كان هذا العام بعد كل شيء، هو العام الذي قام فيه النظام السياسي الأميركي بتصحيح نفسه بعد مغازلة خطيرة مع الشعبوية شبه الاستبدادية لتيار اليمين، بينما رفض أيضا شعبوية اليسار التي تزعزع الاستقرار. كما شهد هذا العام جهوداً، بقيادة حلفاء الولايات المتحدة، لبدء إصلاح المنظمات الدولية المحتضرة ووضع آليات جديدة -مثل توسيع مجموعة السبع- من اجل تحقيق تعاون ديمقراطي أعمق وأوسع نطاقا.
* *
واشنطن – كيف قد يبدو العام 2020 للمؤرخين إذا نظروا إلى الوراء بعد نصف قرن من الآن؟ ألم يكن عام كورونا هذا عاماً ومروّعاً بكل المقاييس، حيث انتشرت خلاله حالات المرض والموت والاضطراب في جميع أنحاء العالم؟ ولكن، إذا كان هذا يمثل تحدياً حقيقياً لا يمكن إنكاره في الوقت الحالي، فهل يشكّل هذا العام فاتحة لميلاد نظام عالمي جديد؟
يقول هال براندز، الحاصل على درجة الدكتوراة من جامعة ييل الأميركية، في تقرير نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء: “كنا سنتذكر الحرب العالمية الثانية على نحو مختلف كثيراً، على سبيل المثال، لو كانت أميركا قد انسحبت ببساطة من العالًم وانكفأت على نفسها بعد انتهاء ذلك الصراع، بدلاً من المشاركة الدؤوبة بلا كلل لتشكيل النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب.”
ومع ذلك، من المؤكد أن أحداث العام 2020 سوف تلقي بظلالها على الجهود المستقبلية لتتبع مسار أحداث القرن الحادي والعشرين، والذي ربما يكون العام الذي بدأ فيه النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة في الانهيار، أو ربما يكون العام الذي شهد بعث حياة جديدة، بحسب براندز.
من السهل تخيل الطريقة التي سوف ينظر بها المؤرخون في يوم ما في المستقبل إلى العام 2020 على أنه بداية لعصر مظلم جديد. ففي غضون بضعة أشهر، تسببت صدمات استراتيجية تحدث مرة كل قرن، في ترنح العالم واختلاط مساره.
في هذا العام، أودت جائحة عالمية بحياة الملايين، واصابت بالجمود مجتمعات في عدة قارات، وشهد العالم انهياراً قوياً للعولمة من خلال إغلاق الحدود وتوقف السفر فعلياً، بينما عجزت الهيئات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبري، عن تقديم الكفاءة التكنوقراطية وتحقيق التعاون العالمي.
وعلى الجبهة الجيوسياسية، شنت الصين، الدولة رائدة الاستبداد في العالم، هجوماً على عدة جبهات مما يثبت أنها لم تعد قانعة بإخفاء قدراتها، وأصبحت تتربص لاقتناص الفرص لتحقيق مكاسب، كما أوصى بذلك الرئيس الصيني دنغ شياو بينغ في الفترة من 1978 وحتى 1992.
إضافة إلى ذلك، فإن ما جعل العام 2020 صادماً بشدة هو أنه جاء عقب عقد مؤلم للغاية، حيث تراجعت الديمقراطية عن موقع صدارة مشهد حقبة ما بعد الحرب الباردة، وشهدت تراجعاً في عدة أماكن.
حسبت براندز، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وارتفاع الشعبوية شكلا تهديداً للتكامل الأوروبي، الذي كان أحد المحاولات البارزة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وتابع أن العولمة واجهت رياحاً عاتية في المشهدين السياسي والجيوسياسي، حيث أصاب الجمود منظمة التجارة العالمية، وزاد صعود الصين الاقتصادي على نحو ينذر بمزيد من الشؤم، وأصبحت أميركا مؤيدة على نحو يكتنفه الغموض للتجارة الحرة.
من هذا المنظور، وفقا لبراندز، فإن الصدمات التي تسبب فيها العام 2020 لم تكن مجرد صدمات غير متوقعة. كانت أزمات كشفت انتشار العفن داخل المؤسسات والترتيبات التي أسست النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة.
وكانت حقبة سبعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، قد بدت في كثير من الأحيان وكأنها نهاية المطاف بالنسبة للقوة الأميركية واقتصاد العالم الحر، وسط صدمات النفط، ونهاية نظام بريتون وودز المالي، وانتكاسات جيوسياسية كانت بمثابة عقاب. ومع ذلك، أدت تلك الأزمات إلى الارتقاء وليس إلى السقوط.
وقد شنت الولايات المتحدة بسرعة هجوماً جيوسياسياً مضاداً مدمراً ضد الاتحاد السوفياتي الذي كان متمدداً على نحو مفرط، وتعاونت مع الحلفاء الرئيسيين لإنشاء مؤسسات جديدة (مثل مجموعة السبع) لتسهيل التحول إلى نظام أكثر عولمة، وتبنت الدول عبر الغرب إصلاحات مؤيدة للسوق أدت إلى ازدهار متجدد.
ويقول براندز: “كنتيجة لذلك، فإننا ننظر الآن إلى العام 1979، وهو العام المروع الذي شهد اندلاع الثورة الإيرانية، والغزو السوفياتي لأفغانستان، وركوداً عالمياً، على أنه كان بمثابة بداية جديدة للنفوذ الأميركي. وربما سيكون العام 2020 لحظة ميلاد عصر جديد”.
وكان هذا العام بعد كل شيء، هو العام الذي قام فيه النظام السياسي الأميركي بتصحيح نفسه بعد مغازلة خطيرة مع الشعبوية شبه الاستبدادية لتيار اليمين، بينما رفض أيضا شعبوية اليسار التي تزعزع الاستقرار.
وشهد هذا العام جهوداً، بقيادة حلفاء الولايات المتحدة، لبدء إصلاح المنظمات الدولية المحتضرة ووضع آليات جديدة -مثل توسيع مجموعة السبع- من اجل تحقيق تعاون ديمقراطي أعمق وأوسع نطاقًا.
وأوضح براندز أنه ظهر أيضاً حذر جديد من القوة الصينية، ليس في أميركا فحسب، ولكن في أوروبا والديمقراطيات المتقدمة الأخرى أيضاً. ولم تنتهِ حقبة ترامب بقطيعة عبر المحيط الأطلسي بسبب الصين فحسب، وإنما بمناقشات أولية تتعلق بكيفية التعاون بشكل وثيق لمواجهة التهديد الذي تشكله بكين.
كما أدى مرض “كوفيد- 19″، الذي يسببه فيروس كورونا المستجد، إلى تسريع وتيرة الجهود للتحول إلى نمط أكثر ذكاءً للعولمة من منظور جيوسياسي، وهو نمط لا تسعى فيه الدول الديمقراطية إلى إعادة عمليات الإنتاج التي كانت قد نقلتها للخارج إلى اراضيها، وإنما تسعى فيه ببساطة إلى إخراج سلاسل الإمداد الهامة من الأنظمة الاستبدادية المعادية المحتملة.
وقال براندز: “لا يمكننا حتى الآن معرفة المسار الذي سيتخذه العالم بالفعل. والتاريخ يتضمن احتمالات، حيث كان من الممكن أن يؤدي تغيير نحو 45 ألف صوت في أربع ولايات إلى إعادة انتخاب دونالد ترامب، مما يدفع الديمقراطية الأميركية والسياسة الخارجية إلى مسار مختلف تماماً عن المسار الذي ربما يسيران فيه في عهد الرئيس المنتخب جو بايدن”.
وأضاف براندز: “سواء كان ذلك للخير أو للشر، سوف ننظر إلى العام 2020 باعتباره مرحلة مفصلية في التاريخ. فهو العام الذي أرسل موجات صدمة من خلال النظام القائم، وبالتالي غير شكل العالم على المدى الطويل. وهذه الأزمات الشديدة يمكن أن تدفع النظام العالمي نحو الدمار أو التجديد -لكنها بالكاد يمكن أن تفشل في ترك بصمة دائمة”.
أحوال تركية