خطوط في البحر: النزاع على الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان

خطوط في البحر: النزاع على الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان

استأنفت إسرائيل ولبنان محادثات بوساطة الولايات المتحدة لحل خلافهما على الحدود البحرية بعد أشهر من الانتكاسات بشأن هذه القضية. ووافقت حكومة تصريف الأعمال في لبنان على مشروع مرسوم من شأنه أن يوسع المنطقة التي يطالب لبنان بالسيادة عليها، إذ يضيف حوالي 1400 كيلومتر مربع إلى منطقته الاقتصادية الخالصة.

في 4 أيار/مايو، استأنفت إسرائيل ولبنان محادثات بوساطة الولايات المتحدة لحل خلافهما على الحدود البحرية بعد أشهر من الانتكاسات بشأن هذه القضية. وأسفرت الدبلوماسية السابقة عن تقليص مساحة المنطقة المتنازع عليها إلى مثلث مساحته 330 ميلاً مربعاً من المياه في شرق البحر المتوسط، لكن هذا التقدم ذهب سدىً في تشرين الأول/أكتوبر الماضي عندما زادت بيروت من مطالبها لتشمل حقليْ غاز إسرائيلييْن غير مستغليْن بعد، هما “كاريش” و”تانين”.

وظاهرياً، تتعلق المسألة بنزاع قانوني حول حقوق الملكية، ولكن هناك العديد من العوامل الأخرى المؤثرة. فمن الناحية الدبلوماسية، لا يزال البلدان يفتقران إلى علاقات رسمية تجمع بينهما. ومن الناحية الجغرافية، لم تُرسم بعد حدود برية متفق عليها بينهما أيضاً؛ فالترسيم الحالي هو “الخط الأزرق” الذي رسمته الأمم المتحدة عام 2000 بعد أن سحبت إسرائيل قواتها المتمركزة في جنوب لبنان لوقف الهجمات الإرهابية. ومن الناحية العسكرية، تبقى القوات الإسرائيلية في حالة تأهب دائم في وجه «حزب الله»، الذي استخدم المساعدات السورية والإيرانية لتكديس ترسانة ضخمة من الصواريخ والقذائف القادرة على ضرب أهداف في عمق إسرائيل. ومن الناحية الاقتصادية، لا يستطيع لبنان إنتاج ما يكفي من الكهرباء لسكانه، الذين يعتمد الكثير منهم على المولدات الخاصة. وفي مجال الطاقة، تم اكتشاف موارد غاز كبيرة في المياه الإسرائيلية واستغلالها، بينما لم ينجح لبنان حتى الآن في هذا الصدد.

وعُقِدت محادثات في قاعدة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في بلدة رأس الناقورة الواقعة على الحدود المطلة على البحر. وصحيح أنه لم يتم الكشف عن جدول الأعمال الرسمي، لكن الأطر الأساسية هي كما يلي:

المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة

يمكن للبَلَدان المطالبة بما يصل إلى 12 ميلاً بحرياً من سواحلهما كمياه إقليمية. (الميل البحري الواحد يساوي حوالي 1.15 ميل). وتسمح “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار” للبُلدان بالمطالبة بـ 200 ميل بحري إضافي كمنطقة اقتصادية خالصة لحقوق الصيد والتعدين. وفي حال لم تكن مساحة المياه بين بلدين تكفي لمطالبات بهذا الحجم، تصبح نقطة الوسط المتفق عليها هي الحدود. كما أن حقول النفط والغاز يمكن أن تمتد إلى ما وراء هذه الحدود؛ وفي مثل هذه الحالات، غالباً ما تُستخدم الآليات الموضوعة دولياً لتقسيم التكاليف والإيرادات بشكل متناسب.

الحدود البحرية بين دول مجاورة

لرسم حدود بحرية ومنطقة اقتصادية خالصة، يجب أن تتفق البُلدان التي تتشارك خطاً ساحلياً على نقطتين: من أين يبدأ الخط (عادةً في المناطق التي تصل حدودها البرية إلى البحر)، وما هو اتجاهه؟ وفي حالة إسرائيل ولبنان، فإن هاتين النقطتين هما موضع خلاف.

وتتمثل إحدى الاتفاقيات المقبولة لتحديد اتجاه الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة في رسمها بشكل عمودي بالنسبة إلى “خط الساحل”، لكن التفسيرات المختلفة لهذا الخط النظري يمكن أن تَسفر عن اتجاهات مختلفة. على سبيل المثال، إذا تم التأكيد بأن خط الساحل بين إسرائيل ولبنان يمتد من صور إلى عكا، فسيكون اتجاه الحدود/المنطقة الاقتصادية الخالصة 290 درجة. ولكن إذا امتد خط الساحل من بيروت إلى حيفا، فسيكون الاتجاه 295 درجة – وهو فرق كبير عند تحديد كيفية توزيع احتياطيات النفط والغاز البعيدة عن الساحل. وما يعقّد الحسابات إلى حدّ أكبر هو أن لبنان قد جادل أحياناً بأن الحدود البحرية يجب أن تكون امتداداً لاتجاه الحدود البرية (المتنازع عليها)، والتي تسجل 270 درجة عند الساحل، أو تميل إلى ناحية الغرب (إنظر إلى الخريطة).

الحدود البحرية بين دول متعددة

نظراً لأن لبنان وإسرائيل وقبرص قريبة نسبياً من بعضها البعض في شرق البحر المتوسط، فلا يمكن لأي من هذه الدول الحصول على منطقة اقتصادية خالصة كاملة تبلغ مساحتها 200 ميل بحري، مما يرغمها على احتساب نقطة متساوية المسافة بينها. لكن من الصعب حمل هذه الدول الثلاث على الاتفاق على النقطة نفسها. وقد أدركت قبرص ذلك عندما تفاوضت على المنطقة الاقتصادية الخالصة مع لبنان في عام 2007، حين حددت “النقطة 1” على أنها الطرف الجنوبي لهذا الخط. وبعد ثلاث سنوات، تم تحديد “النقطة 23” على أنها الطرف الشمالي لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة التي تم التفاوض بشأنها حديثاً مع إسرائيل. ويقع بين هاتين النقطتين مثلث المياه المتنازع عليها بين إسرائيل ولبنان المذكور أعلاه (انظر إلى الكتلتين 8 و 9 على الخريطة). وكان أحد الاقتراحات الأمريكية هو تقسيم هذه المساحة البحرية بنسبة 56:44، حيث يكون فيها للبنان الحصة الأكبر.

الجزر

يمكن أن تكون الجزر مثيرة للجدل بشكل غير عادي عندما تحاول البُلدان ترسيم الحدود البحرية. على سبيل المثال، تدّعي تركيا بأن جميع الجزر – حتى تلك الكبيرة مثل قبرص – يجب أن تُمنح مياهاً إقليمية فقط، وليس مناطق اقتصادية خالصة. وناهيك عن التوترات الحاقدة لأنقرة مع قبرص، يعكس هذا التفكير 200 عام من التاريخ مع اليونان، التي أدّت مطالباتها في بحر إيجه إلى منع تركيا من بسط سيطرتها على المياه بين البلدين. وبالمثل، بالنسبة لجزيرة كاستيلوريزو اليونانية الصغيرة – التي تقع على بعد ميل واحد قبالة الساحل الجنوبي لتركيا ويبلغ عدد سكانها حوالي 500 نسمة – طالبت أثينا بمنطقة اقتصادية خالصة تبلغ مساحتها 200 ميل بحري وتمتد إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر. وهذا ما ساهم بدفع تركيا إلى اتخاذ قرارها بالتدخل في ليبيا.

من جهة أخرى، اندلع خلاف حول جزيرة “تخيليت”، التي تقع في المياه الإسرائيلية جنوب رأس الناقورة. وحيث كونها نتوء صخري صغير يبعد حوالي ميل واحد عن الشاطئ، تُعتبر “تخيليت” إحدى خمس جزر مماثلة وأقصاها شمالاً وتشكل ما يشبه سلسلة من الشعاب المرجانية تمتد أربعة أميال جنوباً باتجاه “أخزيف”، التي تضم بقايا ميناء فينيقي يعود تاريخه إلى أكثر من 2000 عام. وتُعتبر جميع هذه الجزر جزءاً من محمية طبيعية يُمنع على الزوار دخولها نظراً لأنها مصنفة من الناحية التقنية كـ “معالم معرّضة للجفاف”. وفي اقتراح سابق للمنطقة الاقتصادية الخالصة، تنازل لبنان عن الجزر لإسرائيل؛ وبدورها، وسّعت إسرائيل تعريفها للحدود البحرية شمالاً. لكن في نهاية العام الماضي، تراجعت بيروت عن موقفها وأعلنت أن الجزر غير مأهولة وبالتالي لا صلة لها بالمفاوضات. ومع ذلك، لم يمنع ذلك المسؤولين اللبنانيين من التأكيد على حدود بحرية مع سوريا يستخدمون فيها جزر محمياتهم الطبيعية غير المأهولة كورقة مساومة لانتزاع مطالب أكثر ملاءمة.

الحُكم

ترمي محادثات هذا الأسبوع إلى التوصل إلى صفقة بحرية، حتى لو لم ترغب بيروت في اتخاذ الخطوة الأكبر بالاعتراف بوجود إسرائيل. وتعد الخلافات حول المياه الساحلية شائعة في جميع أنحاء العالم، وقد تم حل العديد منها لتحقيق المنفعة المتبادلة للأطراف المعنية. وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق عبر المفاوضات، يمكن لطرفي النزاع اللجوء إلى التحكيم الملزم أو الحصول على حكم من “محكمة العدل الدولية” في لاهاي. ومع ذلك، يبدو أن هذا السيناريو غير مرجح في حالة لبنان وإسرائيل نظراً لغياب الاعتراف الدبلوماسي بين البلدين. وقد يكون واقع وجود حكومة تصريف أعمال في لبنان حالياً عقبة أخرى أمام التوصل إلى حل.

السياسة

عندما زاد لبنان مطالبه العام الماضي، قيل إن إسرائيل أغفلت عن خطوة تفاوضية بعدم زيادة مطالبها بشكل سريع وعلني. ولم تُتخذ هذه الخطوة سوى الأسبوع الماضي – وفقاً لصحيفة “جيروزاليم بوست”، والآن إسرائيل مستعدة للمطالبة بأن يكون اتجاه الخط البحري بزاوية سمت 310 درجات من الساحل عند رأس الناقورة، في تحول جذري على الجهة الشمالية الغربية عن الاقتراحات السابقة، علماً بأن التقرير لم يذكر الأساس القانوني لهذا الموقف.

ضيق الوقت

تملك شركة “إنرجين” اليونانية تراخيص استكشاف الكتل الإسرائيلية التي تضم حقلي “كاريش” و”تانين”. وتفيد بعض التقارير أن استغلال حقل “كاريش” يمكن أن يبدأ في أوائل عام 2022 باستخدام سفينة عائمة لتخزين الإنتاج وتفريغه يجري بناؤها حالياً في سنغافورة. وتلغي مثل هذه السفن الحاجة إلى خط أنابيب في قاع البحر يمتد إلى الشاطئ، ولكنها لا تستطيع أن تعمل في المياه المتنازع عليها.

من جهته، يأمل لبنان أن تقوم شركة “توتال” الفرنسية بحفر استكشافي في الكتلة رقم 9، التي يقع جزء منها في المثلث المتنازع عليه مع إسرائيل. ويُعتقد على الأرجح أن الكتلة تحتوي على النفط والغاز، لكن ذلك ليس مؤكداً، وتتردد شركة “توتال” في الحفر ما دامت المُلكية محل نزاع، علماً بأن الخط الذي تطالب به إسرائيل باتجاه 310 درجات سيمنحها السيادة على ما يقرب من خُمس الكتلة 9 وكامل الكتلة 8 تقريباً.

الخاتمة

تشكل وجهات النظر المتباينة بشدة بين إسرائيل ولبنان بشأن الحدود البحرية تحدياً كبيراً للدبلوماسية الأمريكية، التي شجعت ضمنياً تطوير قطاع النفط والغاز البحري في شرق البحر المتوسط، مع بعض النجاح في السنوات الأخيرة. وقد يكون التوصل إلى اتفاق هذا الأسبوع أو في المدى القريب بعيد المنال – حيث لا تريد إسرائيل التنازل حتى عن المُلكية الجزئية لحقول الغاز المكتشفة أو تأخير دخولها إلى الإنتاج بسبب العرقلة اللبنانية المتصورة. لكن المواجهة، التي قد تكون مصحوبة بتهديدات «حزب الله» باستخدام القوة، قد تردع مستثمرين آخرين عن الالتزام بمشاريع قبالة الساحل الإسرائيلي – والتي قد تكون جزءاً من الدافع الذي يحفز بيروت. وبالتالي، لن تكون المهمة التي تنتظر الوسطاء الأمريكيين سهلة.

سايمون هندرسون

معهد واشنطن