قامت إسرائيل بتنفيذ ثلاث ضربات بصواريخ أرض – جو ضد سوريا خلال أقل من أسبوع، وذلك أيام 19 و22 و25 يوليو الجاري، وتعتبر هذه الضربات الأولى من نوعها في عهد الحكومة الإسرائيلية الجديدة “بينيت- لابيد”، وعلى الرغم من أن هذه الضربات ليست جديدة، فإن رد الفعل الروسي عليها كان مختلفاً هذه المرة عن السابق، حيث دخلت وزارة الدفاع الروسية لأول مرة على الخط، ووجهت رسائل غير مباشرة لإسرائيل، وهو ما جعل المحللين يتحدثون عن حدوث تحوّل في قواعد الاشتباك في سوريا.
وكانت التفاهمات بين موسكو وتل أبيب تقوم على غض موسكو الطرف عن قيام المقاتلات الإسرائيلية بتوجيه ضربات في سوريا ضد أهداف إيرانية، وذلك مقابل عدم استهداف إسرائيل قوات النظام السوري، أو حتى القوات الإيرانية، التي تقدم إسناداً مباشراً للجيش السوري في مواجهة المعارضة المسلحة. وعكس الموقف الروسي رغبة واضحة في إضعاف الوجود الإيراني العسكري في سوريا، خاصة مع تصاعد التنافس بين موسكو وطهران على النفوذ الاقتصادي والعسكري هناك.
موقف روسي مغاير:
أصدرت وزارة الدفاع الروسية ثلاثة بيانات متتالية وضح من خلالها مدى الغضب الروسي من الضربات الإسرائيلية الأخيرة. فقد تم الإعلان عن إسقاط الصواريخ الإسرائيلية عبر وزارة الدفاع الروسية تارة، ومركز المصالحة في حميميم تارة أخرى، كما استعرض الإعلام الروسي الأسلحة والمنظومات التي ساهمت في اعتراض الصواريخ الإسرائيلية.
ويعتبر هذا الأمر متغيراً جديداً يستدعي الانتباه، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن روسيا لم تقم مطلقاً بالتعقيب على أي هجمات إسرائيلية سابقة ضد مواقع في سوريا. ويمكن إرجاع تغير الموقف الروسي إلى ما يلي:
1- عدم التنسيق المسبق: تراجعت مستويات التنسيق، أو الإخطار المسبق عبر قناة الاتصال المشتركة بين موسكو وتل أبيب، وهو ما أغضب موسكو، حيث تخشى من تعرض جنودها للخطر، في الدوائر القريبة من الأهداف الإسرائيلية، كما حدث في 2018 عندما تسببت إسرائيل في إسقاط طائرة روسية “متعمدة” عبر الخداع والتمويه للدفاع الجوي السوري، مما أدى لاستهداف خاطئ من الدفاعات السورية للطائرة الروسية، ومقتل 18 جندياً روسياً. ولذلك تصر موسكو على ضرورة تنسيق إسرائيل معها قبل تنفيذ أي عمليات داخل سوريا.
ويلاحظ أنه كان هناك خط اتصال ساخن بين روسيا وإسرائيل، إذ كانت الأخيرة تبلغ الجيش الروسي باتجاهها لتنفيذ عمليات داخل سوريا قبل تنفيذها بوقت قصير، وذلك لتأمين القوات الروسية، ومنع استهدافها بالخطأ. وتشير مصادر إسرائيلية إلى أنه منذ تولي حكومة نفتالي بينيت الجديدة الحكم في إسرائيل، فإن هذا الخط لم يعد فاعلاً.
2- ضغط موسكو للتوافق على قواعد جديدة: سبق أن وجه وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في بداية عام 2021 رسالة للإسرائيليين بأهمية الاتفاق على “قواعد جديدة” للتحرك في سوريا، وقال إن بلاده تحافظ على “تنسيق وثيق” مع الجانب الإسرائيلي و”ترفض استخدام الأراضي السورية ضد إسرائيل”.
وتسعى روسيا إلى دعم القوات الحكومية السورية، وتقليص النفوذ الإيراني في سوريا، خاصة الميليشيات الشيعية. ويمكن أن تمارس موسكو ضغوطاً على إيران لإجبارها على خفض وجودها العسكري، خاصة حول دمشق، أو بالقرب من المناطق الجنوبية المحاذية لإسرائيل.
وتنتشر القوات الروسية في مناطق محسوبة على السيطرة الإيرانية، خاصة في دير الزور، كما توسع انتشار “الفيلق الخامس” السوري، الذي أسسته روسيا في جنوب سوريا، وفي المناطق القريبة من سيطرة “حزب الله” وإيران في القنيطرة، فضلاً عن حصول عمليات اغتيال غامضة لضباط سوريين كبار مقربين من إيران، وهي كلها مؤشرات أقلقت طهران، وكشفت عن إمكانية وجود مساعٍ روسية منظمة لإضعاف الوجود العسكري الإيراني.
كما اقترحت روسيا على إسرائيل إبلاغها بالتهديدات الأمنية المرصودة من تحركات بعض الأطراف في سوريا (دول أو جماعات)، على أن تتولى روسيا التعامل مع هذه التهديدات، بشرط إمداد الروس بالمعلومات المحددة، لكن هذه المقترحات لم تجد رداً إيجابياً من الجانب الإسرائيلي.
3- الدفاع عن سمعة الأسلحة الروسية: تعمدت بيانات وزارة الدفاع الروسية الإشارة لأول مرة إلى دور منظومة الدفاع الجوي الروسية في اعتراض عددٍ من الصواريخ الإسرائيلية، التي تم إطلاقها خلال الغارات الأخيرة، التي وقعت بشكل متزامن. وتسعى موسكو من خلال ذلك إلى التأكيد على قدرة منظوماتها العسكرية على التصدي للتهديدات الإسرائيلية، حتى لا يؤثر ذلك سلباً على سمعة السلاح الروسي في أسواق الشرق الأوسط.
4- تعزيز الدور السوري: تسعى موسكو إلى تقديم سوريا باعتبارها دولة ذات سيادة، خاصة مع تركيز موسكو خلال الفترة المقبلة على جهود إعادة الإعمار، ومن ثم فإن الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لسوريا من دون رادع يؤثر سلباً على هذه الصورة.
كما ترغب موسكو في لعب دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل، وهو الدور الذي كانت تلعبه من قبل الولايات المتحدة. وظهر ذلك في قيام روسيا برعاية صفقة لتبادل أسيرة إسرائيلية بعدد من الأسرى السورين لدى إسرائيل في فبراير 2021.
قراءة الموقف الإسرائيلي:
تبنت إسرائيل عدداً من المواقف، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- تجاهل إصدار بيان رسمي: لم تقم تل أبيب بإصدار أي تصريحات رسمية تعقب على التصريحات الروسية، وفضلت إسرائيل الرد بصورة غير رسمية، عبر نشر صور في وسائل الإعلام الدولية تكشف عن حجم الدمار الذي لحق بالمواقع المستهدفة، ومن ثم التشكيك في الرواية الروسية.
2- محاولة فهم الموقف الروسي: سعت الحكومة الإسرائيلية إلى دراسة التصريحات الروسية الجديدة، والوقوف على معناها، وعما إذا كانت تؤشر على وجود تراجع من جانب موسكو عن التفاهمات السابقة التي كانت قائمة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو والرئيس الروسي بوتين.
3- نفي اعتراض صواريخ إسرائيلية: نفى مسؤولون إسرائيليون الحديث الروسي عن تمكن الدفاعات الجوية من اعتراض عدد من الصواريخ الإسرائيلية فوق سوريا، وأكدوا أن كافة الصواريخ أصابت أهدافها بدقة بالغة.
وفي المقابل اعترف مسؤولون آخرون برواية الجانب الروسي، وتحديداً رواية نائب رئيس مركز المصالحة الروسي في سوريا، اللواء البحري فاديم كوليت، الذي أكد مساعدة القوات الروسية، لأول مرة، لنظيرتها السورية باعتراض أربعة صواريخ أطلقتها إسرائيل من مقاتلة إسرائيلية من طراز “إف – 16”. وتعتبر منظومة “بوك إم 2 إي” هي منظومة صاروخية متوسطة المدى متقدمة تم تصنيعها من للجيش الروسي بشكل أساسي.
خيارات تل أبيب:
سوف يكون لزاماً على الحكومة الإسرائيلية أن تتبنى الخيارات التالية، إذا ما أرادت الاستمرار في استهداف الوجود الإيراني في سوريا:
1- التفاهم مع موسكو: يتمثل أحد الخيارات الرئيسية أمام تل أبيب هو إقدام رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي على التواصل مع الرئيس بوتين، ومحاولة إحياء التفاهمات القديمة، أو التواصل لتفاهمات جديدة، تتضمن استمرار إقدام إسرائيل على إبعاد التهديدات الإيرانية عن حدودها.
2- تنفيذ ضربات عن بعد: سوف يكون لزاماً على الطيران الإسرائيلي تنفيذ عملياته بعيداً عن المجال الجوي السوري. ويمكن أن يقوم بذلك من خلال الأراضي اللبنانية، أو استخدام صواريخ بعيدة المدى، مثل الصواريخ “رامباج” (Rampage)، والقادرة على تدمير البنية التحتية مثل، مراكز القيادة والسيطرة.
وفي التقدير، فإن حجم التغير في الموقف الروسي من الهجمات الإسرائيلية المتكررة على مواقع سورية، يمكن أن يكون تكتيكياً، ويدخل ضمن مسعى موسكو لضبط السلوك الإسرائيلي، والتأكيد على مركزية الدور الروسي في إدارة التفاعلات المتعلقة بالأزمة السورية، وهو ما يفرض على إسرائيل ضرورة التفاوض مع موسكو، خاصة أن الجيش الروسي يمتلك خيارات عدة لعرقلة قدرة الطيران الإسرائيلي على العمل بحرية في الأجواء السورية، أو الأجواء القريبة منها، على غرار إمداد الجيش السوري بنظام الدفاع الجوي “إس – 400″، وتدريب عناصر الجيش السوري عليها.
المستقبل للدراسات