هل يمكن إجراء انتخابات نزيهة في العراق؟

هل يمكن إجراء انتخابات نزيهة في العراق؟

في سياق الوهم الأمريكي لدمقرطة العراق، أصدر رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة، وهي السلطة التي أقرها مجلس الأمن كسلطة احتلال، الأمر رقم 92 في أيار/ مايو 2004 بتشكيل «مفوضية الانتخابات العراقية المستقلة» التي «تحكم ذاتها، غير حزبية، محايدة ومهنية» والأهم من ذلك، مستقلة عن سلطات الدولة «التنفيذية والتشريعية والقضائية». لكن مراجعة إدارة الاستفتاء الخاص بالدستور الذي جرى في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 تحديدا فيما يتعلق بنتيجة تصويت محافظة نينوى، كشف عن التسييس الذي حكم عمل المفوضية! فاستنادا إلى ما قرره قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، كان تصويت محافظة نينوى حاسما، بعد تصويت محافظتي الأنبار وصلاح الدين ضده بنسبة أكثر من الثلثين (التصويت بالرفض بنسبة 96.9٪ و 81.7٪ على التوالي) لأنه كان سيعني رفض «ثلثا ثلاث الناخبين في ثلاث محافظات» لتمرير الدستور، لذلك تأخر إعلان نتيجة الاستفتاء بشكل غير منطقي، لتأتي النتيجة في النهاية برفض محافظة الموصل للدستور بنسبة 55.08٪ فقط، أي دون نسبة الثلثين! والمفارقة هنا أن الأمريكيين أنفسهم، وهم الذين أرادوا مفوضة «مستقلة» قد تدخلوا للإطاحة بهذه الاستقلالية هذه المرة!
بعد شهرين من ذلك، وفي اول انتخابات برلمانية جرت في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2005، أعلنت المفوضية أرقام المشاركة في الانتخابات، وقد جاءت هذه الأرقام فنطازية ومضحكة؛ تحديدا فيما يتعلق بمحافظتي الانبار وصلاح الدين! فالأرقام التي أعلنتها حول نسبة مشاركة الناخبين في محافظة الانبار فيها بلغت 86.4٪ (585429 مصوتا من مجموع 677821 ناخبا مسجلا) في حين بلغت نسبة المشاركة في محافظة صلاح الدين 98.4٪ (555755 مصوتا من مجموع 564607 ناخبين مسجلا)! في حين كان الجميع في العراق يعلم أن هذه الأرقام أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، مع المقاطعة الواسعة لتلك الانتخابات في هاتين المحافظتين تحديدا، ومع سيطرة الفصائل المسلحة عليهما!
والمفارقة الأكبر هنا أن المفوضية نفسها، والعالم أجمع، تحدث عن «مشاركة سنية واسعة» في انتخابات عام 2010، وقارنوها بـ«المقاطعة» التي جرت لانتخابات عام 2005، مع أن أرقام المفوضية تحدثت في العام 2010 عن نسبة مشاركة في محافظة الانبار بلغت 61٪ فقط، ونسبة مشاركة في محافظة صلاح الدين بلغت 73٪! يومها لم يسأل أحد عن صحة هذه الأرقام، او مدى مصداقيتها، بما فيهم المفوضية نفسها. فهذه الأرقام المعلنة لم تكن تعني سوى أمرين: أن تلاعبا رسميا بالأرقام قد حدث، أو أن تزويرا واسع النطاق قد وقع. فتسييس الانتخابات حكم الجميع، ليس محليا فقط، بل دوليا أيضا، ولم تكن الأمم المتحدة نفسها، وعبر تقاريرها، بمعزل عن هذا التسييس وهذا التواطؤ!
وإذا كان تشكيل مفوضية الانتخابات الأولى قد تم باتفاق سياسي أمريكي ــــ عراقي بمشاركة الأمم المتحدة، فإن تشكيل المفوضية الثانية عام 2007، والمفوضيتين اللاحقتين اللتين تشكلتا في الأعوام 2012 و 2017، تم في سياق سلطة الأحزاب السياسية، فقد تحولت المفوضية منذ ذلك الحين إلى ممثلية للأحزاب، ولم تكن الأمم المتحدة هذه المرة أيضا بعيدة عن هذه المسرحية. ولم يقتصر الأمر على مجلس المفوضين فحسب، بل شمل مكاتب المفوضية في المحافظات كافة، مدراء وموظفين، وكانت المهمة الرئيسية لهذه المفوضيات الثلاثة هي ضمان مصالح الأحزاب الممثلة داخل مجلس المفوضين وداخل مكاتبها، وليس إدارة انتخابات نزيهة وعادلة وشفافة! ويمكن لأي متابع للشأن العراقي هنا أن يدرس تحولات علاقات القوة السياسية من خلال متابعة طبيعة تحولات التمثيل داخل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات (مثال على ذلك هيمنة الحزب الإسلامي على التمثيل داخل مفوضية الانتخابات في العام 2007 من خلال الممثلين السنيين فيها، ثم هيمنة أحد أطراف القائمة العراقية على التمثيل السني داخل المفوضية عام 2012 من خلال تسميته الممثلين السنة فيها، وفي العام 2017 تقاسم مكونان رئيسيان في تحالف القوى العراقية هذا التمثيل. أما كرديا فقد حافظ الحزب الديمقراطي الكردستاني على تمثيله داخل المفوضية في الأعوام 2007 و 2012 ولكنه فقد هذا التمثيل في العام 2017 كإحدى تبعات الاستفتاء على الاستقلال، لتستحوذ حركة التغيير على هذا التمثيل رفقة الاتحاد الوطني الكردستاني الذي حافظ على تمثيله في هذه الدورات الثلاث) !

عندما يرتهن البلد بيد طبقة سياسية تقفز على القوانين والدستور حسب المصالح الشخصية والاتفاقات السياسية التي تحقق هذه المصالح، فمن الطبيعي أن تنتج مفوضيات انتخابات مسيّسة وتابعة للأحزاب

في كانون الأول/ ديسمبر 2019 شرع قانون جديد للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، تغير، بموجبه، مجلس أمناء المفوضية بقضاة لا يزالون في الخدمة، بل ومُنح هؤلاء القضاة حق العودة إلى الخدمة بعد انتهاء دورة المفوضية البالغة خمس سنوات! مع أن تجربة القضاة المنتدبين لإدارة عملية العد والفرز اليدوي في انتخابات عام 2018 كانت تجربة فاشلة باعتراف الجميع! والشواهد على استمرار كون المفوضية المستقلة للانتخابات الحالية ممثلية للأحزاب كثيرة؛ بداية من تغيير اسم احد القضاة الذين تم اختيارهم عبر «القرعة» المفترضة، وعبر اختيار القاضيين الكرديين بطريقة تعطي لكل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني تمثيله التقليدي في مجلس المفوضين، مرورا بالتعيينات الخاصة بمدراء مكاتب المفوضية وموظفيها الكبار في المحافظات التي كانت حزبية بامتياز، وهي بذلك لا تختلف عن المفوضيات الثلاثة السابقة في التبعية للأحزاب المهيمنة على المشهد السياسي في العراق!
لكن الملاحظة الأهم على أداء مفوضية «القضاة» الحالية للانتخابات، هو سماحها للتدخلات السياسية في عملها بشكل علني غير مسبوق. فقد أصدرت هذه المفوضية، قبل أيام، إعلانا عن فتح باب التسجيل للأحزاب والتحالفات السياسية للمشاركة في الانتخابات «القادمة» وحددت الموعد النهائي لذلك بيوم 16 كانون الثاني/ يناير 2021. كما فتحت باب التسجيل للمرشحين الراغبين بالمشاركة خارج إطار الأحزاب السياسية، وحددت الموعد النهائي لذلك بيوم 28 كانون الثاني/ يناير 2021. وهي تدرك أن لا أساس دستوريا او قانونيا لهذا الاجراء، وإنما اعتمدت على موعد «سياسي» قرره رئيس مجلس الوزراء الذي لا يملك صلاحية تحديد موعد الانتخابات من الأصل! فبموجب الدستور العراقي هناك انتخابات دورية تجري كل أربع سنوات تقويمية (المادة 56) وهناك انتخابات تجري في حالة حل مجلس النواب لنفسه، وعبر موعد يحدده رئيس الجهورية خلال مدة أقصاها ستون يوما من تاريخ الحل (المادة 64) وكلا الأمرين غير قائم حاليا؛ لأن موعد الانتخابات الدوري يفترض أن يكون منصف تموز من العام 2022 تبعا للتوقيتات الدستورية، ومجلس النواب لم يحل نفسه بعد لكي نتحدث عن انتخابات مبكرة تتحدد توقيتاتها تبعا لتاريخ هذا الحل. وهذا يعني عمليا أن المفوضية العليا «المستقلة» للانتخابات قامت بإجراءاتها على «نية» حل مجلس النواب في تاريخ أقصاه 20 نيسان/ أبريل 2020 والذي يدعو بموجبه رئيس الجمهورية إلى انتخابات خلال ستين يوما، ليتحقق الموعد «السياسي» الذي حدده رئيس مجلس الوزراء من أجل إجراء هذه الانتخابات المبكرة المفترضة في 6 حزيران/ يونيو 2020، وليس هناك في قانون المفوضية ما يتيح لها العمل على «النية»!
وفي هذا السياق، حرص مجلس نواب، كالعادة، على ضمان التزوير (بدلا من الحرص على منعه)؛ من خلال الإصرار على شرط استخدام البطاقة الالكترونية القابلة للتزوير وليس البطاقة البايومترية التي تمنع التزوير والمنصوص عليها في متن قانون الانتخابات (المادة 5/ رابعا من قانون الانتخابات لعام 2019) ومن خلال تقسيم الدوائر الانتخابية وفقا لمصالح الأحزاب السياسية والفاعلين السياسيين المهيمنين على هذا المجلس.
عندما يرتهن البلد بيد طبقة سياسية تقفز على القوانين والدستور حسب المصالح الشخصية والاتفاقات السياسية التي تحقق هذه المصالح، فمن الطبيعي أن تنتج مفوضيات انتخابات مسيّسة وتابعة للأحزاب، ومن المنطق أن يكون الحديثُ عن انتخابات نزيهة وشفافة وعادلة محض خرافة أخرى من خرافات السياسة في العراق!

د.يحيى الكبيسي

القدس العربي