عادت «المسألة الشرقية» و»الإسلاموفوبيا» لتشكّل الأجندة الرئيسية لدى الدول الغربية من جديد. لأن الغرب، كلما ضاق به الخناق، يلجأ إلى هذين المفهومين ويتمسك بهما، وكان يحدّد الأجندة العالمية خلال القرن الماضي بالضجة والأخبار الملفقة، التي ينتجها باستخدامِهما. ويستهدف الغربيون اليوم من جديد وبشكل جماعي البلدان الإسلامية، التي تحرص على انتهاج سياسات مستقلة. وفي هذا الصدد، تعتبر العقوبات الأمريكية الأخيرة ضد تركيا من أعمال القراصنة وقطّاع الطرق.
أصبحت «المسألة الشرقية الجديدة» هي السبب الرئيسي وراء العداء المتزايد ضد تركيا في الغرب، خلال السنوات الأخيرة. كما أن «التُركوفوبيا» هي السبب الرئيسي وراء تأجيج «الإسلاموفوبيا» من قبل بعض الدول الغربية بقيادة فرنسا. علينا ألا ننسى بأن المسألة الشرقية عبارة عن صراع بدأ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، من أجل تصفية الدولة العثمانية وتقاسم أراضيها، وقد أُلّفت العديد من الكتب حول هذا الموضوع في الشرق والغرب.
«التُركوفوبيا» هي السبب الرئيسي وراء تأجيج «الإسلاموفوبيا» من قبل بعض الدول الغربية بقيادة فرنسا
يعرّف العالم الغربي نفسه عبر «الآخر» ودائمًا ما يشعر بـ»الرهاب» منه. علمًا أن هذا الوضع، المستمر منذ الإغريق والرومان، يشكّل شخصية/روح الغرب في يومنا هذا. ومن المثير للاهتمام أن أصل كلمة «الهمجية» يعود لكلمة «الأجنبي» في اللغة الإغريقية. أمّا كلمة فوبيا (الرهاب) فيعود أصلها إلى كلمة «فوبوس» في اللغة اللاتينية. ووفقًا للأساطير الإغريقية، فإن فوبوس هو إله الرعب، الذي لا يفارق إله الحرب آريس. ويشرح قاموس مؤسسة اللغة التركية كلمة «فوبيا» بأنها «الخوف الشديد والفزع، بدرجة غير عادية تجاه أشياء أو مواقف معينة».
كما ذكرنا آنفًا، ظاهرة الزينوفوبيا (رهاب الأجانب) لدى الغرب، أي الخوف من المجهول، ليست وليدة اليوم، بل على العكس، تعود جذوره إلى العصور القديمة. مثلما كان خوف الإغريق والرومان تجاه البحر الأبيض المتوسط، وبلاد ما بين النهرين في فترة ما قبل الإسلام، فإن الخوف الذي تشعر به أوروبا الحالية يتشكل بالطريقة نفسها، أي أن اعتبار الآخر غير المنتمي إليهم أجنبيًا/همجيًا، يعد ظاهرة قديمة. وما يجسد ذلك هو تسويق/شيطنة هذا الخوف بأسماء مثل الإيِماجولوجيا والإيِتيمولوجيا. إن «الرُهاب» المستشري في القصص والأساطير والأفلام والفن والنصوص الدينية المحرفة لدى الغرب، نشأ بالكامل من هذا المزاج. بعد ظهور الإسلام، اتجه «رهاب» الغرب هذه المرة نحو العالم الإسلامي. وشكّلت الشعوب المغاربية «الرهاب» الأول للغرب، لأنهم كانوا أول من أوصل الإسلام إلى أوروبا القارية – البرتغال وإسبانيا (الأندلس) ومالطا (مدينة) وجزيرة صقلية – وشكّلت هذه الشعوب التي أطلق عليها اسم «ساراكينوس» حيزًا كبيرًا في رموز الرسامين الغربيين. الشيء الوحيد الذي لم يتغير في لوحة «سانتياغو قاتل المغاربة» التي شهدت تغيرات كثيرة عبر القرون، هو رمز الشخصية المغربية.
وبعد فتح إسطنبول، وضع الغرب الأتراك في قلب «رهابه» اعتبارًا من القرن الخامس عشر، وبذلك شكّل الأتراك هذه المرة محور جميع الرسوم السلبية، حيث تم تصويرهم على هيئة وحوش يحملون السيف، ولديهم لحى ويرتدون العمامات، يأتون لحرق وتدمير الغرب، لتتحول رسوم «الأتراك» إلى شبح مخيف بالنسبة إلى الأوروبيين، الذين بدأوا بالحديث عن الأتراك على أنهم ينحدرون من جذور سكان طروادة، بسبب خوفهم القديم من هؤلاء في السابق. حتى إن بعض المؤرخين الغربيين، زعموا في كتبهم أن اسم تُرك (Turco) يعني مسبب الألم (a torquendo) أو التعذيب (a tortura) وأن الأتراك هم شعب يثير الشغب ويعذّب كل من يقع بين يديه. وآخرون مارسوا لعبة الديماغوجيا المألوفة حيال كلمة تُرك، وقاموا باستخدام «truces» (جزار) بدلًا من «teucri» (التركي). استخدم الغربيون كلمات «ساراكينوس» و»المغربي» و»التركي» كمرادفات للكلمات الإسلامية في أغلب الأحيان، وبعد القرن السادس عشر انتشرت كلمة «التركي» في الغرب لتحل محل كلمة «المسلم» واستخدمت عبارات مثل «تحول إلى تركي» عند الحديث عن أولئك الذين يعتنقون الإسلام. ويمكن القول إن «رهاب الأتراك» الذي يسمى في اللغة الإنكليزية «Turcophobia» وفي اللغة الألمانية «Türken Furcht» بلغ ذروته في العصر الجديد للغرب. بهذه الطريقة خضعت شعوب العالم الغربي قرونًا طويلة لتأثير الدعاية السوداء المكثفة ضد الأتراك والعرب، والإسلام والمسلمين، والقرآن ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. ووصل الأمر إلى إطلاق لقب «Mahound» (كلبي) على سيدنا الرسول، وهو من نتائج هذا الرهاب الذي لا يزال موجودًا في كتب ورسوم عدد كبير من الأدباء الغربيين، ويواصل دغدغة العقل الباطن للشعوب الغربية.
لم ينته رهاب الأتراك/الإسلام حتى في فترات «النهضة» و»الإصلاح» و»الإنسانية» التي ظهرت في أوروبا، تحت تأثير العالم الإسلامي، أي عندما بدأت المشاعر الدينية تتلاشى. لم تكن ظاهرة «التُركوفوبيا» أو «الإسلاموفوبيا» في الغرب مشكلة ذات أهمية ثقافية فحسب، بل اكتسبت هويتها السياسية مكانة أكبر مع مرور الوقت. ويكمن التراكم التاريخي الذي يحتل العقل الباطن لدى الغرب وراء حقده المستمر إلى اليوم، تجاه العالم الإسلامي عمومًا وتركيا بشكل خاص، رغم جميع التغيرات التي حصلت. ينبغي ألا ننسى أن أوروبا الحديثة، التي ظهرت بعد العصور الوسطى في الغرب، ولدت في وقت بدأت فيه الحروب الصليبية. وهذه الحروب لا تزال تحافظ على مكانها في ذاكرة أوروبا العجوز، رغم التغيرات التي شهدتها منذ الفترات الأولى لولادتها. يخبرنا علم الاجتماع وعلم النفس الحديث، أن التأثيرات العنيفة التي تحدث في فترة الطفولة الأولى تستمر طوال الحياة، سواء كانت مكشوفة أو مخفية، وأن هذا الأمر يطال المجتمعات مثل الأفراد. نحن نعلم اليوم أن الآثار التي خلفتها تلك الظواهر عميقة جدًا في العالم الغربي. لدرجة أنه من الصعب جدًا على التجارب العقلية والجهود المبذولة محوها حتى في المرحلة التالية من الحياة، التي تتشكل بالفكر أكثر من العاطفة، حتى إن تمكنت من محوها، فإنه من النادر جدًا أن تختفي جميع الآثار.
في المحصلة، كل شيء واضح للعيان حيال العقل الباطن المليء بـ»الإسلاموفوبيا» و»التُركوفوبيا» لدى العالم الغربي، الذي سينظر إلى كل خطوة تخطوها البلدان الإسلامية من أجل التقدم والتطور على أنها خطوة متخذة ضده. وتجلّى ذلك بالفعل خلال الفترة الأخيرة ضد تركيا التي تشهد صعودًا في جميع المجالات. ويجب قراءة العقوبات المفروضة على الجانب التركي في هذا السياق. لذلك بقي هناك شيء وحيد ينبغي القيام به، وهو تطهير العقل الباطن الغربي من هذا الدنس والقذارة، وإلا فإن الغرب والعالم الإسلامي سيتكبدان خسائر فادحة أمام الصين التي تتجه لأن تصبح قوة عظمى.
القدس العربي