إيران بين متطلبات مواطنيها ورغباتها السياسية

إيران بين متطلبات مواطنيها ورغباتها السياسية

اياد العناز 

أعطت المواجهة الإسرائيلية الإيرانية ملامح ميدانية لطبيعة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الإيراني والتي لم تتمكن المنظومة الحاكمة من معالجتها أو إيجاد الوسائل الكفيلة والأدوات الناجحة في التغلب عليها أو الحد منها، وأصبحت التحديات الأمنية والعسكرية ليس هي الطابع الرئيسي والواجهة الأساسية التي تمثل الواقع الإيراني بل اتسعت لتأخذ بعدًا واسعًا تمثل في الأثار الكبيرة التي خلفتها العقوبات الاقتصادية على الحياة العامة للشعوب الإيرانية من حيث التراكم المستمر للمعاناة والتي خلقت اجواءًا سياسية معارضة شديدة تمثلت في الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية التي سبق وأن انطلقت في العديد من المدن الرئيسية الإيرانية والتي اعقبت مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني وكشفت حجم القطيعة وانقطاع التواصل مابين القيادة الإيرانية وشعوبها المضطهدة والرفض التام لطبيعة وتوجهات سياساته الداخلية والخارجية.
وأكدت الأحداث التي مرت بالإيرانيين أن الأساليب التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة عليه خلال العقود السابقة والخطاب السياسي الذي انتهجته لم يكن يأخذ بالاعتبار موازين الثقة التي تحاكي متطلبات المواطنين في الحياة الحرة الكريمة وابتعدت عن معالجة الأزمات الداخلية بل لم تدرك حقيقة الإرادة الشعبية وكيفية التعامل معها والتقرب إليها، وهذا ما انعكس بشكل كبير على طبيعة العلاقة مابين النظام الإيراني والقاعدة الشعبية التي ساهمت في حالة الافتراق بينهما.

وأمام هذه المنعطفات الحياتية والعلاقات المتباينة بين النظام والمواطنين، كان للموقف الشعبي الرافض للضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية التي طالت بلادهم بل كانوا من المعارضين لاسقاط النظام نتيجة المواجهات العسكرية التي استمرت (12) يوميًا، رغم معاناتهم ومكابداتهم جراء الأساليب القمعية التي تقوم بها الدوائر والمؤسسات الأمنية والاستخبارية تجاه المعارضين للمنظومة الحاكمة، وهو ما لا لاقى صداه الواسع لدى بعض من القيادات السياسية الإيرانية التي طالبت المرشد الأعلى علي خامنئي والدائرة المحيطة به من تغيير أساليب الحكم وإعطاء فرص حقيقية للمواطنين الإيرانيين من ممارسة حقوقهم وإثبات وجودهم والتوجه نحو التعامل مع المبادرات الإقليمية والدولية بما يحقق الأهداف الأساسية التي من خلالها يمكن رفع كاهل المعاناة عن الشعوب الإيرانية وتقدير موقفها الوطني الذي أعلنته وتمسكت به أثناء الضربات والمواجهات الأمريكية الإسرائيلية التي طالت العمق الإيراني، ولكن الكثير من القيادات السياسية والعسكرية ترى أن عملية تدوير عجلة النظام وتغير اتجاهاتها ليست بالأمر الهين ولا بالسهولة الميدانية التي من الممكن أن تشكل انعطافة في التحول الداخلي وسياسة الانفتاح نحو المجتمع الدولي ومغادرة العزلة السياسية التي تعانيها إيران والتوصل إلى صيغ فاعلة في مخاطبة العالم والعمل باتجاه إيجاد منافذ سياسية واقتصادية واستثمارات مالية أمام الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وتحقيق الغايات الأساسية والمكاسب الميدانية لرفع العقوبات الاقتصادية وإطلاق الأموال المجمدة وإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية للمجتمع الإيراني.

أن القيادة الإيرانية تدرك جيدًا أن الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية قائمة على عدة مضامين ومرتكزات رسمتها المواجهة العسكرية التي انطلقت فجر يوم الثالث عشر من حزيران 2025 وتلتها الضربات الأمريكية التي طالت المنشأت والمواقع النووية في ( فوردو ونطنز وأصفهان)، والتي كانت تهدف إلى إنهاء القدرات النووية وإيقاف النشاطات والفعاليات الخاصة ببرنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة والتهئ لعملية إسقاط النظام وإيجاد الوسائل الكفيلة لتحقيق أغراضها وإنهاء المشروع السياسي الإقليمي الإيراني، ومع إيقاف المواجهات واعلان وقف إطلاق النار من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب والتزام إسرائيل وإيران بذلك، إلا أن المواقف السياسية اتجهت نحو إعادة صيغ التعامل بين الأطراف الثلاثة بالدعوة الأمريكية التي مثلها مبادرة الرئيس ترامب بتوجيه مبعوثه الرسمي ستيف ويتكوف لاستئناف المفاوضات الأمريكية الإيرانية في جولتها السادسة عبر الوسيط العربي العُماني، والتي واجهت رفضًا إيرانيًا بل ابتعاد عن قراءة حقيقة التوازنات الإقليمية والدولية بعد المواجهة الإسرائيلية الإيرانية والتي عبر عنها خطاب المرشد علي خامنئي الذي رفض المبادرة بل اعتبر ما تحقق نصرًا إيرانياً كبيرًا وأن بلاده قادرة على ضرب أميركا وإسرائيل واستهداف القواعد الأميركية واعتبره خيارًا إستراتيجيًا عند الضرورة.

ثم تلتها مواقف إيرانية صريحة حول العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تمثلت بمنع دخول مفتشي الوكالة للأراضي الإيرانية واعتبارهم ورئيسهم روفائيل غروسي جواسيس يعملون لجهات دولية ورفع كاميرات المراقبة عن جميع المواقع المنشأت ذات الأنشطة النووية ورفض أي طلبات دولية لإعادة الوكالة الدولية لتنفيذ مهامها، مما أدى إلى مواقف متباينة بالرفض من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والتهديد بتفعيل آلية الزناد وإعادة فرض العقوبات من جديد على إيران أثناء المناقشة الأوربية القادمة في 18 تشرين الأول 2025 والنظر باحالة الملف النووي الإيراني لمجلس الأمن الدولي.

وجاء القرار الإيراني بعد عدة نصائح ومداولات عربية إقليمية بالموافقة على المبادرة الأوربية التي أطلقتها دول ( ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) باللقاء وعقد جلسات حوارية في مدينة إسطنبول التركية يوم 26 تموز 2025، وهو ما تحقق وانبثقت عنه عدة قرارات ومبادئ ارتكزت على استمرار الحوار وعودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاعمالهم والتأكيد على إعادة جولات المفاوضات مع الإدارة الأميركية وبحضور أوربي لاعطاء أي اتفاق وزنه وقدرته الدولية مع قراءة جدية للطلب الإيراني بتخصيب اليورانيوم داخليًا لاستخدامات سلمية وعلمية، ورافق عملية الموافقة الإيرانية على الحوار الأوربي أن حذر المسؤولون الإيرانيون من انسحاب طهران من معاهدة حظر الانتشار النووي إذا ما فَعلت الدول الأوربية آلية الزناد ومنع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الإشراف على أي أنشطة إيرانية نووية مستقبلًا، وكان الرد الفرنسي حاضرًا عبر تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو بأنه في حال عدم التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي بحلول نهاية آب 2025 فسيتم تفعيل آلية الزناد وستعيد باريس فرض عقوبات أممية على إيران.

أن الدول الأوربية ( ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) الراعية للحوار مع إيران، أكدت للقيادة الإيرانية حرصها على تأجيل موعد مراجعة تمديد العقوبات الاقتصادية اذا ما اقترنت الموافقة الإيرانية بالعدول عن قرارها بمنع دخول مفتشي الوكالة الدولية والسماح لهم مزاولة اعمالهم بالمتابعة والمراقبة وزيارة المواقع ذات الأنشطة والفعاليات النووية مع إطلاق بدأ الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية بجولته السادسة واعتماد الأسس الصحيحة في العودة لعلاقات واضحة وحوارات دقيقة وصريحة لاتفاق نووي دائم ومستدام يرضى جميع الأطراف والابتعاد عن الممارسات الميدانية التي تعطي انطباعًا غامضًا عن السلوك الإيراني حول الأنشطة النووية ومستقبل البرنامج النووي باحداث حالة من التأهب وربما تكون على حافة صراعات قادمة عندما أشار نائب وزير الخارجية الإيراني غريب آبادي عن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60٪ بأنه لا يعلم ما حدث لهذه المواد والأمر تحت التقييم.

إيران تعمل باتجاه إبقاء خطابها الشعبوي الداخلي والحديث عن مبادئ السيادة واستقلال القرار السياسي الإيراني وابقاء حالة التحدي ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والتلويح لمشروع نووي ولا تنظر للتحولات الدولية والإقليمية وموازين القوى التي تتطلب جهدًا سياسيًا دبلوماسيـًا والنظر لمعالجة أزماتها الاقتصادية والاجتماعية وحاجة المواطن الإيراني لتلافي الآثار الناجمة عن العقوبات الاقتصادية وملامسة احقيته في حياة كريمة وتوفير متطلباته من الخدمات العامة والمستلزمات الطبية والعلاجية ومعالجة أزمات البطالة التضخم المالي وانقطاع الكهرباء وانخفاض العملة الوطنية.

لازالت القيادة الإيرانية تحت وطأة مواقفها وسياستها في إثبات قوتها وسلوكها في إظهار التعنت وعدم استعادة دورها في التأثير الإقليمي بالعمل على استخدام سياسة المرونة والحكمة والهدوء في اتخاذ القرارات التي تساعدها على الخروج من أزماتها والانطلاق نحو علاقات سياسية متوازنة دولية والابتعاد عن مظاهر مرتكزات مشروعها السياسي في التمدد والنفوذ والذي لم يحقق للمواطنين الإيرانيين الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الذي يعني ويمثل قوة الدولة ووجودها.

وحدة الدراسات الإيرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة