رواسب ثقافية واجتماعية تحول دون هزيمة الحوثيين في اليمن

رواسب ثقافية واجتماعية تحول دون هزيمة الحوثيين في اليمن

تؤكد الأحداث المتلاحقة التي شهدها اليمن منذ اجتياح الحوثيين لصنعاء في سبتمبر 2014 على حقيقة مفادها أن ثمة معضلة ثقافية اجتماعية تحول دون هزيمة المشروع الحوثي، وأن هذه المشكلة التي لم يلتفت إليها الكثير من المعنيين بالشأن اليمني تتمثل في أن معظم من يقودون الحرب ضد الجماعة المدعومة من إيران تتلبسهم حالة من عقدة النقص الدفينة في عقولهم الباطنة أمام من يقاتلونهم بوصفهم امتدادا لحالة عمرها يقارب الألف عام من التأثير الثقافي والتشكيل الاجتماعي لوعي الجغرافيا.

عدن – في حديث يملأوه الأسى والحزن شكا اللواء علي عبدالله السلال، أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار وابن أول رئيس لشمال اليمن بعد الثورة التي أطاحت بالحكم الإمامي عام 1962، من ممارسات الحوثيين في التضييق عليه وعلى أسرته.

وعرج السلال في حوار تلفزيوني قبيل وفاته بفترة وجيزة على مواقف القبائل في الشمال التي قال في لحظة صراحة نادرة إنها لم تكن مع الثورة، وإنه لولا الدعم الذي جاء من محافظات مثل عدن وإب وتعز لكانت الثورة سقطت في مهدها، متسائلا “كنا نظن أن هذه القبائل ستفرح بالثورة، ولكن لم يحدث ذلك واليوم انقلبت مجددا على الثورة”، في إشارة لانحيازها إلى الحوثيين.

ورغم إلمام السلال بطبيعة التركيبة القبلية المعقدة في اليمن وتقلب ولاءاتها وتركيبتها الثقافية والاجتماعية إلا أنه كما بدا في ظهوره الإعلامي الأخير كان مصدوما وهو يشاهد الثورة التي قادها والده وشارك هو فيها قد انقلبت على عقبيها وعاد أحفاد الإماميين مجددا لحكم اليمن.

إرث ثقافي واجتماعي

الاصطفاف الثقافي داخل المجتمع اليمني، والذي يحاول البعض إنكاره أو ازدراء من يقول به ووصمه بالمناطقية والمذهبية، هو في الواقع صورة متكررة لاصطفافات قديمة سجلتها النقوش اليمنية المسندية في الصراعات والحرب داخل الدولة اليمنية في التاريخ القديم

لا تبدو مواقف القبائل في شمال الشمال، أو ما يطلق عليه البعض “الهضبة الزيدية” أو كما عرفت مؤخرا في أعقاب تخليها عن الرئيس الراحل علي عبدالله صالح في مواجهته الأخيرة مع الحوثيين في ديسمبر 2017 “قبائل طوق صنعاء”، منفصلة عن الحالة الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي تشكل وعي هذه الكتلة السكانية عبر التاريخ.

فقد كانت هي القبائل ذاتها التي تشكل قوام جيش الأئمة في اليمن لغزو القبائل “الشافعية” التي تتمرد في البيضاء وتهامة وتعز وغيرها من المناطق التي ظلت دوما في حالة تمرد ثقافي على الأقل وعسكري -كلما سنحت الفرصة- ضد سلطة المركز الإمامي.

لكن الحالات القليلة التي شهدت فيها تلك المناطق تمردا كانت نتيجة خلافات بين أقطاب المركز الإمامي ذاته، كما هو الحال في ثورة 1948 التي عرفت بثورة الدستور وقادها أطراف من داخل البيت الهاشمي الزيدي بزعامة عبدالله الوزير قبل أن تفشل ويستخدم الإمام أحمد حميد الدين قبائل “الطوق” لاجتياح المناطق المتمردة وإخضاعها واستباحتها.

وبعد ذلك قامت ثورة أخرى في 1962 كادت أيضا تلقى مصير سابقتها لولا وجود عامل خارجي تمثل في الدعم المصري للثورة، الذي فتح الأبواب على مصراعيها لتشارك فيها قبائل ومناطق عرفت بعدائها التاريخي والثقافي لنظام الإمامة وامتداداتها المذهبية.

وراهن الجيش المصري في هزيمة فلول الجيش الإمامي، التي كانت تحاصر صنعاء، على حالة التوازن الثقافي التي استطاع ضخها داخل مفاصل الثورة وقياداتها ومؤسساتها من مناطق ثابتة في موقفها من النظام الإمامي، ولم تكن تستبدل حالة الولاء بين عشية وضحاها كما هو حال قبائل أخرى كانت تمسي إمامية وتصبح جمهورية وهكذا دواليك.

ويرى باحثون أن هذا الاصطفاف الثقافي داخل المجتمع اليمني، والذي يحاول البعض إنكاره أو ازدراء من يقول به ووصمه بالمناطقية والمذهبية، هو في الواقع صورة متكررة لاصطفافات قديمة سجلتها النقوش اليمنية المسندية في الصراعات والحرب داخل الدولة اليمنية في التاريخ القديم.

وليس ذلك فحسب؛ فالصورة التي شهدها التاريخ الإسلامي، حيث انقسم اليمنيون في الحرب بين علي ومعاوية عقب مقتل عثمان بن عفان بين فريقين من قريش، لا تخفى ملامحها الجغرافية، وهي الاصطفافات التي استمرت لاحقا في دورات الصراع في مركزي الدولة الإسلامية في الشام والعراق.

غير أن إعادة رسم خارطة اليمن الثقافية والاجتماعية والمذهبية التي ما تزال على حالها حتى اليوم بدأت مع وصول الإمام الهادي إلى اليمن سنة 280 هجرية بطلب من بعض شيوخ قبائل شمال اليمن، حيث تشكلت على مراحل بعد ذلك التاريخ نواة مشهد جديد.

ولم يكن العامل القبلي والاجتماعي هو الحاسم فيه بعد أن أصبح العامل المذهبي حاضرا بقوة يطل برأسه من خلال الدول الزيدية المتعاقبة في أقصى الشمال وبين دول أخرى في مناطق اليمن اتخذت “الشافعية” مذهبا لها، وساهمت الصراعات والحروب في تكريس الانقسام الجديد الذي تعمق بفعل عوامل خارجية.

وإضافة إلى ذلك ظهرت الفوارق التي فرضتها الطبيعة الجغرافية للمناطق اليمنية، التي تنوعت ما بين مناطق شديدة الوعورة والقسوة ومناطق أكثر رخاء، الأمر الذي أنتج في نهاية المطاف حالة من التمايز في السلوك الاجتماعي.

وعلى مدار قرون اتخذ الأئمة المتعاقبون في شمال اليمن القبيلة كسلاح ضد خصومهم تحت سلطة التأثير الديني والمذهبي، وأحيانا أخرى من خلال إغراء تلك القبائل بسياسة جمع غنائم الحرب التي مازالت قائمة إلى اليوم تحت عنوان “الفيد” الذي ظل سلاحا يستخدم لإخضاع ما يطلق عليه “مناطق اليمن الأسفل”.

وفي هذه العبارة كناية عن الانخفاض الجغرافي لتلك المناطق، لكنه يحمل دلالة نفسية أخرى في رؤية أقصى الشمال لتلك المناطق التي كانت هدفا سهلا، حيث تدفع ثمن خصوبة أراضيها وتمايزها الثقافي والمذهبي وتمردها على الأفكار الإمامية التي عمقت الانقسام بين قبائل اليمن كأحد أسلحتها الفتاكة للفتك باليمنيين جميعا الضعيف منهم والقوي على حد سواء.

آثار مخلفات الإمامة
لم يستطع النظام الجمهوري الذي امتد من 1962 إلى 2014 في شمال اليمن محو كل الآثار العميقة التي خلفتها الإمامة وعلقت بثوب الدولة، ويعود ذلك في الأساس إلى حالة الصراع ودورات العنف التي ضربت البلاد منذ قيام الثورة إلى نهايتها، ومشاركة القادة الملكيين بعد ذلك في إدارة الدولة.

وفضلا عن ذلك عدم وصول مظاهر الثورة والنظام الجمهوري إلى عمق مناطق النفوذ الزيدي في أقصى الشمال، التي ظلت مناطق مغلقة ثقافيا على نمط ثقافي واحد أنتج بعد ذلك الحوثية كوجه جديد من وجوه “صنم ثقافي” عمره أكثر من ثمانية قرون، سرعان ما خرت أمامه القبائل مجددا والتحقت به أفواجا في طريق خروجه من كهوف صعدة مرورا بمناطق قبيلة حاشد في عمران وصولا إلى صنعاء والقبائل المحيطة بها.

ولم يكن ذلك المشهد جديدا ولا مستغربا لمن يقرأ التاريخ اليمني، فقد تكرر مثل ذلك مرات عديدة، حيث يتم تطويع القبيلة وتركيعها للمذهب خوفاً وطمعاً، والقبيلة التي أخضعت اليمن ومؤسساته منذ قيام الثورة حتى سقوطها هي ذاتها التي تركع للمذهب دون مقاومة تذكر.

ولعل ما شاهدناه خلال العقد الأخير من تاريخ اليمن على الأقل خير دليل على ذلك، حيث خاضت قبيلة حاشد وزعاماتها آل الأحمر حربا بلا هوادة ضد الرئيس السابق علي عبدالله صالح في 2011 واستمرت لشهور تقاتل جيشه في منطقة الحصبة شمال العاصمة صنعاء.

وتعهد شيخ القبيلة صادق الأحمر على التلفزيون بأنه سيخرج “صالح حافيا من اليمن”، لكن بعد ثلاث سنوات تقريبا اجتاح الحوثيون معاقل آل الأحمر في محافظة عمران ونسفوا منزلهم العائلي في الخمري وظهر مجددا في فيديو محاطا بعناصر حوثية اقتحمت منزله في الحصبة ذاته وهو يقول “أنا في وجه السيد”، في إشارة إلى عبدالملك الحوثي.

بعد تلك الواقعة تحول أفراد القبيلة أو جلهم إلى مقاتلين في صفوف الحوثي، كغيرهم من القبائل المحيطة بصنعاء التي كان يعول عليها صالح في حسم معركته مع الحوثيين التي انتهت قبل أن تبدأ في مطلع ديسمبر 2017.

وشخصية بعض مناطق شمال اليمن أسسها الهادي في صعدة بوصفها حقا إلهيا، تجذر في وعي القبيلة اليمنية شمالا،عدا فترات قليلة يمكن اعتبارها قطعا مؤقتا في سياق التاريخ، فيما ظلت صورة هذا الإمام الذي يتبدل اسمه مجرد حالة مكثفة للتسلط والظلم والنهب والعسف المذهبي والسلالي لدى القبائل الشافعية في تهامة وتعز وإب والبيضاء، وقبائل الجنوب على وجه التحديد التي ظلت في منأى عن التأثيرات الثقافية والاجتماعية لهذا المشروع.

ولعل من أبرز الشواهد على ما سبق ذكره أن الانتصار الوحيد الذي تحقق في مواجهة الحوثيين خلال حروب صعدة الأولى كان على أيدي ضباط جنوبيين في مقدمتهم اللواء ثابت مثنى جواس الذي ينسب إليه قتل مؤسس الجماعة الحوثية حسين بدرالدين الحوثي في الحرب الأولى بمسدسه الشخصي بعد أن وصل إلى الكهف الذي كان يختبئ به في جرف سلمان بمنطقة مران.

وتؤكد المصادر أنه أطلق عليه الرصاص بقرار فردي مستبقا وصول خبر اعتقال الحوثي إلى علي محسن الأحمر وعلي عبدالله صالح اللذين يجزم مقربون منهما بأنهما كانا سيحولون دون قتل مؤسس الجماعة الحوثية، وقد بدا ذلك في حروب صعدة اللاحقة التي ظلت تراوح مكانها ويطلق أسراها ليعودوا للقتال مجددا، في حالة لا يمكن وصفها بالتواطؤ بقدر ما هي نتاجات الوعي الثقافي للدولة القائمة آنذاك.

وربما الشاهد السابق يجيب على سؤال جوهري آخر في سياق الحرب اليمنية وهو كيف استطاع الجنوبيون تحرير مناطقهم عبر مقاومة شعبية شرسة ولم يحدث مثل ذلك في الشمال عدا في حالات قليلة، بل إن بعض المناطق والمحافظات أمست وهي بيد الحكومة الشرعية وأصبحت في قبضة الحوثيين مثل نهم والجوف، وتحولت البنادق التي تحارب هذه الجماعة في أحيان كثيرة بعزيمة واهنة إلى مدافع في وجه من يحاربها.

العرب