بريطانيا وتركيا بعد بريكست: صداقة مصالح رهينة الحسابات

بريطانيا وتركيا بعد بريكست: صداقة مصالح رهينة الحسابات

بعد انتهاء الفترة الانتقالية للمملكة المتحدة لمغادرة الاتحاد الأوروبي رسميا في الأول من يناير الجاري بعد عام من المفاوضات المتوترة، تمكنت حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون المحافظة من إبرام صفقة تجارية مع بروكسل تعتبر مواتية نسبيا بالنظر إلى المخاطر المالية لو تم البريكست دون اتفاق.

ومع أن بريطانيا مازالت تحتفظ ببعض الفوائد الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، لكنها تسعى لتعزيز علاقاتها مع حلفائها التقليديين من خارج التكتل، وتبدو تركيا إحدى أبرز تلك الدول، والتي يكافح رئيسها رجب طيب أردوغان من أجل فتح جبهات جديدة علها تغطي على مغامراته في الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق المتوسط وأيضا في القوقاز.

ولأن حسابات البلدين في علاقتهما بالعالم تبدو معقدة اليوم بسبب المتغيرات الجيوسياسية، يتابع المحللون كيف أن صداقة المصالح بدأت تطغى بشكل أكبر على علاقات العضوين في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وأنه بقدر ما سيحقق الطرفان منافع اقتصادية من الصفقة التجارية المبرمة بينهما في الـ29 من ديسمبر الماضي، بقدر ما ستتداخل القضايا المشتركة إذا ما تعلق الأمر بالولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس جو بايدن.

جوناثان فينتون هارفي: حالة عدم اليقين في البلدين دفعتهما لإبرام صفقة تجارية جديدة
جوناثان فينتون هارفي: حالة عدم اليقين في البلدين دفعتهما لإبرام صفقة تجارية جديدة
أهداف مشتركة
التحدي المشترك الأبرز الذي يواجهه البلدان هو أن كليهما يسيران على حبل مشدود مع الاتحاد الأوروبي، وخاصة في الجانب الاقتصادي، فبروكسل فرضت على أنقرة عقوبات اقتصادية بسبب سياسة أردوغان الخارجية في العديد من الملفات، بينما وجدت لندن نفسها بعيدة من التكتل بعد خمسة عقود من الانضمام إليه ما جعلها تندفع نحو فتح جبهات تجارية جديدة.

وقد وقعت تركيا وبريطانيا نهاية العام الماضي اتفاقية تجارة حرة، تضمنت أيضا شقا عسكريا يتعلق بصناعة مُسيرات تركية، أشاد بها أردوغان ووصفها بأنها أهم اتفاقية لبلاده منذ توقيع اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي عام 1995. وتضمنت الاتفاقية المحافظة على الروابط التجارية القائمة بين البلدين، والعمل على دعمها، كما تعمل على منع بعض الخسائر المالية عبر إلغاء الضرائب على الصادرات.

ويعتقد رجال الأعمال ومحللون، من بينهم جوناثان فينتون هارفي الصحافي والباحث المهتم بالدراسات حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج وبالقضايا الجيوسياسية، أن حالة عدم اليقين التي طغت على الاقتصاد البريطاني بعد إتمام البريكست كانت دافعا قويا وراء هذا التقارب التجاري.

وكان الرئيس التركي قد زار لندن في شهر مايو 2018، وحاول حينها استغلال الظروف التي تعاني منها بلاده لبناء شراكة جديدة مع البريطانيين، خاصة وأنهم بعد استفتاء يونيو 2016 بدأوا بالابتعاد تدريجيا عن الاتحاد الأوروبي ودأبوا على اتخاذ مواقف مغايرة لمواقف دول التكتل، خاصة في ما يتعلق بالحريات.

وارتأت بريطانيا الصمت حول المخاوف المتعلقة بإخلال تركيا بمسألة حقوق الإنسان، ويرجع ذلك إلى رغبة مسؤوليها في عدم المساس بالعلاقات مع أنقرة، إذ يعتقدون أن توجيه اللوم لأردوغان بصفة علنية سيؤدي إلى نتائج عكسية، مما يدفعهم لإثارة هذه المخاوف مع الحكومة التركية وراء الكواليس.

وسبق أن ألمحت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي خلال زيارتها إلى أنقرة في يناير 2017، إلى أن مصالح مع تركيا أولى من سمعة بريطانيا كمدافع عن حقوق الإنسان.

وقد برز ذلك الأمر بشكل واضح من خلال مضاعفة بريطانيا لبرنامج تمويل الصادرات إلى تركيا ليصل إلى حوالي 3.5 مليار جنيه إسترليني السنة الفارطة، كما أن هناك جهودا لزيادة التعاون في مجالات الطاقة والرعاية الصحية والتصنيع والدفاع.

واللافت أن أهمية الدور الذي تلعبه بريطانيا في مساعدة أردوغان لتحقيق طموحاته يتعلق بصناعة طائرة مقاتلة، ويظهر ذلك من خلال الصفقة التي أبرمتها أنقرة مع شركة بي.أي.إي سيستمز بقيمة 100 مليون دولار مطلع 2017 لتوفير التكنولوجيا والخبرة اللازمة في إطار المرحلة الأولى من التصنيع.

من المرجح أن تلعب لندن بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دورا أكثر تحفظا في السياسة الخارجية

وقد وافقت بريطانيا على التخلي عن ضوابط التصدير حتى تتمكن تركيا من بيع الطائرة إلى أي دولة تختارها، وهذا القرار أثار الدهشة بين بعض حلفاء الناتو، ومخاوف حول فرضية تصدير أنقرة لهذه الطائرات إلى كوريا الشمالية أو إيران، لدرجة أن البعض وصف العملية بأنها محاولة يائسة من بريطانيا لتكوين صداقات وتوقيع صفقات في ظل انسحابها من الاتحاد الأوروبي.

ويدافع العديد من البريطانيين عن هذا المشروع الذي يعتبرونه حيويا، كما يرون أنه وسيلة لخلق فرص عمل والحفاظ على صناعة الدفاع في بريطانيا، خاصة أن الشركات، على غرار بي.أي.إي سيستمز، تحتاج إلى مشاريع كبيرة للبقاء في الطليعة.

وتتضح تلك الروابط بشكل أكبر حين تسليط الضوء على موقف بريطانيا من الأزمة السورية، فهي لم توجه نقدا إلى تركيا بسبب عملية “نبع السلام” التي أطلقتها شمال سوريا، ضد الأكراد، ولم تعلق بيع السلاح إليها، كما فعلت ألمانيا وفرنسا. وبينما سعت بريطانيا عقب البريكست إلى تأسيس علاقات أقوى مع تركيا، سعت الدول الأعضاء بالناتو إلى استخدام الحلف أداة للضغط على أنقرة.

وفرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عقوبات على أنقرة بسبب سياساتها، بينما صرح الرئيس المنتخب جو بايدن خلال حملته الانتخابية بأنه سيفكر في دعم المعارضة التركية حال فوزه بالرئاسة. ولذلك، فعند مقارنة مواقف الدول الغربية القوية تجاه أنقرة، يلاحظ أن بريطانيا هي أقرب حليف لتركيا وأكثر الدول تفهما لمواقفها، وبالطبع فإن هذا الوضع يمهد لتشكيل تحالف أقوى بين البلدين في المستقبل.

حسابات دولية
Thumbnail
بينما روجت حكومة جونسون لرواية تحقيق بريطانيا بعد البريكست سياسة خارجية أكثر استقلالية وخالية من أي قيود من الاتحاد الأوروبي، فإنها نظرت إلى تركيا على أنها حليف مناسب لبريطانيا نظرا لأهميتها الجيوستراتيجية بالقرب من أوروبا وشرق البحر المتوسط والشرق الأوسط.

وتتطلع بريطانيا إلى استخدام هذا التفكير السياسي للحفاظ على نفوذها الإقليمي المطلوب، وقد سعى جونسون بالفعل إلى دعم نفوذ بلده في السياسة الخارجية من خلال حلفاء تقليديين آخرين، مثل البحرين، حيث تمتلك قاعدة بحرية رئيسية تساعد بريطانيا على ممارسة نفوذها العسكري في الشرق الأوسط وأيضا مشاركتها في مكافحة الإرهاب.

وبينما قد تثير العلاقة الجديدة بين بريطانيا وتركيا حفيظة دول الشرق الأوسط كون أنقرة تعد أحد أبرز الداعمين للميليشيات في سوريا وليبيا، إلا أن فهم الموقف البريطاني قد يحتاج لبعض الوقت دون المساس بحلفاء الولايات المتحدة المنطقة، فلندن ترى أن من شأن تأمين شراكة مع أنقرة أن يمنح بريطانيا المزيد من القوة للحفاظ على نفوذها في هذه المناطق.

وقد يؤدي هذا أيضا إلى تعاون أكبر بين أنقرة ولندن في شرق البحر المتوسط، الأمر الذي قد يثير حفيظة فرنسا على وجه التحديد فبريطانيا ترى في تركيا حليفا مفيدا، حيث قد تسعى للسيطرة على الممرات الملاحية عبر قناة السويس والتأثير عليها.

وهذا جزء من رغبة بريطانيا في إحياء بعض سيطرتها الجيوسياسية التي كانت تتمتع بها بالمنطقة في الماضي، بينما لا تزال تستضيف أيضا وجودا عسكريا في جزيرة قبرص.

ومع أن دوائر صنع القرار في تركيا ترى أن العلاقة الجديدة قد تخلق فرصة للمزيد من اتخاذ قرارات استباقية في السياسة الخارجية، مثل الملف الليبي، فإن المراقبين للوضع هناك خاصة مع المضي قدما في مسار التسوية يعتقدون أن بريطانيا لن تنخرط في أي خطة مع تركيا التي تراهن على حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، الذي لم يعد له أي مكان في المستقبل السياسي في ليبيا.

ومن المرجح أن تلعب بريطانيا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دورا أكثر تحفظا في السياسة الخارجية في الوقت الحالي، كما يتضح من قطع المساعدات الخارجية في نوفمبر الماضي. ومع ذلك، فإن صفقاتها مع كل من تركيا والاتحاد الأوروبي تُظهر أنه يمكن أن تؤدي بشكل فعال إلى تحقيق التوازن بين الاثنين.

صحيفة العرب