استضافت العاصمة الألمانية برلين مؤتمرا ثانيا حول ليبيا شاركت فيه 15 دولة وضم أبرز الدول هناك، مع تطوّر مهم هو دعوة الحكومة الانتقالية الجديدة، التي قام رئيسها، عبد الحميد الدبيبة، بتقديم مبادرة لحل أزمة بلاده تحمل بندا رئيسيا عنوانه: «ساعدونا في ردع المعرقلين» ورغم عدم تسميته هؤلاء «المعرقلين» فإن الدبيبة أعطى إشارة واضحة نحو الجنرال خليفة حفتر حين قال إنه رغم التقدم في توحيد المؤسسة الأمنية فإن هناك مخاوف على العملية السياسية «بسبب وجود قوى عسكرية لها أبعاد سياسية» مذكرا الأطراف المشاركة في المؤتمر بتعهداتها والتزاماتها بمعاقبة المعرقلين للاتفاق السياسي.
لم يوفّر حفتر فرصة لإظهار ازدرائه للمجلس الرئاسي والحكومة الانتقالية، عبر قيامه بتحرّكات يُفهم منها أنه القوة السياسية والعسكرية الحقيقية، كما فعل بتنظيم عرض عسكريّ في بنغازي، وبتحريك قوات نحو الجنوب، وبإعلان سيطرته على معبر حدودي مع الجزائر وإقفاله، وبمحاولة عرقلة فتح الطريق الساحلي، وبذلك انتهك اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان أحد نتائج مؤتمر برلين الأول قبل سنة ونصف تقريبا، والذي تم التوقيع عليه في 23 تشرين الأول/أكتوبر عام 2020.
على المستوى السياسي فقد منع حفتر مجلس النواب الذي يقيم في مناطق سيطرته بالإفراج عن ميزانية الدولة، على أرضية الخلاف بين مجلس الدولة الذي يرأسه خالد المشري، وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، حيث يشترط مجلس الدولة استكمال توحيد المؤسسة العسكرية، فيما يطالب صالح بالقفز عن هذه المسألة والاتفاق على توزيع المناصب السيادية، لضمان تنصيب محافظ للبنك المركزي من مناطق نفوذ حفتر، وبذلك يضمن حفتر شخصا فاعلا في المصرف المركزي قبل الانتقال إلى سيناريوهات أخرى منها الترشح لرئاسة الجمهورية أو قيادة المؤسسة العسكرية الموحدة.
طرح مؤتمر برلين الأخير قضيتي إخراج المرتزقة وإجراء الانتخابات في موعدها، والمقصود من موضوع «إخراج المرتزقة» على ما يظهر ليس إخراج القوات التابعة لشركة فاغنر الروسية والجنجويد السودانيين وحركات التمرد التشادية والسودانية الذين يقاتلون لحساب حفتر، بل الخلط بين هؤلاء والقوات التي قدمتها تركيا بطلب من الحكومة الشرعيّة والتي لولاها لتمكّن حفتر من الاستيلاء على طرابلس ووضع البلاد تحت قبضته الحديدية، ولما كان هناك وجود الآن للمجلس الرئاسي والحكومة الانتقالية ولا لمؤتمر برلين أصلا، وهذا يعني أن المجتمع الدولي يدين لأنقرة بواقعة عدم عودة ليبيا إلى حكم استبدادي دمويّ يعيد سيرة حكم معمر القذافي وينهي أحلام الليبيين بنظام ديمقراطي ومدني وليس جمهورية تحكمها طغمة ويتوارثها حفتر وأبناؤه.
وجّه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، اتهاما ضمنيا لرئيس مجلس النواب بعرقلة تنظيم الانتخابات، وذلك بمنع اعتماد موازنة للدولة تخصص الموارد المالية لمفوضية الانتخابات، وعدم إصدار قوانين انتخابات، وهما خطوتان المقصود منهما عرقلة إجراء هذه الانتخابات، في المقابل كان لافتا اقتراح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إخراج المقاتلين الأجانب المحسوبين على تركيا لتتبع ذلك عملية إخراج قوات فاغنر الروسية، وهو ما يُلحق الشكّ بنوايا باريس ويظهر منبع هشاشة المواقف الدولية في المؤتمر وتجاهلها للمشكلة الأساسية وهي حفتر وقواته والأدوات التي يسيطر عليها، بما فيها مجلس النواب.
مهم تذكير المؤتمرين في برلين أن حفتر أظهر احتقاره للمؤتمر الأول في مطلع عام 2020 وواصل قصف العاصمة الليبية، وأنه عاد من اجتماعات المؤتمر ليواصل هجومه على طرابلس، والذي لم يتوقف إلا من خلال الدعم الذي أمنته أنقرة لقوات الحكومة الشرعية.
المطلوب من القوى الغربية، وهي دول تحكمها أنظمة ديمقراطية أن تقرّر هل تريد فعلا أن يُقام نظام ديمقراطي في ليبيا أم أن المطلوب هو استعادة إرث القذافي ومواقفه الداخلية في تدمير شعبه، والخارجية في دعم الإرهاب العالمي؟
القدس العربي