لم يكن لدى فلاديمير بوتين منذ أن برز على الساحة السياسية قبل عشرين عاما من هاجس سوى استعادة مكانة روسيا كقوة عالمية عظمى بأي ثمن. ويبدو أن حدثي ضمه لشبه جزيرة القرم في 2014 ثم تدخله في سوريا في 2015 قد سطرا تلك النزعة وجعلا موسكو تعود إلى الساحة الدولية كفاعل يناطح الولايات المتحدة والغرب عموما.
وبغض النظر عن سلوكه أو طريقه حكمه أو أسلوبه في التعاطي مع الأصدقاء والأعداء وأيضا الحلفاء، يعتقد الخبراء اليوم أن بوتين، الذي وصف تفكك الاتحاد السوفييتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، نجح في إعادة بلده إلى الواجهة وإن كان على حساب أسوأ الخلافات مع الغرب التي تسجل منذ الحرب الباردة.
وبالنظر إلى خارطة القوى في العالم تكاد تكون روسيا الطرف الوحيد الذي يمسك العصا من الوسط في كل الأزمات مع الغرب بفضل أجندة واستراتيجية بوتين. ويشير الخبير السياسي كونستانتين كالاتشيف إلى أن بوتين “يرى نفسه قيصرا وليس رئيسا ومحيطه يراه كذلك أيضا”.
وفي كل مرة كما في زمن الحرب الباردة، تتبادل موسكو والغرب الاتهامات والتهديدات. وبما أن العلاقة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لطالما اتسمت بالتوتر، فإن بوتين لا يكترث لذلك، وهو مُصرّ على استعادة عظمة روسيا، بدليل أنه خلال عرض لأسلحة جديدة في مارس 2018، توجه إلى خصومه قائلا “لم يكن أحد يريد التحدث إلينا، لم يكن أحد يريد الاستماع إلينا. استمعوا إلينا الآن!”، وهو ما بدأ يحدث فعلا اليوم.
كونستانتين كالاتشيف: بوتين يرى نفسه قيصرا وليس رئيسا ومحيطه يراه كذلك
وكان لتحذير بوتين، الذي تحدث عن تطوير بلاده صواريخ “لا تقهر” في ذلك الوقت، تأثير كبير، وبدت بصماته واضحة على الساحة الدولية وإن تراكمت الأزمات بدءا من تمتين العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط كالسعودية والإمارات ويتضح ذلك في تحالف أوبك+.
وتترجم براغماتية بوتين في علاقة بلده بتركيا العضو في حلف الناتو، التي باعتها روسيا أنظمة أس – 400 فتحت باب انتقاد الولايات المتحدة للرئيس رجب طيب أردوغان، كما أنه حليف لإيران ألد أعداء إسرائيل ومعظم دول الخليج العربي، وصولا إلى التدخل في النزاعات وخاصة في سوريا وليبيا والقوقاز في إقليم ناغورني قرة باغ.
وحتى يتمكن من تنفيذ أجندته بالشكل الذي يريده، أحدث بوتين فراغا في جميع مؤسسات الدولة السيادية وحتى في شركات القطاع الخاص، حيث لا يوجد سوى موالين له يدينون مثله ما يعدونه مؤامرات غربية معادية للروس.
ويتحدث أليكسي نافالني المعارض البارز الوحيد للكرملين منذ اغتيال بوريس نيمتسوف في 2015 بسخرية عن بوتين ويتهمه بأنه جعل أصدقاءه من أصحاب المليارات وبنى لنفسه قصرا على البحر الأسود تحت اسم مستعار.
ولكن ما إن تعافى من تسمّم بغاز الأعصاب أدخله في غيبوبة لأسابيع، حتى تم إرساله إلى السجن حيث أضرب عن الطعام وتدهورت صحته، على الرغم من احتجاج الغرب.
ومرة أخرى، لم يعر بوتين اهتماما للعقوبات التي فرضها على بلاده كل من الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية المتعاقبة. ولقد انقطع الحوار تقريبا بين الغرب وضابط الاستخبارات السوفييتي السابق، الذي خدم في ألمانيا الشرقية خلال الحرب الباردة.
ويلجأ الطرفان إلى سلسلة من جس النبض والاستفزازات كما حدث عندما رد بوتين على الرئيس الأميركي جو بايدن الذي اتهمه بأنه “قاتل” بقوله “من يصف الآخر بالقاتل هو القاتل”.
وفي أحدث وصلة لهذه العلاقة، حذر الرئيس الروسي الغرب الأربعاء من مغبة تجاوز “الخطوط الحمراء” قائلا إن “موسكو سترد سريعا وبقسوة على أي استفزازات أجنبية ستجعل من يقدمون عليها يندمون على أفعالهم”.
حضور دبلوماسي قوي
دبلوماسي قوي
وكان وصوله في السابعة والأربعين من العمر إلى الكرملين يبشر بعلاقات جيدة مع الغرب. حتى أن الأميركي جورج بوش الابن وصفه بأنه “زعيم رائع”. وكانت صداقته مع المستشار الألماني غيرهارد شرودر ورئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني علنية.
وذات مرة، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن بوتين “من بين كل القادة الحاليين لا أحد تربطه به علاقة وثيقة اليوم كما في ذلك الوقت”، فهو يبغض “الهيمنة” الغربية ويعتبر عمليات التوسع المتتالية لحلف الناتو على الحدود الروسية “عدوانا”.
وبالنسبة إليه يريد خصومه إبقاء روسيا في الصف الخلفي وإطالة أمد الإهانة التي مثلها سقوط الاتحاد السوفييتي والأزمة الاقتصادية والسنوات الأخيرة لأول رئيس روسي بوريس يلتسين، الذي كان مريضا ومدمنا على الكحول.
ويشير كالاتشيف إلى أن بوتين يرى نفسه صاحب قضية تتمثل بأن يعيد إلى روسيا عظمتها ويضع حدا للتأثيرات الأجنبية.
واقتناعا من بوتين بأنه تعرض للخيانة عندما قصف الغرب ليبيا في 2011، انخرط عسكريا في سوريا في 2015 وغير مسار الحرب. ولا يأبه لاتهام نظام بشار الأسد بتنفيذ هجمات كيميائية وروسيا بقصف مدنيين.
وفي العام 2014 تحول إلى رافع لواء “روسيا العظمى” عندما ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية أمام أنظار الأوروبيين والأميركيين العاجزين، ردا على انتفاضة في كييف حركها الغرب. وقد عززت العملية مكانته في الداخل، لكن بالنسبة للغرب فقد كانت مدخلا لفرض عقوبات وعقوبات مضادة.
ووصلت رغبته في التألق إلى الرياضة. وابتداء من 2015 تم الكشف عن فضيحة منشطات على مستوى الدولة شملت حتى أجهزة الاستخبارات لاسيما خلال دورة الألعاب الأولمبية التي نظمت بأبهة في 2014 في سوتشي. لكن بوتين رأى فيها أيضا مؤامرة غربية.
وليس ذلك فحسب، بل يقدم بوتين نفسه أيضا على أنه حامل لواء “القيم التقليدية” في الكفاح ضد الانحطاط الأخلاقي، ويعبر عن مواقف قريبة من رؤى أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية.
وعلى الرغم من تراجع الاقتصاد وركود ما يكسبه الروس، لا يزال يتمتع بشعبية لكنها انخفضت عن الذروة التي سجلها في 2014. ويرى العديد من مواطنيه، أنه أعاد للبلاد عزتها ولاحق أصحاب المال وسحق النزعة الانفصالية الإسلامية في الشيشان.
وبالنسبة إليهم لا يهم إن كان ذلك يتطلب قمعا سياسيا وحشيا للذين لديهم رأي آخر، بدليل أن السلطات فرضت قيودا على حرية التعبير وكذلك على حركات الاحتجاج في 2011 و2018 و2020.
ولكي يبقى قريبا من السلطة لأطول وقت ممكن، ناور بوتين للبقاء فيها، فقد صار رئيسا للوزراء في 2008 للعودة بشكل أفضل إلى الكرملين في 2012. وتم تمديد ولايته الرئاسية ثم سمح لنفسه أخيرا، عن طريق الاستفتاء بالبقاء حتى 2036، وهو حاضر يوميا في كل مكان عبر التلفزيون.
لكن لا يطل الناس على حياته الخاصة سوى من خلال رحلاته إلى التايغا. ولم يعد يرد ذكر زوجته السابقة ولا يُعرف أي شيء تقريبا عن ابنتيه.
العرب