دلالات السلوك التصويتي في الانتخابات المحلية بالمغرب

دلالات السلوك التصويتي في الانتخابات المحلية بالمغرب

2015-635780158800842883-84
شهد الرابع من سبتمبر 2015 انتخاب أعضاء المجالس الجماعية والجهوية (الانتخابات المحلية) في المغرب عن طريق الاقتراع العام المباشر، بهدف إشراك المواطنين في تدبير الشأن المحلي، وبغية تعزيز اللامركزية القائمة على أساس الجهوية المتقدمة.

وشارك في مراقبة هذه الانتخابات 3425 عضوا ينتمون للجمعيات والمنظمات الوطنية، و474 عضوا  تابعا للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، و 125 مراقبا أجنبيا، حيث جاءت نتائجها مفاجئة للمهتمين بالشأن الحزبي المغربي، وسط مقاطعة واسعة، مما يدفع للبحث والتقصي عن محددات السلوك التصويتي التي أفرزت تلك النتائج، وعن أسباب المقاطعة، ومدى تأثيرها في المشهد السياسي المغربي.
أولا – خريطة الأحزاب المنبثقة عن الانتخابات:
صعود حزب العدالة والتنمية:
يعد حزب العدالة والتنمية الرابح الأكبر من استحقاقات 4 سبتمبر، فالحزب استطاع أن يصعد من الرتبة السادسة التي حققها في عام 2009 إلى المرتبة الثالثة بما مجموعه 5021 مقعدا (15,94%)، مع ضمانه تسيير جل المدن الكبرى، كالدار بيضاء، وفاس، ومراكش، وطنجة، ومكناس، والقنيطرة، والرباط، وسلا، وأكادير، ، فيما لم يتمكن الحزب سوى من ضمان تسيير جهتين من أصل 12 جهة هي جهة “الرباط ـ سلا ـ القنيطرة” وجهة “درعة تافيلالت”، بينما كانت التوقعات ترجح أن يتمكن من تسيير خمسة جهات، إلا أنه تنازل في ثلاث جهات ذهبت إلى أحزاب في التحالف الحكومي. في حين فشل الحزب في تحقيق نتائج إيجابية في القرى والبوادي.
وتشكل النتائج التي تحصل عليها الحزب مؤشرا إيجابيا تجاه مستقبله في القادم من الاستحقاقات الانتخابية، إذ سيتمكن من تحقيق مقاعد مهمة خلال تجديد الغرفة الثانية للبرلمان المغربي (مجلس المستشارين)، كما من المتوقع أن يحافظ على صدارته خلال انتخابات مجلس النواب في سبتمبر 2016، وبالتالي، تشكيل حكومة جديدة، وإن كانت التنازلات التي اضطر الحزب إلى تقديمها في رئاسة الجهات للأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي ستؤثر على موقعه لا محالة.
 استقرار الأحزاب الإدارية وتراجع القوى التقليدية: 
أسفرت الانتخابات عن استقرار في مواقع الأحزاب الإدارية الخارجة من رحم القصر، حيث حافظ حزب الأصالة والمعاصرة على تصدره للانتخابات الجماعية والجهوية بـ 21,12%من المقاعد، وهو مؤشر على قدرة الحزب على منافسة حزب العدالة والتنمية خلال انتخابات مجلس النواب القادمة، فيما جاء كل من حزبي التجمع الوطني للأحرار، والاتحاد الدستوري في المرتبتين الرابعة والثامنة، وهو ما يعكس حفاظ هذين الأخيرين على موقعيهما المستقرين في المشهد الحزبي المغربي، بينما استمر مسلسل تراجع القوى التقليدية، إذ احتل حزب الاستقلال الرتبة الثانية بعدما سيطر على الانتخابات نفسها منذ 1960 إلى 2009، وهو مؤشر على تراجع الحزب، وعدم قدرته على المنافسة على رئاسة الحكومة خلال الاستحقاقات القادمة.
 وجاء حزب الاتحاد الاشتراكي سادسا ليبرهن على ضعف الحزب، في ظل توالي الانشقاقات، وآخرها تأسيس تيار “الانفتاح والديمقراطية” المنبثق عن الحزب لحزب “البديل الديمقراطي الاشتراكي”.
فشل فيدرالية اليسار الديمقراطي: 
شكلت انتخابات 4 سبتمبر محطة حقيقية لفيدرالية اليسار الديمقراطي المكونة من تحالف ثلاثة أحزاب يسارية قاطعت الانتخابات لسنوات، وهي حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، والحزب الاشتراكي الموحد، وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي. غير أن النتائج التي أسفرت عنها بحصول التحالف على 333 مقعدا (1,06%) جاءت مخيبة لآمال تيار “الإصلاح من الداخل”، وعززت من موقع الداعين للمقاطعة من داخل الحلف، رغم حديث زعماء التحالف، خصوصا الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد “نبيلة منيب”، عن النتائج كحصيلة إيجابية.
وعليه، فإن أهم ما يستخلص من هذه النتائج أن فيدرالية اليسار فشلت في التواصل مع الجماهير الشعبية، وإقناع الناخبين. فمقاطعة الأحزاب المكونة للحلف للانتخابات، لسنوات طويلة، وعدم تنويعها لخطابها، وتجديدها لآلياتها،  كل ذلك يضعها أمام ضرورة النقد الذاتي، والاعتراف بخطأ الدخول في انتخابات تحكمها محددات بعيدة كل البعد عن الموضوعية، وعدم الانجراف وراء لعبة سياسية ستستنزف رصيدها السياسي على غرار حزب الاتحاد الاشتراكي خلال حكومة التناوب (1997)، وحزب العدالة والتنمية مع حكومة ما بعد الحراك العربي.
ثانيا – السلوك التصويتي ما بين الثابت والمتغير:
يخضع السلوك التصويتي للناخب المغربي لمحددات ثابتة، وأخرى متغيرة، تسهم في توجيهه، حيث تسعى الدولة دائما للرفع من نسب المشاركة للدلالة على استقرار الأوضاع السياسية، في حين تعمل الأحزاب على استمالة الناخب لكسب مقاعد جديدة تسهم في زيادة وزنها داخل المشهد الحزبي.
محددات ثابتة: 
غياب الوعي الانتخابي: تسيطر الأيديولوجية والانتماء الحزبي على السلوك التصويتي للناخب المغربي. فالبرنامج الانتخابي لا يشكل أساسا للعملية التصويتية، وإنما التعصب للحزب ركيزة لهذا السلوك، مما ينتج ناخبا يصوت للحزب والأيديولوجية، لا للبرنامج.
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث تمثل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد محددا رئيسيا في توجيه السلوك التصويتي للناخب، وخصوصا الطبقة المتوسطة التي تسعى للمشاركة الإيجابية كلما تحسنت الأوضاع، في حين يكون رد فعلها في الأزمات إما بالتصويت العقابي، أو المقاطعة.
القبيلة: إذ تسيطر القبلية، والعصبية، والانتماء العرقي على سلوك الناخب المغربي، خصوصا في القرى والبوادي، حيث يصبح مسلوب الإرادة، وتابعا لسلطة الجماعة، ومجبرا على تنفيذ أوامر القبيلة.
الأعيان: ولهم تأثير كبير داخل المجتمع بفعل نفوذهم وسلطتهم المنبثقة من وضعهم الاجتماعي، مما يسمح لهم باستمالة الناخب، إما خوفا من عقابهم، أو سعيا لتحقيق ربح ومكسب.
المال: حيث يشغل المال دورا رئيسيا في شراء أصوات الناخبين واستمالتهم عن طريق استغلال فقرهم وبساطتهم. وفي كثير من الأحيان، يكون المال مفصليا في فوز الأعيان بمقاعد مريحة، خصوصا في القرى والبوادي التي تعاني ضعف البنية التحتية، وارتفاع البطالة، وغياب المرافق العمومية، وانتشار الأمية.
محددات متغيرة: 
ما بعد الحراك العربي: 
كان من نتائج الحراك العربي أن تبنى المغرب دستورا جديدا سنة 2011 مع إجراء انتخابات تشريعية في 25 نوفمبر 2011، أسفرت عن رئاسة حزب العدالة والتنمية للحكومة، حيث شكلت المحددات السابقة سمة ثابتة طبعت السلوك التصويتي للناخب، يضاف إليها محددان مهمان:
استخدام الدين في السياسة: وهو أمر ليس جديدا على المشهد السياسي المغربي، إن وضعنا في الحسبان أن المؤسسة الملكية تستمد شرعيتها من الأيديولوجية الدينية، بحسبان الملك أميرا للمؤمنين، وما يتبع ذلك من طقوس للبيعة والولاء. غير أن استحقاقات 25 نوفمبر عرفت دخول حزب العدالة والتنمية على الخط، والتأثير فى الناخب لاستمالته عن طريق الخلط ما بين الخطاب السياسي والخطاب الديني.
التصويت العقابي: حيث شكلت إرادة الناخب في تغيير بعض من رءوس الفساد، والإطاحة بأحزاب تزكي فاسدين على رأس لوائحها، دافعا أساسيا للتصويت العقابي ضد هؤلاء لمصلحة حزب العدالة والتنمية، مما يدفعنا للقول إن نجاح هذا الحزب لا يعكس شعبيته وقوته بقدر ما يدل على غياب البديل الحقيقي، واختيار التغيير السلبي الإرادي، إذ أصبحنا أمام ناخب متشبع بفلسفة واقعية، هدفه إسقاط الفاسدين، وان كان ذلك على حساب صعود حزب غير مقتنع بأيديولوجيته، وتوجهاته، وتصوراته.
ما بعد 4 سبتمبر:
لا يمكننا فصل الخريطة السياسية التي أفرزتها انتخابات 4 سبتمبر 2015 عن المحددات الثابتة والمتغيرة السابقة الذكر. ففشل حزب العدالة والتنمية في القرى والبوادي، مقابل انتصار الأحزاب الإدارية والقوى التقليدية، مرده بالدرجة الأولى ضعف تغطية الحزب للدوائر الانتخابية في تلك المناطق، وبدرجة أخرى للدور الكبير الذي لعبه الأعيان والمال في حسم المواجهة لمصلحة الأحزاب الإدارية، وباقي الأحزاب الأخرى التي تركز على العالم القروي.
أما الانتصار الساحق الذي حققه حزب العدالة والتنمية في المدن، وخصوصا في معاقل المعارضة، فيرجع للدور الكبير الذي لعبته الطبقة المتوسطة في حسم الصراع، حيث عمد هؤلاء للتصويت العقابي ضد أشخاص العمداء السابقين لمصلحة حزب العدالة والتنمية دون اقتناع بأيديولوجية وبرنامج هذا الأخير. ومن أبرز الشخصيات التي أطاح بها الحزب: حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، عمدة مدينة فاس، وفاطمة الزهراء المنصوري، عمدة مراكش، عضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة، وفؤاد العماري، عمدة طنجة، عضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة، ومحمد ساجد، عمدة الدار بيضاء، عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الدستوري، وفتح الله ولعو، عمدة الرباط، عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي.
وتمخضت عن الانتخابات المحلية محددات خاصة ترتبط بسعي الدولة المغربية لحشد الناخبين بغرض المشاركة عن طريق التعبئة الإعلامية، وهو ما تجلى في خطاب العاهل المغربي، الملك محمد السادس، حينما توجه للشعب في خطابه بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب، مؤكدا أن “من يضع على رأسه مفسدين لا تقبل منه شكاية”، وهو ما يمكن فهمه برسالة واضحة من الدولة عن ضمانها للحد الأدنى لنزاهة الانتخابات، في ظل اعتماد بطاقة التعريف الوطنية بدلا من بطاقة الناخب للحد من التجاوزات التي عرفتها الانتخابات السابقة، إضافة إلى اعتماد إجراءات تنظيمية تسهل عملية التصويت.
ثالثا – مقاطعة واسعة وحراك في الأفق:
أظهرت الأرقام التي أدلت بها وزارة الداخلية أن نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية بلغت 53,67%، حيث صوت 8 ملايين، و121 ألف ناخب من أصل 15 مليون مسجل في اللوائح الانتخابية. غير أن هذه النسبة لا تعكس الواقع، في ضوء أن هناك 24 مليون مغربي فوق سن الـ 18 سنة يحق لهم التصويت، أي أن أكثر من 9 ملايين مغربي غير مسجلين في اللوائح الانتخابية. واستنادا إلى ذلك، فإن نسبة المشاركة لا تتجاوز 33,83% في حين تصل نسبة المقاطعة إلى 66,16% من مجموع المغاربة الذين تتوافر فيهم شروط المشاركة. وعليه، ينقسم المقاطعون لأربعة اتجاهات:
الاتجاه الأول، وهو يغلب عليه الطابع الأيديولوجي، حيث يرفض اللعبة السياسية برمتها، ويتهم المؤسسة الملكية بعدم الانخراط الحقيقي لدمقرطة المشهد السياسي، بفعل سيطرة القصر على الفعل والفاعل السياسي المغربي، مع انتهاك حقوق الإنسان، وعدم استقلالية القضاء. ويمثل هذا الاتجاه كل من حزب النهج الديمقراطي الماركسي اللينيني، وجماعة العدل والإحسان.
الاتجاه الثاني، ويتحكم فيه البعدان الاقتصادي والاجتماعي، ويتمثل في الشباب، والمعطلين، والطبقة الوسطى، الرافضة للجوء حكومة العدالة والتنمية لقروض تقيد سياسات المغرب، بفعل الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي لضبط التوازنات الماكرو اقتصادية، عن طريق تبني خطط للتقشف، والخفض من الميزانية العامة للتقليل من كتلة الأجور، والاقتطاع من ميزانية الاستثمار، والرفع من سن التقاعد، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، مما يرفع من معدل البطالة، ويقلل من خلق مناصب شغل جديدة، ويهدد القدرة الشرائية للمواطن المغربي.
 الاتجاه الثالث، حيث يوجه سلوكه البعد القانوني والتنظيمي، حيث يرى أن الحديث عن إشراك المواطن في تدبير الشأنين المحلي والجهوي يبقى قاصرا، برغم إقرار الدستور بهذا المبدأ، كون القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات المحلية والجهوية كرست رقابة العمال والولاة، بدلا من المساعدة، وهو ما سيجعل التدبير المحلي خاضعا لسلطة مركزية غير منتخبة.
 أما الاتجاه الرابع والأخير، فيرى أن الممارسات السياسية التي تطبعها البراجماتية في تحالف الأحزاب، رغم تضارب في المرجعيات، تجعل من صوت الناخب يسهم في تحالف بين المفسدين وتجار الدين الزاعمين محاربتهم الفساد.
إن نسبة المقاطعة الواسعة لهي تعبير صريح عن رفض الشارع المغربي للأوضاع القائمة، ومؤشر واضح على أزمة هوية تعانيها الأحزاب، وسط غياب في تنويع الخطاب، وتجديد الآليات، في ظل استنزاف لرصيدها السياسي في علاقتها بالمؤسسة الملكية، وأن مطالب، كالملكية البرلمانية، والعدالة الاجتماعية، والربط الحقيقي للمسئولية بالمحاسبة، والفصل الحقيقي بين السلطات، واستقلالية القضاء، أصبحت مطالب ملحة، خاصة أن المقاطعة كسلوك لا يمكن توقع مدى تطوره، ومجال تحركه، مما يجعل العودة للشارع من جديد، في ظل السياسات اللاشعبية التي أضرت بالقدرة الشرائية للمواطن المغربي، أمرا واردا في الأفق.
سامي السلامي
مجلة السياسة الدولية