حتى سبتمبر/ أيلول 2020 كان سعر الفائدة في المصارف التركية بحدود 10.25%، ولكن في ضوء ما شهدته تركيا من انخفاض متتابع للعملة المحلية، وتولي محافظ جديد للبنك المركزي، اتجهت السياسة النقدية لنهج جديد، تمثل في تبني سياسة رفع سعر الفائدة. فكان الرفع الأول في 20 نوفمبر 2020، ليصل السعر إلى 15%، بزيادة 4.75%، ويوم 25 ديسمبر 2020، كان موعد الزيادة الثانية على التوالي ليقفز السعر إلى 17%.
على إثر السياسة الجديدة لزيادة سعر الفائدة، تحسن سعر صرف الليرة التركية، ليستقر عند 7.56 ليرات للدولار الواحد حسب أسعار 25 ديسمبر 2020، وبذلك اعتبر البعض أن هذه هي السياسة الناجعة للاقتصاد التركي، وكأن سعر الفائدة أصبح عصب السياسة النقدية، وأن تلك السياسة أصبحت عصب السياسة الاقتصادية.
لكن حقيقة الأمر، أن المعالجة بهذه الصورة تركز على جانب واحد وهو تحسن سعر الصرف، وتُهمل جوانب أخرى، قد تتسبب في أضرار كثيرة، ومن هنا نحاول في هذه السطور، تناول مآلات اعتماد السياسة الاقتصادية لبلد مثل تركيا على آلية سعر الفائدة.
ظن البعض أن خفض سعر الفائدة في تركيا خلال الفترة الماضية، حتى وصل إلى 8.25% في مايو 2020، كان خطأ، لأنها لم تؤت أوكلها تجاه انخفاضات متتالية لسعر الليرة التركية، وبالتالي لا بد من الذهاب إلى آلية رفع سعر الفائدة للحفاظ على قيمة العملة المحلية.
وتناسى هؤلاء أن انخفاض سعر الفائدة في تركيا، هو توجه صحيح، ولكنه كان بحاجة إلى حزمة من السياسات التي تساعد على ذلك، حتى يصل سعر الفائدة إلى مثيله في أميركا وأوروبا، ثم يصل إلى صفر. وأهم هذه المتطلبات اتخاذ قرارات جادة على مستوى السياسة الاقتصادية بتفعيل صيغ الاستثمار التي تعتمد على المشاركة، وتقليص تدريجي لآلية الديون في المعاملات التجارية والمالية.
فالمجتمع التركي، ومن خلال معايشة كاتب هذه السطور، على مدار نحو 5 سنوات مضت، مثله مثل باقي الاقتصاديات الرأسمالية، يعتمد على آلية الائتمان بشكل كبير، حتى في أصغر المعاملات مثل شراء قطعة واحدة من الملابس مثلاً. فالبائع يسألك عن طريقة الدفع، إن كانت نقدًا، تحصل على سعر أفضل، أما إن كانت عن طريق إحدى أدوات الائتمان، مثل بطاقات البنوك وغيرها، فهناك سعر آخر أغلى.
ومثال آخر في إيجار البيوت، وهو السائد بين سكان إسطنبول مثلًا، فأصحاب العقارات يرفضون استلام مبالغ الإيجار الشهري أو السنوي نقدًا، ويصرون على إيداع الإيجار في حساباتهم البنكية. وليس ذلك لاعتبارات أمنية، أو غير ذلك، ولكن لارتباطهم بسداد التزامات أخرى تجاه مستلزمات حياتهم، وسداد أقساط دائمة.ولذلك يمكننا القول إن الأمر لم يكن بسبب تدخل الرئيس رجب طيب أردوغان، وإصراره على اتباع سياسة تخفيض سعر الفائدة، ولكن بسبب أن قرار خفض الفائدة، كان يحتاج المتطلبات التي ذكرناها، ليكون الجميع مستفيدا من هذه السياسة، وحتى لا يستفيد طرف المستثمرين، ويتضرر طرف المدخرين.
كثرًا ما يذكر كتاب الاقتصاد الرأسمالي أن التضخم هو آفة الاقتصاديات الرأسمالية، وهذه الحقيقة مبنية على الشق الآخر، والمتسبب الأكبر في التضخم، بجانب عوامل أخرى، في استمرار ظاهرة التضخم في المجتمعات الرأسمالية.
يروج من يرون الاعتماد على آلية سعر الفائدة لإدارة السياسة النقدية، ومن ثمة الحياة الاقتصادية، بأن حالة رفع سعر الفائدة في تركيا مثلًا والتي ظهرت خلال الشهرين الماضيين، أدت إلى تحسن سعر صرف العملة، وبالتالي سيتجه المدخرون لبيع ما لديهم من عملات أجنبية، ويدعون أموالهم في البنوك، للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع، والذي وصل إلى 17%.
لكن ذلك جانب يفسر إيجابيات رفع سعر الفائدة بالنسبة للعملة المحلية، وكذلك خفض معدلات التضخم المنتظر، ولكن يتم إغفال جانب مهم لرفع الفائدة على مكونات السياسة الإنتاجية والاستثمارية والتوظيف، ففي ظل رفع الفائدة نجد أن تكاليف الإنتاج سترتفع، ويظهر لنا التضخم في صورة أخرى، وهي جانب العرض، الذي يعني زيادة تكاليف الإنتاج.
ولذلك يتوقع أن يتراجع إقدام رجال الأعمال على الاقتراض من البنوك في ظل زيادة الفائدة، وبذلك تتراجع معدلات الاستثمار، المتمثلة في زيادة الاستثمارات الحالية، أو إنشاء استثمارات جديدة. كما أن ذلك يكون له أثره السيئ بالاستغناء عن العمالة، أو على أقل تقدير عدم التفكير في زيادة القوى العاملة الحالية.
ولا ننسى أن رفع الفائدة سوف يكبد الميزانية التركية في 2021، أعباءً أكبر مما كان عليه الحال في 2019، بسبب أن الحكومة لديها نحو 140 مليار دولار دينا محليا، فضلًا عن قرابة 126 مليار دينا خارجيا، وفي حالة قيامها بالاقتراض من السوقين المحلي والخارجي، فسيكون ذلك وفق معدلات الفائدة السائدة محليا.
فضلًا عن أن السوق التركية، ستكون مهبط الأموال الساخنة، للمستثمرين الأجانب، للاستفادة من سعر الفائدة الذي وصل إلى 17%، والذي أصبح من أكبر معدلات الفائدة في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر يعرض تركيا لضغط وتلاعب هؤلاء المستثمرين.
القراءات الخاطئة: هناك مقولات يتم إطلاقها، ويعتقد البعض بصحتها في كل الأحوال، ويتناسون شروط تحقيقها، مثل ما حدث مع انخفاض قيمة العملة المحلية في تركيا، واللجوء إلى تبرير سعر الفائدة ورفعه لمساندة الليرة. الحقيقة هي أن تركيا تأثرت مواردها من النقد الأجنبي كثرًا في ظل جائحة كورونا، وأبرز هذه الموارد إيرادات السياحة، حيث تُعد تركيا واحدة من أهم عشرة مقاصد سياحية على مستوى العالم، وحققت تركيا خلال عام 2019 نحو 40 مليار دولار، وكانت تأمل في زيادة هذه الإيرادات في 2020، لولا الجائحة.وفي ظل هذا التراجع للإيرادات من النقد الأجنبي، كانت هناك متطلبات والتزامات لسداد أعباء الديون الخارجية، سواء للحكومة أو القطاع الخاص، ولا ننسى دور المضاربين المتربصين بأي اقتصاد لاقتناص الأرباح السريع، ولو على حساب اقتصاديات بلدانهم، وكذلك ظاهرة الدولرة، التي اتجه لها المدخرون الأتراك بشكل كبير.
كل ذلك أدى إلى انخفاض سعر صرف الليرة، وليس فقط لأن السياسة النقدية تبنت سياسة لخفض سعر الفائدة، ومن هنا وجب التنبيه إلى ضرورة قراءة المشكلات الاقتصادية في ضوء مؤشرات الاقتصاد الكلي، وليس وفق مؤشر واحد منها.
بلا شك أن سلاح سعر الفائدة هو من أفشل أدوات السياسة المالية، وأكثرها ضررًا على اقتصاديات أي بلد، لأنه عين الربا، وصانع الأزمات المالية العالمية والإقليمية الكبرى، وإذا ما أردت تركيا الخروج من هذا المستنقع بشكل جذري، فعليها أن توسع قاعدة التمويل بالمشاركة، واستخدام أدوات الاستثمار الإسلامي المختلفة، حتى تغطي قطاعًا كبيرًا من النشاط التجاري والمالي، على أن يصاحب ذلك تخفيض تدريجي لسعر الفائدة، فلا ينبغي التعامل مع سعر الفائدة بمنطق الصدمة صعودًا هبوطًا، كما تم في عامي 2019 و2020. ومن المهم أن تتبنى الإدارة الاقتصادية بتركيا، سياسة تؤمن تقليل المضاربة على العملة المحلية، وكذلك إحياء البورصة على قواعد سليمة، بعيدة عن المضاربة.
عبدالحافظ الصاوي
العربي الجديد