دأب الإعلام المصري على وصف الاقتصاد التركي بالاقتصاد المنافس لا سيما في ظل حالة المشاحنة الناتجة عن احتضان الدولة التركية للمعارضة المصرية، علاوة على التشابك في العديد من الملفات الأخرى وعلى رأسها ملف الغاز في البحر المتوسط، بالإضافة إلى الملف الليبي الذي تراه القاهرة عمقها الاستراتيجي، بينما تعتبر أنقرة أنها دخلته من بوابة الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً.
الفرق الجوهري بين الاقتصادين
من البديهي أن هناك فروقا شاسعة بين اقتصادي الدولتين، حيث الاقتصاد التركي واسع ومتنوع زراعياً وصناعياً وخدمياً، تقارب قيمة إنتاجه المحلي نحو 800 مليار دولار، وتخطت صادراته 165 مليار دولار في عام 2020، هبوطاً من 180 مليار دولار في عام 2019، وهو الرقم الذي اعتبره الخبراء نجاحاً كبيراً للإدارة التركية في ظل أزمة كورونا التي عصفت بالاقتصادات الكبرى حول العالم.
بينما تسيطر الخدمات على 50% من الاقتصاد المصري، ولا يشكل إنتاجه الزراعي والصناعي سوى أقل من 25% من ناتجه المحلي الذي لا يتجاوز 250 مليار دولار وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، كما أن الصادرات المصرية لم تتجاوز 25 مليار دولار في العام 2020 نزولاً عن نحو 30 مليارا تقريبا في العام السابق له. وهي الأرقام التي توضح ببساطة الفروق الكبيرة بين الاقتصادين، ليس فقط على مستوى البنيان الهيكلي، ولكن أيضا على مستوى الإنتاج الذي هو الداء العضال الذي يعانيه الاقتصاد المصري.
إعلان تدشين القطارين في وقت متقارب
من اللافت أن إعلان الدولتين عن تدشين خطوط سكة حديد جديدة جاء في وقت متقارب للغاية، ولكن من الطبيعي أن تختلف توجهات دولة انتهجت الإنتاج سبيلاً ممنهجاً نحو التنمية، وبالتالي تحتاج إلى تنويع طرائق تصريف تلك المنتجات بين موانئ وخطوط جوية وبرية وسكك حديدية، ودولة أخرى تعتبر أن مجرد بناء جسر ورصف طريق أو تدشين قطار جديد هو منتهى الآمال التنموية التي يجب أن يتغنى بها الشعب بغض النظر عن جدواها أو أولويتها لاقتصادية، وحتى بدون أن يسأل أحد عن مصدر تمويلها الذي من المعروف مسبقا أنه سيكون بقرض خارجي جديد.
قطار مصري في الصحراء القاحلة
كعادته خرج السيسي على الشعب المصري بصورة مفاجئة معلناً عن توقيع مذكرة تفاهم بين الحكومة المصرية وشركة “سيمنز” العالمية لتنفيذ منظومة شبكة قطار كهربائي سريع بطول نحو 1000 كم على مستوى البلاد، وبكلفة إجمالية قدرها 360 مليار جنيه (نحو 23 مليار دولار)، مع البدء الفوري بتنفيذ الخط الذي سيربط مدينة العين السخنة بمدينة العلمين الجديدة مروراً بالعاصمة الإدارية الجديدة.
وأثارت الكلفة الضخمة علاوة على الفراغ الصحراوي الذي تمر به المرحلة الأولى من المشروع حفيظة المصريين حتى الموالين للسلطة، وهو ما اضطر الحكومة للإعلان عن أن الخطة ستشمل استبدال وتجديد الخطوط القديمة، وأن الهدف الحقيقي للمشروع هو نقل البضائع، ولم يتبرع أحد ليبلغ الشعب أي بضائع تلك المنتجة في الصحراء، وأي شعب هذا الذي سيستفيد من المشروع، بخلاف شعب المدن السياحية، بل وتجاهلت الحكومة كعادتها تقديم المبررات التنموية للمشروع، التي تنطلق من واقع أو تغيره وتبني واقعا جديدا في المستقبل، وهو الأمر الذي برهن عن الغياب التام للاستراتيجيات التنموية في أذهان من يديرون السلطة المصرية.
القطار التركي إلى الصين ثم إلى روسيا
في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي انطلق أول قطار شحن يحمل بضائع مصدرة من تركيا إلى الصين قاطعا في طريقه قارتين وبحرين و5 دول، بمسافة حوالي 8693 كيلومتراً (5402 ميل)، في غضون 12 يوما قبل أن يصل إلى الصين، وبالفعل وصل القطار إلى وجهته يوم 19 ديسمبر، وما لبث أن أنطلق القطار الثاني بعدها بيومين فقط ليؤكد على رغبة الأتراك الملحة في فتح الأسواق لمنتجاتهم الغزيرة.وعلقت وزارة الخارجية التركية على الحدث قائلة إن “تركيا ستواصل اتخاذ الخطوات اللازمة في مجال النقل من أجل تعزيز تواصلها مع الشرق والغرب وترسيخ مكانتها المركزية في المنطقة”. كما أكدت أن “تركيا باتت حلقة وصل بين أوروبا والشرق الأقصى في النقل، من خلال إنشاء الشبكات المتطورة من السكك الحديدية”.
وفي أعقاب نجاح الخط الأول سرعان ما أعلنت وزارة المواصلات التركية، نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، عن انطلاق قطار صادرات جديد متجها إلى الأراضي الروسية، ومن المقرر أن يمرّ قطار الصادرات بعد انطلاقه من أنقرة بالأراضي الجورجية ثم الأذربيجانية قبل وصوله إلى العاصمة موسكو.
وقطع القطار المكوّن من 15 عربة المسافة بين أنقرة وموسكو البالغة 4 آلاف و650 كيلومترا خلال 8 أيام، حاملاً على متنه ما يزيد على 3 آلاف طن من البضائع المنزلية. وحرص السفير التركي في موسكو على استقبال القطار، وأعلن وقتها استهداف البلدين وصول حجم التجارة بينهما إلى 100 مليار دولار.
الرؤية الكلية للسلطة
تخيب آمال المتابعين للاقتصاد المصري في محاولة التوصل إلى الرؤية الكلية والاستراتيجية من المشروعات التي تنفذها السلطة، حيث تغيب الرؤية والاستراتيجية بصورة كلية، فلا رابط تنموي حقيقيا بين هذه المشروعات، ولا رؤية حتى ولو جزئية لترتيب أولويات الإنفاق العام، ولا استهداف حقيقيا عبر إجراءات وتشريعات وترتيبات للانتقال نحو الاقتصاد الإنتاجي.
فتدشين القطار الكهربائي في الصحراء سبقه توسع محموم في تدشين طرق وجسور وإنفاق تغيب عن معظمه الجدوى الاقتصادية، مع غياب معتاد ومستهجن للمشروعات الصناعية، وإهمال مخز للقطاع الزراعي الذي يمر العاملون فيه بأزمة غير مسبوقة تسببت فيها سياسات النظام الزراعية.كل ذلك علاوة على الإهمال المتعمد للموارد البشرية، والتذرع بالزيادة السكانية عند كل مطالبة بتوسيع الإنفاق العام على الصحة والتعليم والبحث العلمي كمتطلبات أساسية لأي رغبة جادة لإحداث التحول التنموي المنشود، وكل ذلك بالإضافة إلى التضييق على القطاع الخاص لحساب التوسع في مشروعات الجيش، الأمر الذي كانت نتيجته المنطقية هروب الكثير من رجال الأعمال الشرفاء، علاوة على ضعف جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
في المقابل، كانت الرغبة التركية جامحة في التوسع الإنتاجي، حيث حقق القطاعان الزراعي والصناعي طفرات مشهودة خلال العقدين الماضيين، انطلاقا من أرضية بحثية لم تدخر الدولة جهدا في التوسع فيها والإنفاق عليها، فلم تثمر فقط في القطاع السلعي، بل امتد أثرها نحو الإنتاج العسكري الذي كانت الطائرات المسيرة أحد أهم عناوين نجاحه خلال الفترة الماضية.
ولم تهمل الدولة التركية مواردها البشرية، حيث ناشدت الشعب زيادة الإنجاب ووضعت حوافز مالية للمواليد، كما اهتمت بتشييد مجمعات صحية عملاقة تفوقت على نظيراتها الأوروبية اتساعا وكفاءة وإدارة، علاوة على اهتمامها بالتعليم. وتكفي هنا فقط الإشارة إلى تخطي عدد الجامعات التركية حاجز 200 جامعة مقارنة بنحو أقل من 30 جامعة فقط منذ 20 عاما تقريبا.
رؤية تركية تنموية مرسومة بعناية ودقة، تسعى السلطة إلى تنفيذها عبر مشروعات ذات دراسات جدوى معلنة، حققت من خلالها تنمية متوازنة بين مختلف القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، في مقابل مشروعات مصرية مبعثرة تسعى إلى مجد الحاكم الشخصي، ولا تهتم بالجدوى والأولويات، وتتناسى حقوق الجماهير العريضة، بل وتتهمهم بالتخاذل وكثرة الإنجاب. ورغم أن تلك هي الخطوط العامة للسلطة بين البلدين، إلا أن مثال القطارين يعد نموذجاً أمثل لشرح الفارق بينهما.
أحمد ذكر الله
العربي الجديد