمة إلا بالاستقالة من المشاركة في صناعة الحلول.
ويعود ذلك إلى أن أقلية اندمجت في الصراع السياسي من باب الحفاظ على مصالحها من خارج دائرة دورها الحقيقي، وأغلبية ركنت إلى الصمت في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع، ليبقى الكشف عن إبداعها الفكري والأدبي والفني رهين الأمل ليس فقط في عودة الأمن والاستقرار وبناء مؤسسات الدولة، ولكن في لجم الفكر الديني المتشدد وإعطاء مشروع التنوير والتحديث ما يستحقه في ظل دولة مدنية ديمقراطية تبدأ في تكريس دور الثقافة في بناء شخصية الفرد منذ طفولته الأولى ثم عبر التعليم والإعلام، وهو سيؤدي حتما إلى أن يفتح العالم عينيه على الرصيد الثري للثقافة الليبية بكافة تلويناتها وتنوع مصادرها ومدارسها وتوجهاتها.
العرب