في عالم اليوم، لم يعد لمن تجتذبهم أروقة الحكم أو يتلاعب بعقولهم التطلع إلى السلطة الكثير من الرونق الأخلاقي أو الإنساني أو الكاريزما السياسية.
هل تجدون، على سبيل المثال، بين رؤساء ورؤساء وزراء ورؤساء برلمانات الحكومات الديمقراطية أو بين حكام النظم الشمولية والسلطوية من يستحق الإعجاب برؤيته أو الإشادة بسياساته وقراراته أو التعبير عن التقدير لاتساق أفعاله ودفاعه عن قيم الحق والعدل والحرية والمساواة والسلام؟
هل تستطيعون، من جهة أخرى، العثور على رئيس واحد أو حاكم واحد له القدرة على إلهام مواطنيه دون تزييف لوعيهم أو استعلاء على حقهم في الاختيار الحر أو تجاهل لضرورة تمكينهم من تداول المعلومات والحقائق بحرية أو تورط في إخراج أفظع ما في بعضنا من عنصرية وكراهية وعنف وجنون؟
عن نفسي لم أعد أجد بين متصدري أروقة الحكم ودوائر السلطة من يستحق الإعجاب الحقيقي أو الاعتراف بقدرته على الإلهام أو بقوته في الدفاع عن الحق والعدل.
وأسوق للتدليل مثالين. ففي نهايات 2015 وإزاء أزمة اللاجئين السوريين، سجلت المستشارة أنجيلا ميركل موقفا أخلاقيا وإنسانيا رائعا وممارسة مسؤولة للسياسة حين دفعت الحكومة الألمانية إلى توفير ملاذات آمنة لآلاف اللاجئين وشجعت سلطات الولايات والسلطات المحلية في بلادها على استقبالهم.
غير أن المستشارة سرعان ما تراجعت عن «سياستها المسؤولة» ما أن اتضحت التداعيات السلبية «لقضية اللاجئين» (التي لم تعد «أزمة» لاجئين هاربين من المقتلة السورية، بل صارت «قضية» لاجئين قادمين إلى أوروبا من أحزمة التخلف والفقر والحروب الأهلية شأنهم شأن غيرهم) على شعبيتها وشعبية ائتلافها الحاكم وتوالت استطلاعات الرأي العام محذرة من احتمال خسارة المستشارة الحديدية وحزبها لأكثريتهم في البرلمان الاتحادي وفي العدد الأكبر من برلمانات الولايات. وعلى وقع التراجع عن السياسة المسؤولة، تعالت أصوات السياسيين العنصريين الذين يروجون لكراهية الأجانب وتصاعدت أفعال العنف المادي واللفظي من قبل الحركات اليمينية المتطرفة ضد اللاجئين وأسرهم، ولم تخفت الأولى ولا تراجعت الثانية خلال السنوات الماضية.
تعالت أصوات السياسيين العنصريين الذين يروجون لكراهية الأجانب وتصاعدت أفعال العنف المادي واللفظي من قبل الحركات اليمينية المتطرفة ضد اللاجئين وأسرهم، ولم تخفت الأولى ولا تراجعت الثانية خلال السنوات الماضية
المثال الثاني: خلال سنوات إدارته الأولى والثانية (2008-2016) ألهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما قطاعات واسعة بين مواطنيه حين نفذ سياسات اقتصادية واجتماعية انحازت إلى محدودي الدخل والفئات الوسطى، كان أبرزها تعميم الرعاية الصحية وفرض ضرائب إضافية على أصحاب الدخول المرتفعة.
ألهم أوباما المنتمي للحزب الديمقراطي أيضا العديد من مواطنيه حين وظف سلطاته الرئاسية (الأوامر التنفيذية) لتجاوز معارضة الكونغرس (الذي يتمتع به الحزب الجمهوري بأغلبية المقاعد) لتقنين أوضاع المهاجرين غير الشرعيين المتواجدين في الولايات المتحدة وحمايتهم من مأساة الاستغلال المادي والمعنوي المرتبطة بوجودهم غير الشرعي. غير أن المبالغة في توظيف السلطات الرئاسية أفسدت من جهة توازن النظام السياسي الأمريكي القائم على الرقابة المتبادلة بين الرئيس وسلطته التنفيذية وبين السلطة التشريعية التي يمثلها الكونغرس بمجلسي الشيوخ والنواب، وكرست من جهة أخرى لوضعية استقطاب حاد بين الديمقراطيين والجمهوريين (بين التقدميين والمحافظين) استغلها خلال السنوات الماضية بعض السياسيين الغوغائيين كدونالد ترامب لاكتساب تأييد شعبي مؤثر.
كذلك لم يتمكن أوباما من تنفيذ سياسة خارجية تتسق مع قيم الحق والعدل والحرية التي تبناها في الداخل الأمريكي أو تتسق مع أهداف الحفاظ على السلم والأمن العالميين التي أعلن تبنيها حين جاءت به أغلبية الناخبين ليأخذ مكان رئيس الحروب جورج بوش (2000 ـ 2008). تجاهل المقتلة السورية وتابع مأساتها الإنسانية والمجتمعية الشاملة كمتفرج، تجاهل تنامي عصابات الإرهاب وعندما قرر مواجهتها استخدم ذات الأدوات الأمنية والعسكرية التي استخدمتها إدارة بوش في أعقاب أيلول- سبتمبر 2001، تجاهل أزمة اللاجئين التي رتبتها حروب بلاد العرب والمقتلة السورية وتداعياتها على السلم العالمي، تجاهل السياسة العنيفة لأطراف دولية كروسيا ولأطراف إقليمية كالسعودية وإيران التي رتبت حروبا بالوكالة في العراق وسوريا واليمن، تجاهل نتائج التدخل العسكري الأمريكي في ليبيا وتركها عائمة على سلاح وقبائل متحاربة وعصابات إرهاب.
وإذا كان هذا هو حال المستشارة الحديدية بعد أن مارست السياسة المسؤولة وتراجعت بسرعة وما مضى من حال أوباما على الرغم من التأييد الشعبي الواسع الذي تمتع به ومازال، وميركل وأوباما هما الأفضل بين المسؤولين المنتخبين في الديمقراطيات الغربية خلال العقدين الماضيين، فلا وجه للتعجب حين يتصدر المشهد السياسي في الكثير من الديمقراطيات أمثال ترامب وبولسنارو اللذين يفخران بالترويج للمواقف العنصرية وانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم التعذيب. ولا وجه للتعجب أيضا من أن يتصدر المشهد في العديد من النظم الشمولية والسلطوية حكام يتورطون في القتل والقمع والفساد.
عمرو حمزاوي
القدس العربي