قلنا في مقال سابق، بعد تفجير الكرادة الدامي في تموز 2016، إن ثمة استثمارا سياسيا في أعراس الدم المتكررة في العراق، وأنه وراء كل انفجار، يسارع الجميع إلى استحضار تاريخه الخاص، وهويته الخاصة، وعلاقاته الخاصة، وبرامجه الخاصة، وتصوراته الخاصة، وأوهامه الخاصة أيضا.
ويتحول الدم المسفوح فجأة الى فرصة ومناسبة لتسجيل النقاط في حلبة الصراع المفتوح، في مقابل ذلك، لا يتوقع الناس أن تتدخل الدولة بمؤسساتها لتقدم تقريرها المهني بعد تحقيق جنائي يُفترضُ أنه ينتهي إلى كشف الحقيقة بشكل رسمي يُنهي انقسام الشارع وتقاطعاته، تحقيق رسمي معتمد يكشف الجهة التي نفذت وطبيعة الأهداف من وراء جريمتها، فالمتهم جاهز، وهو جهة لطالما تفاخرت بالعمليات التي تقوم بها وبغيرها مما لم تقم به أيضا بغرض الدعاية لنفسها!
إن مراجعة وقائع قرار الحكم الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية باغتيال رفيق الحريري، تكشف مسألتين مهمتين؛ الأولى أن المحكمة استندت إلى تحقيقاتها المكثفة لمعرفة من يقف وراء العملية، ولم تنخدع بمحاولات التضليل التي أرادت حرف الأنظار عن المتهم الحقيقي، على الرغم من الاعتراف/ الفيديو المفبرك الذي نشر حينها عن انتحاري مفترض قام بالعملية، بل أنها لم تلتفت إلى المنفذ الحقيقي للعملية مطلقا، لهذا خلا قرار الحكم من أي إشارة إلى الانتحاري الذي قاد الشاحنة المهاجمة، أو إلى هويته، بل كان التركيز على من خطط لهذه العملية. والثانية أن قرار الحكم تحدث عن أن «التلاعب» الذي تم في مسرح العملية قد ساهم في ضياع معلومات أساسية وحاسمة، على الرغم من أن مسرح العملية في وسط بيروت ظل مقفلا لسنوات بعد العملية! بالمقارنة مع جميع العمليات التي حدثت في العراق، وعددها بالآلاف، كان يتم «تنظيف» موقع الانفجار بعد حصوله مباشرة! ويكتفي الجميع بتبني داعش المسؤولية دون التحقق من صحة هذا التبني، وفي حالة عدم وجود اعتراف رسمي فالاتهام جاهز ولا يحتاج إلى تدقيق!
يتحول الدم المسفوح فجأة الى فرصة ومناسبة لتسجيل النقاط في حلبة الصراع المفتوح، في مقابل ذلك، لا يتوقع الناس أن تتدخل الدولة بمؤسساتها لتقدم تقريرها المهني بعد تحقيق جنائي يُفترضُ أنه ينتهي إلى كشف الحقيقة
في عملية تهريب سجناء أبو غريب والتاجي في بغداد والتي جرت في 21 تموز 2013، صرح وزير العدل العراقي، حينها، بأن ثمة استثمارا سياسيا لعملية التهريب ترتبط بالثورة في سوريا، لم تكلف الدولة نفسها عناء التحقيق رغم التبعات الخطيرة لهذا الحدث وهي سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على أكثر من ثلث مساحة العراق، لم نسمع أن تحقيقا واحدة قامت به الجهات المعنية من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولم تتوفر حتى الإرادة لذلك! بطبيعة الحال كان تنظيم القاعدة وراء هذه العملية، بل وسبق لزعيم التنظيم في العراق أبو بكر البغدادي أن أعلن عن خطته للقيام بها تحت اسم عملية «هدم الأسوار» في تموز 2012، قبل سنة كاملة من تنفيذها، وقبل أكثر من عشرة أشهر من إعلانه «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» في نيسان/أبريل 2013!
من هنا يحق لنا أن نقول إن ثمة من مهد الطريق أيضا، بشكل غير مباشر، لإنجاح هذه العملية من أجل استثمارها سياسيا، سواء في سياق الثورة/ الحرب في سوريا ومحاولة تحييد الدعم الدولي للثورة من خلال شيطنتها من جهة، أو من خلال سعي رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي لاستثمارها من أجل مزيد من الاحتقان الطائفي لتمهيد الطريق للولاية الثالثة التي استمات للحصول عليها!
لهذا فإن القول بأننا اليوم أمام عملية إرهابية «مسيطر عليها» لاستثمارها سياسيا في سياق الصراع المفتوح بين الدولة والدولة الموازية، وفي سياق الصراع الشيعي الشيعي المحتدم، وفي سياق ما بعد احتجاجات تشرين وتداعياتها، هو كلام منطقي ويثير الشكوك واسعة حول المخططين للعملية، ومن غض الطرف من أجل حصولها، بعيدا عن الأدوات التي استخدمت لتنفيذها!
من الجانب الآخر، إذا ما ثبت بأن تنظيم الدولة/ داعش كان الفاعل الرئيسي لهذه العملية، تخطيطا وتنفيذا، بمعزل عن التحقيقات التي لن تجرى! فإن القيام بهكذا عملية نوعية، في وسط بغداد، وعلى بعد بضعة مئات من الأمتار عن المنطقة الخضراء، بعد أكثر من سنتين عن آخر عملية جرت في المكان نفسه في 15 كانون الأول/ يناير 2018، قد يعني أن التنظيم بدأ يستعيد المبادرة ثانية، ليس في أطراف المدن ومقترباتها التي تتعرض لهجمات شبه يومية، بل في وسط بغداد نفسها، مع كل ما يعنيه ذلك من ترتيبات لوجستية، وسيطرة، واتصالات، وخلايا جاهزة للتنفيذ. وهو ما يفند الرواية الرسمية عن «القضاء الكامل على تنظيم داعش وإغلاق كل منافذ نموه، وقطع الطريق أمام محاولاته، وهي الكلمات التي جاءت على لسان رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي في كلمته في المؤتمر السنوي لقيادة العمليات المشتركة في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2020!
على مدى سنوات، تعرضت منطقة ساحة الطيران وسط بغداد إلى عشرات الهجمات، أوقعت مئات الضحايا الأبرياء من العمال اليوميين، ومن الباعة الجائلين أو المتسوقين من الفقراء، ولم تكن، في الواقع، هدفا حيويا أو استراتيجيا، وقد كنت أشكك دائما بأن ثمة استثمارا سياسيا في هذه العمليات، وتوقيتاتها، كان آخرها عملية تفجير سيارة مفخخة في المكان نفسه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 والذي كان يشهد احتجاجات تشرين، يومها فشل المسوقون في لصق التهمة بالتنظيمات الإرهابية، وبدا واضحا للجميع أن من قام بها هو نفسه من يقوم بقتل المحتجين قنصا أو بقنابل الدخان باستخدامها سلاحا للقتل!
يحيى الكبيسي
القدس العربي