“البقاء في المدينة بات أمراً صعباً وينطوي على الكثير من المغامرة، لا أرى أي مستقبل لأبنائي هنا، فهم عرضة للاعتقال في أي لحظة”. هكذا تعبّر لي جانغ، عن مخاوفها بشأن مستقبل أبنائها الثلاثة في هونغ كونغ، بعد إقرار البرلمان الصيني قانون الأمن القومي الخاص بالجزيرة، العام الماضي، والذي يتيح للسلطات اعتقال أي شخص ومحاكمته بذريعة تهديد الأمن والاستقرار في المستعمرة البريطانية السابقة. وتضيف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنها تخطط للسفر مع عائلتها إلى كندا منذ منتصف الشهر الماضي، للاستفادة من التسهيلات التي قدمتها أوتاوا لسكان هونغ كونغ، بعد تشديد الخناق عليهم من قبل الحكومة المركزية في بكين. وتقول إنها مضطرة لاتخاذ هذا القرار، بعد أن تسلل إلى نفسها شعور بالغربة في المدينة التي ولدت وترعرت فيها، مشيرة إلى أنها تفتقر للأمان والحرية في ظل أحكام وإجراءات جديدة لم تعهدها من قبل، وأنها تعد الساعات في كل مرة يتأخر فيها أحد أبنائها في العودة إلى المنزل.
قد تسرّع الهجرة في تفعيل برامج بديلة تتيح لسكان من البر الرئيسي في السفر إلى الجزيرة
لي جيانغ، واحدة من بين عشرات الآلاف من المواطنين الذين باتوا يفكرون في مغادرة الجزيرة البالغ تعداد سكانها 7.5 ملايين نسمة، بسبب تضاؤل هامش الحريات بموجب قانون الأمن القومي، الذي تسبّب في اعتقال عشرات المعارضين والنشطاء المناهضين للحكم الشيوعي والمطالبين بالحرية والديمقراطية.
وأظهرت أرقام حديثة صدرت عن مديرية التعليم في هونغ كونغ، أن ما يقرب من 20 ألف طالب في المدارس الابتدائية والثانوية سحبوا ملفاتهم تمهيداً للسفر إلى الخارج. كما صرّح مسؤول في المدينة أن عدداً كبيراً من الشبان ترددوا أخيراً على أقسام الشرطة، للحصول على شهادات عدم وجود سجل إجرامي، باعتبار ذلك شرطاً أساسياً لبعض برامج الهجرة التي قدمتها حكومات غربية.
وشهدت الأشهر الماضية تقديم كل من بريطانيا وكندا وأستراليا، حزمة من الحوافز لسكان الجزيرة للحصول على الإقامة والجنسية، وهو ما أثار غضب الصين التي اعتبرت أن الإجراء ينطوي على أهداف سياسية.
حول هذه التطورات، يوضح المحامي لو كوانغ، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه لا توجد حتى الآن إحصاءات دقيقة ورسمية لعدد الراغبين في المغادرة، ولكن جميع المؤشرات تؤكد أن هذه الظاهرة باتت تتسع وتأخذ شكل الهجرة الجماعية. ويعزو ذلك إلى حالة عدم اليقين لدى السكان بشأن ما ينتظرهم في الجزيرة التي بدأت تأخذ ملامح البر الرئيسي الصيني، من جهة الرقابة الشديدة على الأفراد والفضاء الإلكتروني ووسائل الإعلام، مستشهداً بإغلاق صحيفة “آبل ديلي” قبل أيام، والتي تعتبر واحدة من أكبر وأهم صحف المعارضة.
ويضيف لي: وضع المدينة الآن يشبه إلى حد كبير الحال الذي كانت عليه في أعقاب الإعلان المشترك بين الصين وبريطانيا بشأن مستقبل الجزيرة عام 1984، والذي قضى بعودتها إلى البر الرئيسي عام 1997 بموجب صيغة “دولة واحدة ونظامان”. ويلفت إلى أن هونغ كونغ شهدت خلال تلك الفترة عمليات هجرة جماعية (أكثر من نصف مليون مواطن) خشية من بطش الحزب الشيوعي الصيني.
وعن خطط بكين للتعامل مع هذه الظاهرة، يرى أنه على الرغم من أن الصين دانت خطط الهجرة التي قدمتها حكومات غربية لسكان هونغ كونغ، فإنها لا ترى في ذلك أي مشكلة، بل على العكس من ذلك، قد تساعد هذه الحركة السكانية في تسريع برامج بديلة تتيح لسكان من البر الرئيسي في السفر إلى الجزيرة للإقامة فيها بصورة دائمة، مشيراً إلى أن هذا الأمر يخدم توجه بكين نحو زرع مواطنين مدجنين ومخلصين للدولة والحزب.
على الرغم من اتساع رقعة الهجرة، إلا أن هونغ كونغ لا تزال صاحبة ثقل اقتصادي كبير
ويقارن ذلك بما حدث في إقليم شينجيانغ، حين سمحت السلطات الصينية لمسلمين من أقلية الإيغور في العمل داخل المدن الكبرى تحت شعار التعايش بين القوميات، في مقابل تقديمها حوافر لشبان من قومية الهان الصينية من أجل الدراسة والعمل في الإقليم، في إطار سياسة التهجير والإحلال بهدف طمس المعالم الدينية والثقافية.
من جهته، يتطرق المحلل الاقتصادي دان تشو، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، إلى تداعيات الهجرة على مستقبل الجزيرة باعتبارها مركزاً مالياً هاماً في شرق آسيا. ويبدي ملاحظته أنه على الرغم من اتساع رقعة الهجرة، إلا أن هونغ كونغ لا تزال صاحبة ثقل ووزن اقتصادي كبير في المنطقة، خصوصاً أن المؤسسات المالية لا تزال موجودة، وتعمل بصورة طبيعية، والهجرة يقتصر حتى الآن على الأفراد فقط. لكنه في المقابل يلفت إلى أن المخاوف تكمن في قيام المغادرين بسحب مدخراتهم، مشيراً إلى أن بيانات حديثة صدرت عن اتحاد المصارف في المدينة، كشفت عن أكثر من 8 آلاف عملية سحب خلال شهرين فقط، بإجمالي يصل إلى نحو ملياري دولار هونغ كونغي (257.6 مليون دولار). ويرى أن الأرقام تشير إلى هروب رؤوس الأموال، الأمر الذي قد يحول دون انجذاب رجال الأعمال الأجانب للاستثمار مستقبلاً في الجزيرة، فضلاً عن تضاؤل هامش الأمان بالنسبة لبيئة العمل بسبب قانون الأمن القومي.
يشار إلى أن الصين فرضت قانون الأمن القومي الخاص بهونغ كونغ، في مايو/أيار من العام الماضي، وأثار جدلاً واسعاً في حينه. ويعتبر القانون أي حركة مناهضة للحكومة، تحريضاً على الإرهاب ودعماً للنزعة الانفصالية يستدعي التوقيف والمساءلة القانونية والسجن لمدة قد تصل إلى خمس سنوات، وهو ما دعا جهات دولية إلى إبداء مخاوفها بشأن مستقبل الجزيرة واعتبار أنها لم تعد مستقلة عن الصين.
العربي الجديد