هل تسهم العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة على تركيا في وضع حدّ لسياساتها التي توصف بالعدوانية في المنطقة؟ وهل تشجّعها على إعادة النظر في مسارها الصدامي مع حلفائها الغربيين في حلف شمال الأطلسي؟ هل يمضي الرئيس رجب طيب أردوغان في عناده ويكمل التصعيد والتوتير مع واشنطن، أم أنه سيتراجع ويتّبع سياسة حافّة الهاوية التي يعرف بها؟ هل نشهد بداية افتراق وطلاق بين تركيا من جهة، والولايات المتّحدة وأوروبا من جهة أخرى، أم أنّ تحالفهما أقوى من أيّ أزمات “عابرة”؟
في مقال مشترك لهما في موقع مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، أشار برادلي بومان، وهو مدير أول لمركز القوة العسكرية والسياسية في هذه المؤسسة، والكاتب والباحث التركي أيكان إردمير، وهو عضو سابق في البرلمان التركي ومدير أول لبرنامج تركيا في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، إلى أنّه على الرغم من أن العقوبات الأميركية لا تستهدف القطاع المالي في تركيا، إلا أن المستثمرين العالميين القلقين من المخاطر السياسية المتزايدة في تركيا من المرجح أن يستمروا في نزوحهم المستمر من السندات والأسهم التركية.
فرضت إدارة ترامب العقوبات على تركيا وفقًا للمادة 231 من قانون مكافحة أعداء أميركا (قانون كاتسا)، الذي يستهدف المعاملات المهمة مع قطاعي الدفاع أو الاستخبارات الروسيين. وتشمل العقوبات التي تم الإعلان عنها في وقت سابق من هذا الشهر حظرًا على تراخيص التصدير الأميركية ضد وكالة المشتريات الدفاعية التركية، ورئاسة الصناعات الدفاعية، كما تفرض العقوبات قيودًا على التأشيرات وتجميدًا للأصول على أربعة من المسؤولين التنفيذيين الرئيسيين في هيئة الرقابة الشرعية، بمن فيهم رئيسها إسماعيل دمير.
وبحسب الكاتبين، فإنّ هذا الإجراء الأميركي هو المرة الأولى التي تفرض فيها واشنطن عقوبات “كاتسا” ضد دولة عضو في حلف الناتو. ومع ذلك، فإن أنقرة، من خلال شراء نظام دفاع جوي روسي، تزيد من التهديد الرئيسي للحلف، وكانت تتصرف كحليف في الناتو.
وقعت تركيا صفقة نظام (إس-400) مع شركة روسوبورونيكسبورت، الكيان الرئيسي لتصدير الأسلحة في روسيا، في أيلول (سبتمبر) 2017، واستلمت أول بطاريتين في تموز (يوليو) وأيلول (سبتمبر) من العام 2019. وفي 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2020، وعلى الرغم من الطلبات والتحذيرات المتكررة من واشنطن، أجرت تركيا اختباراً مباشرًا للمنظومة الصاروخية، ما أظهر استخفافاً ملحوظاً بمخاوف واشنطن وبروكسل.
وأدى شراء تركيا نظام (إس-400) إلى إبعادها عن برنامج طائرات (إف-35) التي كان من المقرر أن تحصل عليها من الولايات المتحدة، والذي كان من شأنه أن يمكّن روسيا وخصوماً آخرين من الحصول على معلومات استخباراتية قيمة لكيفية إسقاط طائرات (إف-35)، ولذلك ألغت الولايات المتحدة تدريب طيارين أتراك على مقاتلات من هذا الطراز في حزيران (يونيو) 2019، وأزالت أنقرة من برنامجها بعد شهر واحد.
وفق برادلي وإردمير، فإنّ استحواذ أنقرة على نظام (إس-400) يخلق مشاكل خطيرة تتعلق بدمج تركيا في أنظمة الدفاع الجوي لحلف الناتو، مما قد يتسبّب بإشكالات خطيرة لطياري الناتو.
ويلفت الكاتبان إلى أنّ تركيا كانت ذات يوم حصنًا مواليًا للغرب على الجناح الجنوبي الشرقي لحلف شمال الأطلسي. لكنها انحرفت، تحت قيادة أردوغان، عن الحلف تجاه موسكو، مما أدى بشكل متزايد إلى تقويض الاستقرار الإقليمي ومصالح الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
وقال الكاتبان ان شراء أنقرة لمنظومة (إس-400) هو مجرد جزء واحد من هذا الاتجاه المقلق الأكبر. وكما هو موضح في تقرير رئيسي جديد صادر عن مركز القوة العسكرية والسياسية التابع لقوى الدفاع عن الديمقراطية، فإنّ أنقرة انخرطت أيضًا في “دبلوماسية الزوارق الحربية لتحدي الحدود البحرية، والحرب بالوكالة في ليبيا، وتسليح المهاجرين وتوجيههم صوب أوروبا، ورعاية الإخوان المسلمين وحماس”.
وتبعاً لذلك، هناك إحباط متزايد لدى الحزبين الرئيسين تجاه تركيا في واشنطن. وأكد قادة الكونغرس أن قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2021 استدعى من المؤتمر تضمين بند يتطلب فرض عقوبات “كاتسا” على تركيا. وبعد أن أقر مجلس الشيوخ ومجلس النواب مشروع القانون بأغلبية مانعة لحق النقض، تصرف الرئيس دونالد ترامب مباشرة وفرض العقوبات.
وصرح وزير الخارجية مايك بومبيو في يوم إصدار العقوبات نفسه بأن هذه الخطوة “ترسل إشارة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة ستنفذ قانون كاتسا بالكامل”، وأنها “لن تتسامح مع المعاملات المهمة مع قطاعي الدفاع والاستخبارات في روسيا”. ومن المرجح أن تثير هذه الرسالة اهتمامًا واسع النطاق، بما في ذلك في المملكة العربية السعودية وقطر والهند؛ وهي ثلاث دول إما تفكر في شراء منظومة (إس-400) أو تشتريها مُسبقاً.
ولفت الكاتبان في مقالهما إلى أنّ المرء يأمل في أن تشجع العقوبات أنقرة على إعادة النظر في مسارها الحالي وأن تصبح مرة أخرى عضوًا في (الناتو) في وضع جيد، وحذّرا من أنّه إذا لم يكن الأمر كذلك، فيجب على واشنطن اتخاذ خطوات إضافية لإجبار أردوغان على دفع تكلفة تصرفاته وسياساته.
وفي سياق متصل، قاد إليوت إنجل، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي، والسيناتور مايكل مكول، أكبر عضو جمهوري بالكونغرس، التحركات ضدّ تركيا، وأصدرا في الكونغرس بيانًا ضدها جاء فيه: “إننا نشعر بالقلق من التهديد الذي يشكله سلوك تركيا الاستفزازي بشكل متزايد لعلاقاتنا الثنائية وتحالف الناتو الأوسع، والمستمر منذ عقود”. وأضافا أنّ العلاقات الأميركية التركية مهمة للغاية بحيث يجب أن تكون قوية، وأنه يجب أن تواجه تركيا ردّاً أقوى على سلوكاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، ويجب على الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين الذين يعملون مع حلف شمال الأطلسي والشركاء الآخرين استخدام جميع الفرص المتاحة لتغيير اتجاه تركيا.
وجاء في البيان كذلك ان “شراء الرئيس أردوغان لمنظومة الدفاع الصاروخي (إس-400) يعرض تعاونه مع الناتو للخطر، ويهدد مبدأ الدفاع الجماعي الذي يتطلب من جيوش الحلف والقوات المسلحة العمل معا ضد التهديد الذي تمثله روسيا”. ولفتا إلى أنّ هذا الموقف يساعد أيضًا فلاديمير بوتين على الاستمرار في زرع بذور الخلاف في التحالف.
وذكر عضوا الكونغرس في بيانهما المشترك أنّ “الرئيس أردوغان، الذي قيل إنه أرسل مرتزقة سوريين إلى ليبيا وناغورني قره باخ، أشعل صراعات عالمية أخرى”. ولفتا أنّ أردوغان استضاف علانية قادة منظمة حماس المصنفة على لائحة الإرهاب من قبل الولايات المتّحدة.
ورداً على العقوبات، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ان أنقرة لن تتراجع عن صفقة منظومة الدفاع الجوي (إس-400) وستتخذ خطوات للرد بعد تقييم العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليها بسبب شرائها المنظومة روسية الصنع.
وخلال مقابلة مع “القناة 24″، قال جاويش أوغلو ان تركيا لا يمكن أن تخضع لعقوبات ما يطلق عليه “قانون مواجهة أعداء أميركا بالعقوبات” (كاتسا)، مضيفاً أنها قامت بعملية الشراء قبل سن القانون.
وأشار إلى أن القرار يمثل اعتداء على حقوق تركيا السيادية، ولن يكون له أي تأثير. وتابع: “هذا (القرار) لا يتسق مع القانون والدبلوماسية الدوليين وخاطئ من الناحيتين القانونية والسياسة”، مضيفا أن الولايات المتحدة كان يمكنها حل الخلاف بالمنطق السليم لو أنها تعاونت مع تركيا وحلف شمال الأطلسي.
وقال: “لو كان هناك تراجع لكان حدث بالفعل من قبل”، في إشارة إلى قرار شراء منظومة (إس-400). وأضاف: “لا يهم إذا كانت العقوبات بسيطة أم شديدة، العقوبات في حد ذاتها خطأ”.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ان العقوبات هي اعتداء على الصناعات الدفاعية التركية ومصيرها الفشل. وتقول تركيا ان شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية لم يكن خياراً وإنما ضرورة، حيث لم تتمكن من شراء نظم دفاع من أي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي بشروط مرضية.
وهنا يكون السؤال الذي يفرض نفسه: أمام هذه التطوّرات والمستجدّات والتصعيد من الولايات المتّحدة، هل تراجع تركيا سياساتها، وتعدّل مسارها وتتخلّى عما يوصف بالأوهام التوسّعية لأردوغان، أم ستواصل تحدّي واشنطن والغرب ولن تذعن للعقوبات المفروضة عليها؟
أحوال تركية