تشير عملية التخريب الأخيرة في منشأة ناتانز النووية في إيران إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تطبقان اليوم بنجاح لعبة “الشرطي الصالح/الشرطي السيئ” في المواجهة مع الجمهورية الإسلامية. ولا شك أن صمت واشنطن الواضح إزاء هذا التخريب النووي ينبع من واقع كسب إسرائيل المزيد من الوقت للمفاوضات.
* *
شهدت الأسابيع الأخيرة ثلاث مفاجآت كبيرة في الحرب المستمرة -التي يصعب وصفها بحرب الظل- بين إسرائيل وإيران. كانت المفاجأة الأولى هي النجاح التقني اللافت للنظر الذي حققته عملية تخريب نظّمتها إسرائيل بشكل شبه مؤكد ضد منشأة تخصيب اليورانيوم الإيرانية الخاضعة لحراسة مشددة في ناتانز. أما المفاجأة الثانية فتثير الدهشة أكثر من الأولى، وهي الموافقة الأميركية الظاهرية على هذه العملية، حتى مع إعلان الولايات المتحدة أن “المفاوضات هي السبيل الوحيد للمضي قدماً”. غير أن المفاجأة الثالثة هي الأكثر إثارة للدهشة من بينها جميعاً، وهي رد إيران المتحفظ نسبياً على المفاجأتين الأولى والثانية -على الأقل حتى كتابة هذه السطور.
تشير هذه التقلبات الثلاثة الرئيسية الجديدة مجتمعةً إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تطبقان اليوم بنجاح نهج “الشرطي الصالح/الشرطي السيئ” في المواجهة مع إيران. ويغلب أننا سنرى بعض التقلبات الأخرى، وربما الأقل استساغة في الأشهر المقبلة. لكن الاحتمالات مالت، في الوقت الحالي، فجأة ضد طهران، كما ستُظهر نظرة سريعة على كلٍّ من هذه التطورات الثلاثة الجديدة.
فيما يتعلق بالعملية التخريبية في ناتانز، بينما تظل العديد من التفاصيل غامضة، يكفي هنا اقتباس أقوال بعض المسؤولين الإيرانيين المعنيين. فقد أقر رئيس لجنة الطاقة في “المجلس” (البرلمان) الإيراني، فريدون عباسي دواني، بصورة علنية بأنه “من الناحية الفنية، كانت خطة العدو محكمة نوعاً ما”. وقال المتحدث باسم “منظمة الطاقة الذرية الإيرانية” بهروز كمالوندي، إن “الانفجار داخل المستودع أزال الغطاء عن كوة كبيرة” لدرجة أنه سقط فيها فيما كان يحاول معاينة الأضرار، فأصيب بجروح في رأسه وظهره وساقه وذراعه، وبعث صورة من سريره في المستشفى لإثبات ذلك. كما أكد رئيس مركز البحوث في “المجلس”، علي رضا زكاني، على شاشة المحطة التلفزيونية الرسمية في إيران أن “عدة آلاف من أجهزة الطرد المركزي تضررت أو دُمّرت” في هذه العملية التي حمّل مسؤوليتها لإسرائيل.
وحدث الأمر نفسه على الجانب الإسرائيلي. فبينما لم يتبنَّ أحد المسؤولية رسمياً عن هذا الحادث، إلا أن كبار الخبراء غير الرسميين (والمسؤولين سابقاً) مذهولون به بشكل عام. وحتى الصحفي البارز في الشؤون الأمنية، عاموس هارئيل، الذي لا يتوقف عن انتقاد نتنياهو بلا هوادة، أقرّ في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” في 14 نيسان (أبريل) بأن العمل السري الإسرائيلي ضد برنامج إيران النووي كان “فعالاً”. كما أن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، غيورا آيلاند، صرح لقناة تلفزيونية محلية أخيرًا بأن إسرائيل قدّرت قبل عقدين من الزمن بأن إيران ستكون قد امتلكت أسلحة نووية بحلول العام 2005 تقريباً، ولكنها اليوم ما تزال تفتقر إلى هذه القدرة- “وليس لأن إيران لم تحاول”.
وهذا يقودنا إلى المفاجأة الثانية، وهي رد الفعل الأميركي على هذه الحادثة، أو الغياب الملفت لمثل هذا الرد. فحتى هذه اللحظة، بينما كان من الواضح أن الولايات المتحدة وإسرائيل منخرطتان في مشاورات وثيقة بشأن إيران، كان من الواضح أيضاً بالقدر نفسه أنهما بقيتا مختلفتين بشأن الرغبة الواضحة لإدارة بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي المعروف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”. وقد سارعت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي إلى إعلان أن الولايات المتحدة “ليست متورطة” في عملية ناتانز الأخيرة. ونتيجة لذلك، افترض بعضهم أن الولايات المتحدة ستتبنى موقفاً سلبياً تجاهها، وربما حتى تجاه السياسة الإسرائيلية ككل.
لكن هذا ما لم يحدث على وجه التحديد. ففي اليوم التالي لحادثة ناتانز، عقد مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، اجتماعاً آخر عبر الإنترنت مع نظيره الإسرائيلي، ثم أصدر بياناً جاء فيه: “أعاد السيد سوليفان تأكيد التزام إدارة بايدن-هاريس الثابت بأمن إسرائيل وضمان عدم امتلاك إيران سلاحاً نووياً أبداً”. وعلاوة على ذلك، وفي عبارة ختامية انطوت على طابع شخصي ومجامِل بشكل غير اعتيادي، ذكر البيان أن “السيد سوليفان دعا بحرارة نظيره الإسرائيلي مائير بن شبات لزيارة واشنطن قبل نهاية هذا الشهر لإجراء مشاورات متابعة”. وكان ملفتاً بشكل كبير غياب كلمة ناتانز أو ما شابهها عن هذا الإعلان.
ما الذي يفسّر هذا الرضوخ الأميركي لعملية إسرائيل السرية الأخيرة ضد إيران؟ تعيدنا الإجابة إلى الوراء قرابة عقد من الزمن، إلى عملية التخريب الإلكتروني بواسطة “ستوكسنت” التي تعرضت لها منشأة ناتانز، والتي أفادت بعض التقارير بأن إدارة أوباما لم توافق عليها فحسب، بل شاركت فيها بالفعل، إلى جانب إسرائيل. وكانت الفكرة آنذاك، كما هو الحال اليوم، هي تعزيز موقف الولايات المتحدة في المفاوضات النووية مع طهران، وفي الوقت نفسه تجنب شن حملة عسكرية كاملة علنية وخطيرة ضدها. لكن هذه المرة، يبدو حتى الآن أن الولايات المتحدة وإسرائيل قد تعلمتا درساً بأنه من الأفضل لكلتيهما تجنب الشجار العلني حول شروط أي اتفاق نووي جديد مع إيران.
وهذا يقودنا أخيراً إلى المفاجأة الثالثة في هذه السلسلة السريعة من المفاجآت، وهي الرد الإيراني الاستفزازي، بل المحدود، على حادثة ناتانز، مما يشير إلى إمكانية التوصل إلى صفقة من نوع ما، والتي ما تزال مطروحة. فقد أعلنت إيران أولاً عن بعض الشروط الجديدة للمفاوضات –لكنها لم تعلن عن رفضها للتفاوض. ثم أعلنت عن زيادة تخصيب اليورانيوم من 20 إلى 60 في المائة، متذرعة بالاحتياجات الطبية -لكنها لم تتوعد بانتقام عسكري. وحتى هذه الزيادة، على الرغم من الانبهار الذي تحمله لبعض المراقبين الأجانب، فإنها لن تفعل الكثير لتقصير المدة اللازمة لتنفيذ تفجير نووي تجريبي، ولن تسهم بأي شكل تقريباً في تقصير المدة اللازمة لحصول إيران على سلاح نووي قابل للاستخدام، مع الإشارة إلى أن العملية الجديدة في ناتانز أدت بشكل شبه مؤكد إلى إطالة هذه المدة إلى حد كبير.
باختصار، نجحت إسرائيل للتو في منح الولايات المتحدة والأطراف الأخرى مزيداً من الوقت للتفاوض حول اتفاق نووي مقبول مع إيران، وتحت ضغط أقل. لكن هذا كله يترك المعالم النهائية لمثل هذا الاتفاق مفتوحة على الاحتمالات، شأنها شأن التحدي الخطير والمستمر للتهديدات الإيرانية الأخرى غير النووية للمنطقة وخارجها. وقد يكون لدى إيران بعض المفاجآت الخاصة بها. لكن المفاجآت الثلاث في الأسبوع الذي أعقب العملية في ناتانز تشير إلى أن المصالح المشتركة للولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية المجاورة لإيران قد يكون لديها فرص أفضل إلى حد ما من ذي قبل لتنتصر في النهاية.
*زميل “برنشتاين” في معهد واشنطن، ومؤلف مشارك لتقريرها الأخير “اختبار الأصول للعام 2021: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في الاستفادة من تحالفها مع إسرائيل”.
ديفيد بولوك
الغد