على الرغم من محاولات خلط الأوراق في العراق تأجيل الانتخابات النيابية المزمع اجراؤها في تشرين الأول/ أكتوبر القادم، أعلن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، يوم السبت الفائت، ” ماضون بعزم في تطبيق برنامج الحكومة، رغم الأصوات النشاز وعمليات التأزيم المفتعلة. هذا الجو السلبي الذي يراد له أن ينتشر ويتمدد، إنما يستهدف آمال العراقيين بغدٍ أفضل. الانتخابات في موعدها بإذن الله، ولا تراجع عن مشروع بناء الدولة”.
تذهب هذه التغريدة على الرغم من حجم الصعوبات، التي من المؤكد أن يواجهها مشروع إعادة بناء الدولة الوطنية، إذا أخذنا بعين الاهتمام، إصرار ميليشيات الولائية على تحجيم دور الدولة، وإهانة من يمثلها، كما جرى مؤخرا في الاستعراض الأخير التي قامت به هذه الميليشيات ” ربع الله” في بغداد.
لا شك في أن أهم متطلبات إعادة نهوض الدولة التي يحتاجها العراق في الوقت الحاضر، تتمثل في ضرورة إعادة سيادة الدولة على أنظمتها السياسية، والأمنية والاقتصادية، وإنهاء النفوذ الإيراني، والشروع بوضع حجر الأساس لإرساء مشروع بناء الدولة، التي يتصورها رئيس الوزراء العراقي في تغريدته على تويتر ويتمناها أغلبية العراقيين.
ربما تكون هذه هي الفترة الأنسب للعراق ليستعيد ذاته ومستقبله ويتخلص من النفوذ الخارجي على قراره السياسي واقتصاده وأمنه، وربما لم يحدث منذ عام ٢٠٠٣ أن توافرت عناصر تساعد العراق أن يعيد توجيه قاطرته السياسية باتجاه بناء الدولة الوطنية والتخلص من الفساد وحصر السلاح في يد الدولة والدولة فقط.
تاريخ الكاظمي وتجربته تشير إلى أنه الخيار الأنسب للمرحلة، يحمل الكاظمي مرجعية ورؤية علمانية مدنية وتجربة نوعية في الاستخبارات، إضافة إلى أن الحرب التي تشن عليه من قبل المليشيات الإيرانية المتطرفة التي تراه خصماً لها ولمشروعها كلها مؤشرات تنذر أنه سيمثل بداية ما للتغيير.
وبمجرد انتهاء زيارة الناجحة للبابا فرنسيس إلى العراق في آذار/ مارس الفائت، ومن اجل توظيف هذه الزيارة بما يخدم مصالح العراق العليا، دعا رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي،إلى عقد حوار وطني، قال الكاظمي، في كلمة مصورة بمناسبة انتهاء زيارة البابا فرنسيس للعراق: “في أجواء المحبة والتسامح التي عززتها زيارة البابا لأرض العراق، أرض الرافدين، نطرح اليوم الدعوة إلى حوار وطني”.
ورأى الكاظمي أنّ بلاده “أمام فرصة تاريخية لاستعادة دورها التاريخي في المنطقة والعالم رغم كلّ العقبات والتحديات”، مشدداً على أنّ حكومته متمسكة بإرادة الشعب في تحقيق الأمن، والسلام، والإعمار والازدهار.
وتابع: “ندعو جميع المختلفين من قوى سياسية وفعاليات شعبية وشبابية احتجاجية، ومعارضي الحكومة، إلى طاولة الحوار المسؤول أمام شعبنا وأمام التاريخ، ندعو قوانا وأحزابنا السياسية إلى تغليب مصلحة الوطن والابتعاد عن لغة الخطاب المتشنج والتسقيط السياسي، وإلى التهيئة لإنجاح الانتخابات المبكرة (مقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل)، ومنح شعبنا فرصة الأمل والثقة بالدولة وبالنظام الديمقراطي”.
وأضاف: “علينا أن نصبر وأن نتوحد من أجل العراق ومن أجل الوطن ومن أجل المستقبل الذي يليق بأجيالنا، ولهذا فالحكومة تحتاج الوقت الكافي لحماية العراق وترتيب بيتنا العراقي الوطني”، مشيراً إلى أن “تأزيم الأوضاع لا يصب في مصلحة البلاد، ولا بد من منح الحكومة الوقت الكافي للبناء، وتأمين الانتخابات على أسس رصينة ونزيهة”.
وخاطب معارضيه بالقول: “أدعوكم وبكل صدق إلى حوار مفتوح وصريح مع الحكومة على أساس مصلحة البلد وأمنه وسيادته، وعلى قاعدة حفظ أمن العراق ودعم الدولة وسيادة القانون”، مشيراً إلى أن الحوار الاستراتيجي الذي بدأته الحكومة بشأن ترتيبات التعاون مع التحالف الدولي قائم في الأساس على إيجاد البيئة والتوقيتات لإخراج كل القوات المقاتلة من أرض العراق، ضمن آليات فنية زمنية متفق عليها مع الحفاظ على أفضل العلاقات مع دول التحالف، وبما يضمن سيادة العراق وأمنه.
وتابع أنّ “الحكومة عكفت منذ تشكيلها على ترميم علاقات العراق الخارجية، والتأسيس لاستعادة العراق موقعه الطبيعي ووزنه الإقليمي دولياً، وحققت خطوات متقدمة في هذا المجال، وكانت زيارة البابا تعزيزاً لهذه الخطوات”.
وأضاف: “نجحنا في أن يكون العراق معبراً للتفاهم والتواصل بين العديد من دول المنطقة، وهناك استعداد دولي لدعم العراق في مشروع الإصلاح الاقتصادي، بعد أن نجحنا في عبور الأزمة الاقتصادية”، مؤكداً استعداد بغداد الكامل “للعب دور فعّال في تكريس التهدئة وفتح أبواب الحوار لحل أزمات المنطقة، وأن يكون الجميع شركاء في التنمية لا محوراً للخلاف والصراعات”.
إن بناء الدولة الوطنية العراقية، وإعادة السيادة الوطنية من خلال مشروع الهوية الوطنية، لا يعني قطعا لصلة الجار وعلاقات الأخوة مع إيران الجارة المسلمة، شأنها شأن باقي البلدان العربية والإسلامية الجارة. إن بناء الدولة العراقية يتطلب قبل كل شي، وضع النقاط على الحروف في ما يتعلق بحدود مساحة العلاقة التي تربط البلدين الجارين، بحيث لا تتعدي هذه العلاقة بين الشعبين، حدود السيادة وحقوق الشعب العراقي في تفضيل الهوية الوطنية على الهوية الطائفية، والعيش بأمان من خلال نظام سياسي واقتصادي، تنبع جذوره من تاريخ العراق وحضارته المشرقة، يضمن للعراقيين حقوقهم في الدولة الوطنية، التي يحلم بها مصطفى الكاظمي.
على الأرجح فإنّ الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مستقبل العراق ومستقبل العلاقات بين رئيس الحكومة وقادة المليشيات الولائية خصوصا وأنها تراقب عن كثب مُخرجات الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، والتي باتت تخشى من أن تطال إصلاحات الكاظمي جوهر هيكلة الحشد الشعبي بالشكل الذي يطيح بمركزيتها ويهدد وجودها ويكبح نفوذها وتأثيرها في مفاصل الدولة وهياكلها.