روسيا وأميركا: تصعيد حتى السماوات

روسيا وأميركا: تصعيد حتى السماوات

قبل أقل من عشرة أيام على أول قمة تجمعه مع نظيره الأميركي جو بايدن، في جنيف السويسرية في 16 يونيو/حزيران الحالي، صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمس الإثنين، على انسحاب روسيا من معاهدة “الأجواء المفتوحة”. وتخفض الخطوة الروسية من سقف التوقعات المتدنية أصلاً لحصول اختراق جدي في علاقات البلدين في القمة المرتقبة، مع تأكيد المسؤولين الروس والأميركيين أن علاقات بلديهما تراجعت إلى أدنى مستوى منذ نحو ثلاثة عقود. ومع إشارته إلى أنه “من الطبيعي أن يؤثر الانسحاب الروسي من المعاهدة سلباً على قمة الرئيسين بوتين وبايدن”، شدّد مصدر مقرّب من وزارة الخارجية الروسية، على أن “واشنطن تتحمّل المسؤولية بعد انسحابها أولاً من المعاهدة، بسبب عدم التعامل بروح مسؤولة والإصرار على الانسحاب”. وأضاف المصدر في حديثٍ مع “العربي الجديد”، أن “موسكو منحت إدارة بايدن وقتاً طويلاً للتفكير والتراجع عن قرار (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب (الانسحاب من المعاهدة في 21 مايو/أيار 2020)، لكننا للأسف لم نحصل على نتيجة إيجابية”. وأوضح أن “عودة موسكو إلى المعاهدة بعد مصادقة الرئيس بوتين والبرلمان، يجب أن تمرّ عبر مفاوضات دبلوماسية جديدة”. ومع انسحاب روسيا والولايات المتحدة من معاهدة “الأجواء المفتوحة”، باتت معاهدة “ستارت 3” الاتفاقية الكبيرة الوحيدة السارية بينهما في مجال الأمن والتوازن الاستراتيجي. وكان العمل على إعداد معاهدة “الأجواء المفتوحة” قد بدأ في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، مع تحسن العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والغرب، في إطار الجهود الرامية إلى خفض التوتر بينهما. وعلى الرغم من التوقيع عليها في العاصمة الفنلندية هلسنكي في عام 1992، إلا أن الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ سوى في عام 2002، بعد مسار طويل من المصادقات في برلمانات 27 دولة دشّنت الاتفاقية (أصبح العدد حالياً 34 دولة). وتهدف هذه الاتفاقية إلى تعزيز التفاهم والثقة المتبادلة، لتتمكن الدول الموقعة من جمع المعلومات، المتعلقة بالقوات المسلحة التابعة للدول الأخرى، التي تثير قلقاً.

القمة ستفتح الطريق أمام عمل لجان دبلوماسية وعسكرية مشتركة

وخلال فترة سريان الاتفاقية، تم تنفيذ أكثر من 1500 طلعة استطلاعية بموجب الحصص السنوية لكل الدول الـ34، بواسطة طائرات من أنواع متفق عليها مسبقاً، وبحضور ممثلين عن الدولة الخاضعة للمراقبة على متنها. وأثار انسحاب إدارة ترامب من الاتفاقية العام الماضي غضب روسيا، لكنها تأخرت في الرد على أمل حصول تبدل في الموقف الأميركي. وبعد فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقراره تمديد العمل باتفاقية “ستارت 3” في فبراير/شباط الماضي، من دون شروط لمدة خمس سنوات، سادت أجواء إيجابية في موسكو تأمل في تراجع إدارة بايدن عن قرار الانسحاب من معاهدة “الأجواء المفتوحة”. وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية الروسية أعلنت في يناير/ كانون الثاني الماضي البدء بإجراءات الانسحاب من المعاهدة، إلا أنها سعت إلى منح الجانب الأميركي الفرصة للعودة إليها. ومع تضاؤل الآمال وافق الدوما (البرلمان الروسي) في 19 مايو الماضي على الانسحاب، لكن وزارة الخارجية الروسية أبقت الباب مفتوحاً أمام التراجع، في “حال اقترح الأميركيين حلاً بناءً”. غير أن متحدثا في وزارة الخارجية الأميركية كشف في 28 مايو الماضي، أن واشنطن أنهت مراجعة معاهدة “الأجواء المفتوحة”، وخلصت إلى أنها لا تنوي “السعي للعودة إليها، لأن روسيا لم تقم بأي خطوات لمعاودة الامتثال إليها”. ودفع الموقف الأميركي موسكو إلى تسريع عملية الانسحاب من المعاهدة، التي صادق عليها مجلس الاتحاد (الشيوخ) في 2 يونيو الحالي. وكشفت خطوات البلدين وتصريحات مسؤوليهما في الأشهر الأخيرة، عن الصعوبات الكبيرة التي تعترض التوصل إلى اختراقات كبيرة في القمة المنتظرة بين بوتين وبايدن، والتي من شأنها وقف انهيار العلاقات وإيجاد حلول بشأن قضايا الأمن الدولي، والتوازن الاستراتيجي، وإنهاء “الحرب الدبلوماسية”، والوصول إلى توافقات بشأن بعض الملفات الإقليمية.

وفي كلمة له في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي، يوم الجمعة الماضي، قال بوتين إن “علينا إيجاد سبيل لتنظيم هذه العلاقات (مع واشنطن) التي هي اليوم في أدنى مستوياتها”. وشدّد على أن “المصالح الأساسية في مجال الأمن على الأقل، والاستقرار الإستراتيجي، وخفض الأسلحة الخطيرة”، يجب أن تحظى بالأولوية خلال اجتماعه المقبل مع بايدن. بدوره خفض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من سقف التوقعات للقمة، وقال في مؤتمر صحافي مطلع الشهر الحالي، إننا “لا نحمل أوهاماً ولا نحاول تشكيل انطباع أنه سيتم تحقيق انفراجات أو صدور قرارات تاريخية تحدد المصير”. واعتبر أن “إجراء محادثات بين أبرز قوتين نوويتين، على مستوى الرئيسين مهم بذاته وهو أمر يجب دعمه بكل الأشكال”. وعن حجم الخلافات ومظاهر النزاع في العلاقات الثنائية، اعتبر المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، يوم الجمعة الماضي، أنه “لا مبرر لتوقع تحقيق أي تقدم نحو التوصل إلى تفاهم، لكن في بعض الأحيان يكون من المفيد أيضاً الاتفاق على عدم الاتفاق”. ومع إشارته إلى أن “بدء الحوار على أعلى مستوى، رغم الحالة المؤسفة للعلاقات الثنائية، خطوة إيجابية للغاية”، شدّد بيسكوف على أن الشرط الوحيد للارتقاء بهذه العلاقات إلى مستوى آخر هو “الاحترام المتبادل ومراعاة المصالح”، مضيفاً أن “محاولات الإملاء أو التوجيه محكوم عليها بالفشل، وستعطل الديناميكية الهشة نحو إقامة حوار بين روسيا والولايات المتحدة”. وتعقد قمة بوتين وبايدن بعد تدهور غير مسبوق في العلاقات الثنائية في الأشهر الأخيرة، تبادل فيها البلدان فرض عقوبات وتبادل لطرد دبلوماسيين. وغادر السفير الروسي أناتولي أنتونوف واشنطن منذ 20 مارس/ آذار الماضي بعد تصريحات غير مسبوقة لبايدن، وافق فيها على وصف بوتين بـ”القاتل”. وفي إبريل/ نيسان الماضي غادر السفير الأميركي جون سوليفان موسكو. وحسب التصريحات الروسية، من المقرر ان تبحث القمة ثلاث قضايا أساسية، هي التوازن الاستراتيجي والتسليح، العلاقات الثنائية، والملفات الإقليمية المختلفة. ومن المتوقع أن يناقش الزعيمان أيضاً قضايا الأمن السيبراني. ولم تستبعد أوساط مطلعة في موسكو، أن تسهم القمة في بدء حوار أكثر جدية لمناقشة قضايا التوازن الاستراتيجي والهجمات السيبرانية، إضافة إلى حل لقضية عودة سفيري البلدين كل إلى مقر عمله، وتجميد “الحرب الدبلوماسية”. في المقابل، قلّلت مصادر مطلعة لـ”العربي الجديد” من إمكانية حدوث اختراقات في الملف الأوكراني، مع رفض موسكو أي محاولة لإدخال الولايات المتحدة إلى “مجموعة النورماندي” التي تضمّ روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا. كما تصرّ روسيا على أن “موضوع شبه جزيرة القرم (التي ضمّتها من أوكرانيا بالقوة عام 2014) هو خط أحمر لا يمكن بحثه”.

تبقى معاهدة “ستارت 3” الوحيدة التي تربط البلدين

وقلّلت المصادر أيضاً من “إمكانية إجراء بحث تفصيلي لجميع القضايا الإقليمية، ومن ضمنها الملف السوري، الذي لن يكون أساسياً نظراً لضيق الوقت وعدم وجود استراتيجية روسية واضحة للتعامل مع الأزمة السورية”. غير أنها رجّحت أن “يتفق الزعيمان على الاستمرار في جهود حل الملف النووي الإيراني بالمفاوضات، ويدعما التوصل إلى حل تفاوضي”. واستبعدت المصادر الروسية التوصل إلى بيان ثنائي حول نتائج القمة، لكنها أجمعت على أن القمة “سوف تفتح الطريق أمام عمل لجان دبلوماسية وعسكرية لإيجاد حلول للقضايا العالقة”. وأعرب مصدر روسي عن أمل موسكو في “عدم تدخل الولايات المتحدة في الانتخابات البرلمانية المقبلة (المقررة في سبتمبر/أيلول المقبل) عبر دعم المعارضة أو تشجيعها على الخروج إلى الشارع”، محذّراً من أن “أسوأ رسالة يمكن أن توجهها الإدارة الأميركية هي فتح ملفات مثل حقوق الإنسان والحريات الشخصية والسياسية وموضوع (المعارض ألكسي) نافالني، وتوجيه محاضرات بالديمقراطية للجانب الروسي، ما قد يتسبب في توتير الأجواء وتقويض إمكانية التعاون”. ومن الواضح أن روسيا تخشى أن يستغل بايدن القمة من أجل توجيه “محاضرات أخلاقية” لروسيا في موضوع الحريات، لكن الخشية الأكبر هي من موقف أميركي أكثر حزماً في عدد من الملفات المتعلقة بعلاقات روسيا مع الغرب، خصوصاً أن القمة ستعقد بعد تتويج بايدن جهوده لترميم العلاقات على ضفتي الأطلسي، بعد أن أفسدها ترامب. وسيشارك بايدن في ثلاث قمم تجمع الولايات المتحدة مع شركائها، ضمن مجموعة السبع الكبار في جنوب بريطانيا، ومع الاتحاد الأوروبي ومع حلف شمال الأطلسي في بروكسل. في المقابل، فإن موسكو سعت إلى زيادة تعاونها مع الصين في السنتين الأخيرتين، وباتت أكثر ثقة بقوة تأثيرها في عدد من الملفات الإقليمية الحساسة، مثل قضية أفغانستان، مع علاقاتها القوية مع حركة “طالبان” والدول المجاورة، ما يفرض على واشنطن التعامل معها وتقديم بعض التنازلات في ملفات أخرى.

سامر إلياس

العربي الجديد