يضع التوسع الحضري المتسارع المدن المغربية أمام تحديات كبرى، حيث تهدد معضلة الزحف العمراني غير المنظم المساحات الخضراء بالتآكل، حسب تحذيرات لدراسة جديدة صادرة عن البنك الدولي. ورغم الجهود المبذولة من الحكومة لمواجهة هذه الظاهرة التي تفرضها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها غير كافية، خاصة وأن التوسع العمراني للمدن أحدث تحوّلات عميقة في بنية المجتمع المغربي واقتصاده.
الرباط – لا يختلف نمط التوسع الحضري في المغرب وتأثيره على ضواحي المدن الكبرى عمّا ينتهجه عدد من الدول العربية التي تواجه أزمة مشابهة بسبب تواصل الزحف الحضري بوتيرة متسارعة ومقلقة.
ولئن يأتي التمدد العمراني كنتيجة طبيعية لأنماط العيش المرتبطة بالتأثيرات الكبرى للعولمة، والتي فرضت مشاريع حضرية كبرى تتماشى مع متطلبات أساسية للتنمية المستدامة استجابة لقواعد التنافسية العالمية، إلّا أنه يضع الحكومات العربية ومن ضمنها المغرب أمام تحديات وأخطار كبيرة.
لقد حذرت دراسة حديثة صدرت عن البنك الدولي في الآونة الأخيرة تحت عنوان “مبان آمنة ومستدامة لتعزيز المرونة الحضرية”، من مواجهة المدن المغربية لعدة مخاطر وتحديات جراء استمرار التوسع الحضري بمعدل أسرع من النمو السكاني، إذ باتت المشاريع الحضرية تأتي على مساحات من ضواحي المدن والقرى القريبة منها بشكل كبير.
وخلال العقود الثلاثة الماضية، قام المغرب بعدد من المشاريع التي قادت إلى تغييرات في جميع الميادين منها طبيعة المدن الجديدة وتطوير البنية التحتية المرتبطة بها والتكتلات الحضرية، ويهدف المخطط الوطني إلى إعادة هيكلة التراب الوطني على أسس متينة ومستدامة وبرؤية جديدة لتنظيم وتنمية الظاهرة الحضرية.
وكشفت الدراسة إلى أن 60 في المئة من المغاربة يسكنون اليوم في المناطق الحضرية، مقابل 35 في المئة فقط سنة 1970، وذلك راجع أساسا إلى استمرار الهجرة القروية والزحف العمراني.
وحسب إحصائيات رسمية محلية، انتقل معدل التمدن في المغرب من 8 في المئة إلى ما يقارب 60 في المئة خلال السنوات الأخيرة، كما عرف المغرب ازدياد السكان الحضريين من 44000 نسمة سنة 1912 إلى 18 مليونا سنة 2012، فيما يأخذ هذا التطور منحى مطّردا حيث من المتوقع أن يصل معدل التمدن إلى 70 في المئة سنة 2025.
يرتبط إعداد المجال الحضري بالسياسات العمومية في المغرب، وفيما تحاول الدولة التزام التوازن بين الاستجابة لإكراهات الاستثمارات الاقتصادية وضرورة الحفاظ على الأراضي الزراعية المحيطة بتلك المدن، إلا أن هناك تداعيات سلبية ناجمة عن مشاكل الانفجار السكاني بالمناطق الحضرية، والمتمثلة في البطالة والفوارق الاجتماعية والضغط الديموغرافي.
وجاء ضمن دراسة البنك الدولي أن التوسع الحضري يستمر في إحداث تحولات عميقة لدى المجتمع المغربي واقتصاده. وفيما تقرّ الدراسة بأن المدن المغربية تعتبر محركات للنمو الاقتصادي، وتمثل رافعات قوية للحد من الفقر، إلا أنها ما زالت تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة، ولفتت إلى أن تفعيل استراتيجيا وطنية للتنمية المستدامة ومواجهة آثار تغيّر المناخ يمنحان المدن فرصة لتحسين ظروفها بدمج المخاطر وزيادة المرونة في منهاج التنمية الخاص بها.
وأوضح البشير حجاجي، الباحث في التدبير الحضري وسياسة المدينة، في تصريح لـ”العرب”، أن هذا التأثير ينعكس بإطلاق عدد من الديناميكيات التي تتطلب إعادة التأهيل المستمر للهياكل وأساليب عمل البلاد، وخاصة في مجال الإدماج الاقتصادي للمغرب من خلال عدد من المشاريع الكبرى (المغرب الأخضر، استراتيجية السياحة 2020، خطة رواج، استراتيجية أليوتيس، الاستراتيجيا الوطنية للتنافسية اللوجيستية، الاستراتيجيا الرقمية للمغرب، برنامج مدن من دون صفيح، برنامج المدن الجديدة، إلخ.).
وبرأيه فقد اكتسبت المشاريع الكبرى في الوسط الحضري أهمية متزايدة في مجال التنمية الحضرية كما في إعادة تموضع المدن، على المستوى الوطني والدولي، حيث اجتذبت بعض المدن عددا من المشاريع الكبرى منها “مجمع طنجة المتوسطي، القطب الحضري لأنفا والمدينة الخضراء لبن كرير”.
ويتماشى التوسع الحضري مع الهجرة القوية من البادية إلى المدن، وقد نجم عن هذا التوسع استهلاك مساحات جديدة من الأراضي عادة ما تكون زراعية.
ويحذر خبراء من تداعيات الزحف العمراني والحضري على المساحات الخضراء.
وأوضح إدريس الفينة، أستاذ بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي بالرباط، لـ”العرب”، أنه وحسب تقديرات المعهد “إن مدن المغرب تستهلك سنويا ما يناهز 5000 هكتار من الأراضي الزراعية لمواجه حاجيات 160 ألف أسرة جديدة تلتحق سنويا بهذه المدن. وهو ما يعادل 640 ألف نسمة”.
وبيّن أن المدن تحتاج إلى مساكن جديدة وإلى بُنى تحتية وتجهيزات جماعية باستمرار لمواكبة حاجيات السكان، وكل هذا يتم على حساب الأراضي الزراعية المحيطة بها، حيث لا يوجد حل آخر اليوم غير استهلاك المزيد من الأراضي الزراعية لضمان توسع المدن المستمر.
ويبقى السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه على مخططي إعداد المدن المغربية هو عن كيفية جعل المدن تتطور بشكل جيّد وبأقل استهلاك للمساحة الزراعية.
وحسب رأي الفينة فإن المشكلة في المغرب أعمق بكثير لأن المدن تتطور بشكل عشوائي على مستوى الضواحي غير المتحكم فيها وهو ما يضرّ كثيرا بالمدن نفسها وبالمساحات الزراعية والبيئة على حدّ سواء. وعلى الرغم من توفر المدن على عدد من وثائق التخطيط الحضري إلّا أن الإشكالية مستمرّة بسبب عدم الالتزام والتقيّد بها.
بالوقوف على العوامل المؤثرة في التوسع الحضري للمدن المغربية فقد رصد حجاجي بروز عامل المنافسة، حيث تخضع الأرض الحضرية في المراكز الحضرية عامة والرئيسية على وجه التحديد إلى مجموعة من العوامل الاقتصادية من أهمها عامل شبكة النقل، وبذلك يكون عامل المنافسة له أثر بالغ في عملية النمو والتوسع الحضري للمدن وتباعد أطرافها، وكذلك تطور مستوى الدخل الفردي، فزيادة متوسط الدخل الفردي تعني زيادة المستوى المعيشي للسكان وتحسن قدرتهم الشرائية وأثرها على عملية النمو والتوسع الحضري.
كما ترتبط حركة التطور الصناعي بشكل فاعل بعملية التحضر إذ يعد النشاط الصناعي عاملا أساسيا في نشأة المستوطنات الحضرية الكبيرة والسريعة النمو.
ويبدو لافتا أن المراكز الحضرية الرئيسية قد شهدت ظهور العديد من المشاريع والوحدات الصناعية ذات الطابع المحلي والبسيط تنحصر ضمن الحيز الحضري في تلك المراكز الصغيرة.
بالتوازي مع هذه العوامل يلفت حجاجي إلى العوامل الاجتماعية التي باتت تؤثر بشكل كبير في التركيبة الداخلية للمدينة ونظام توسعها المساحي في المستقبل.
60 في المئة من المغاربة يسكنون اليوم في المناطق الحضرية، مقارنة بـ35 في المئة سنة 1970
واستباقا لتداعيات التمدد العمراني، كشفت فيدرالية الوكالات الحضرية المغربية انطلاقا من استنتاجاتها، أنه وقع إغناء النسيج التاريخي لثلاثين مدينة عتيقة ببنية حضرية عصرية ومتسلسلة، وذلك بفضل الترسانة القانونية والمؤسسات الرقابية التي ما فتئت تتطور وتتكيف، ولا يخلو هذا التطور من التأثير على البنية الوظيفية للنظام الحضري المغربي، ما دامت المدن قد عرفت وستعرف، من دون شك، تغييرات على المستوى السوسيو – مجالي.
وبينما يقرّ الخبراء أن الجهود الحكومية ستواجه عدة معوقات على مستوى التوسع العمراني، حيث يتمثل التحدي الحقيقي في التوفيق بين التطور التقني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي للحياة الحضرية، إلا أنه لا يمكن كسب هذا الرهان المتعدد الأبعاد إلا من خلال الأعمال التنفيذية والتعاقدية التي تدخل في ممارسة متجددة.
واعتبر محمد جاجا، باحث في تاريخ المدن والمعالم التاريخية بالمغرب، في تصريح لـ”العرب”، أن “المدن المغربية أصبحت تتوسع بشكل رهيب وأسرع من النمو السكاني، حيث أسهمت عوامل أساسية بشكل أو آخر في هذا التوسع الحضري منها الهجرة من القرى إلى المدن الشيء الذي يؤدي إلى انفجار ديموغرافي، ومشكلة الهجرة ليست وليدة اللحظة”.
وأكد أن “استمرار الهجرة والزحف العمراني على المدينة المغربية يقود إلى تحديات اقتصادية واجتماعية سرعت من هذا التوسع الحضري وإن كان على حساب القرى”.
وأوضح جاجا، أن “السياسات الحكومية بعد الاستقلال قادت إلى ظاهرة التوسع العمراني”. وفسر أسباب النزوح إلى المدن بسبب سوء توزيع الثروات والتنمية وإلى الدوافع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي تقود آلاف الطلبة إلى المدن الكبرى للدراسة، بالإضافة إلى عدم تكافؤ البنى والمشاريع الاقتصادية بين المدن المغربية.
وحسب استنتاجه، تتركز المشاريع الاستثمارية في شمال المغرب وهو ما يدفع المواطنين إلى اللجوء إليها، وينجر عن ذلك بناء عشوائي رغم جهود الدولة، ما يتطلب إعادة ترشيد مسألة إعداد المدن المغربية.
مخاطر وحلول
تفيد معطيات الدراسة بأن المخاطر التي تؤثر على المناطق الحضرية بالمغرب تتفاقم بسبب عوامل الضعف، ومنها النمو السريع للسكان وتغير المناخ، والمساكن غير المجهزة وغير الصحية، واستمرار جيوب الفقر.
كما ترصد الدراسة نوعين من المخاطر التي تهدد المباني، أولها المخاطر ذات المصدر الطبيعي، وتشمل الزلازل والفيضانات وانزلاقات التربة و”التسونامي” والأعاصير والجوائح؛ أما النوع الثاني فهو مرتبط بالبشر، مثل الحرائق والانهيارات والمخاطر الصناعية.
وبرأي الفينة، فأن “المغرب يحتاج لتطوير مدنه بشكل كبير حيث تأخر كثيرا في هذا المجال”، مشيرا إلى أن “هناك اليوم تدارك لهذا العجز ولكن بكلفة عالية، فعدد من المدن لا تتوفر على مقومات الإطار الحضري ومساهمتها الاجتماعية والاقتصادية تبقى محدودة”.
وبالنسبة إلى المخاطر التي تواجهها المدن المغربية فهي متعددة. وهي مرتبطة عادة بالمواقع الجغرافية لهذه المدن وطريقة تخطيطها. فهناك مدن معرضة للزلازل وأخرى معرضة لانجراف التربة وأخرى للفيضانات، وكل هذه المخاطر يتم اليوم أخذها بعين الاعتبار سواء على مستوى ضابط البناء المعمول به أو تصاميم التهيئة.
واعتبر خبراء البنك الدولي الذين أعدوا الدراسة أن المغرب اتخذ لعقود عدة تدابير هيكلية للوقاية من المخاطر، لاسيما مكافحة الفيضانات والجفاف من خلال تطوير مشاريع هيدروليكية كبيرة، لكن هذه التدابير أظهرت حدودها اليوم.
واعتبرت الدراسة أن استمرار وجود مبان غير منظمة ومهددة واستغلال الخط الساحلي من خلال التوسع الحضري، وتغير المناخ وإضعاف التراث العمراني القديم، كلها عوامل هشاشة وضعف، ولذلك يجب تعزيز الإطار التنظيمي للبناء دون تأخر.
وأكد جاجا، أن للتوسع الحضري مجموعة من المخاطر نرصدها في مسألة الضعف الذي ينتاب البنى السكانية في المدن بالإضافة عدم تكافؤ بين الانفجار الديموغرافي والتوسع الحضري. وصنف تلك المخاطر إلى أنواع وهي مخاطر طبيعية ولعل هذا ما نلحظه في مدن مثل الدار البيضاء وطنجة التي تعرضت إلى الزلازل والفيضانات مؤخرا، ومخاطر ناتجة عن سلوكات السكان وما يحدثونه من مخاطر صناعية متعلقة بالحرائق والحوادث بالمصانع.
وبرأيه فإن هذه النتائج ناجمة عن سياسات قديمة لإعداد التراب الوطني، وهو ما يتطلب اليوم إعادة النظر في مجموعة من المعطيات التي تسهم في تطور وتنمية المدن باعتبارها محركا اقتصاديا، وبالإمكان أن يعطي للتوسع الحضري نوعا من الملائمة والمرونة بين السكان والمدينة وبين زيادة توسع البناء على حساب القرى والأراضي الزراعية.
السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه على مخططي إعداد المدن المغربية هو عن كيفية جعل المدن تتطور بشكل جيد وبأقل استهلاك للمساحة الزراعية
من جهتها، لاحظت فيدرالية الوكالات الحضرية الجهود المبذولة طوال العقود الماضية أنه لم تكن كافية لوقف النقص في التمدن وانفلاتات التحضر ومختلف أشكال الإقصاء والتمييز الاجتماعي والمجالي، ونتيجة لذلك فإن المكتسبات المتعلقة بهذا النظام الحضري تجد نفسها على المحك.
وتبعا لذلك، فإن الزحف العمراني والسكن غير اللائق والاستيلاء على الفضاء العام والتدهور البيئي والاقتصادي والفقر تشكل أبرز التحديات التي تتعرض إليها المناطق الحضرية اليوم.
ولمواجهة هذه التحديات أوصت دراسة البنك الدولي إلى زيادة الاستثمار في الأداء السليم للإطار التنظيمي المتعلق بالتهيئة الترابية والحضرية والبناء، وهو ما سيوفر فرصة استراتيجية للمساهمة في مستوى أفضل من الحماية والمرونة الحضرية.
وأشار حجاجي إلى أن التشريعات المعمول بها في مجال التعمير تستمر في إثبات حدودها للسيطرة على التطور السريع لمواكبة التطور الاجتماعي والاقتصادي والمجالي الحالي. ومن بين الحلول التي يقترحها هو “إدخال نظام حضري فعال على المستوى المجالي والاقتصادي والاجتماعي، والاستجابة للتطلعات التي تولدها جهود التغيير، وهنا يكمن التحدي الأكبر”.
وختم بالقول “يبدو اليوم جليا أن التوقعات المستقبلية قد صممت من أجل سياسة عمومية حضرية تأخذ بعين الاعتبار الأولويات المتعلقة بالتغييرات المؤسساتية والمجتمعية التي عرفها المغرب وذلك لضمان تعمير حضري متضامن وشامل”.
العرب