تصريح الرئيس الفلسطيني عن اتفاقيات السلام مع إسرائيل يكشف عن تآكل التأييد الشعبي الذي يتمتع به في الوطن، بقدر ما يشكل رغبة في زيادة الضغط على إسرائيل مخيم الأمعري للاجئين، الضفة الغربية- قال محمود عباس للأمم المتحدة يوم الأربعاء إن الفلسطينيين لم يعودوا يرون أنفسهم ملزمين بمراعاة اتفاقهم الذي مضى عليه عقدان مع إسرائيل. وكانت تلك خطوة استفزازية، ولو أنها غامضة، والتي تحكي عن تآكل الدعم الشعبي الذي يتمتع به رئيس السلطة الفلسطينية في الوطن، بقدر ما تكشف عن رغبة في الضغط على الدولة اليهودية دولياً، والتهديد بطريقة غير مباشرة بقيام انتفاضة جديدة. في حديثه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتهم السيد عباس إسرائيل بانتهاك اتفاقيات أوسلو للسلام التي أبرمت في التسعينيات -وهو وضع قال إنه يديم هيمنة إسرائيل على السكان الفلسطينيين، ويجعل حكومته بلا حول ولا قوة من الناحية الفعلية. وقال السيد عباس: “إنهم لا يتركون لنا أي خيار سوى الإصرار على أن لا نبقى الوحيدين الملتزمين بتطبيق تلك الاتفاقيات، بينما تنتهكها إسرائيل باستمرار. ولذلك نعلن أننا لا نستطيع الاستمرار في البقاء ملتزمين بتلك الاتفاقيات”.
ومع أن الرئيس الفلسطيني رفض أن يفصل بالضبط ما يعنيه بيانه، من حيث كيف ستعمل حكومته مع إسرائيل -والأكثر أهمية، ما إذا كانت قواته الأمنية ستستمر في التنسيق مع الجيش الإسرائيلي- فإن ما قاله يمكن أن يؤذن ببداية مواجهات متصاعدة مع إسرائيل، والمزيد من التآكل في عمل السلطة الفلسطينية ووظيفتها. وأدلى الرئيس بذلك البيان على أساس تعهد قبل إلقاء الكلمة بإعلان سيكون “قنبلة” من على منصة الجمعية العامة. وجاء ذلك -في جزء منه- من حاجة إلى تعويض التآكل الكبير في موقف الرئيس، وتصاعد في الاحتجاجات المناهضة للحكومة في أنحاء الضفة الغربية، كما يقول خليل الشقاقي، خبير استطلاعات الرأي الفلسطيني الذي تحدث قبل ساعات من إلقاء الخطاب. وقال السيد الشقاقي: “إنه يشعر بأن شرعيته تتآكل. وهو يدرك أن عليه اتخاذ خطوات ملموسة لاحتواء التصور السائد بين الجمهور عن فشله”. قبل أسبوع واحد فقط، كان جزء من هذه المشاعر قيد العرض، عندما واجه المئات من المتظاهرين قوات الأمن الفلسطينية في هذا المخيم (الأمعري) المكتظ للاجئين في الضفة الغربية جنوب رام الله.
ومع أن تلك التظاهرات كان ينبغي أن يكون عرضاً للتضامن في الدفاع عن المقدسات الإسلامية أثناء وقوع مصادمات في مدينة القدس القديمة، فقد نفَّس المتظاهرون أيضاً مشاعر الإحباط والغضب من عباس وحكومته. ثلثا الفلسطينيين يريدون منه أن يستقيل يتذكر فتى عمره 16 عاماً من مخيم الأمعري: “كنا نهتف: يسقط عباس، يسقط عباس. إنه رئيس فاشل. أنا لن أحمل صورته”. وكان احتجاج مشابه قد حدث قبل أيام من ذلك في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية، عندما تظاهر الناس هناك بسبب اعتداء قوات الأمن الفلسطينية بالضرب على شاب محلي. وقد ارتدى بعض المتظاهرين قمصاناً قصيرة الأكمام، كُتبت عليها عبارة “ارحل يا عباس”، مستعيرين شيئاً من شعار “ارحل” الذي شاع في احتجاجات الربيع العربي المصرية قبل أربع سنوات. شارك الشقاقي في استطلاع أجري في أيلول (سبتمبر)، والذي أظهر أن المشاعر المعادية للحكومة بين الفلسطينيين أصبحت الآن واسعة الانتشار بين الفلسطينيين. ووجد الاستطلاع أن ثلثي الفلسطينيين يريدون أن يستقيل عباس، كما تريد أغلبية منهم العودة إلى قيام انتفاضة مسلحة ضد إسرائيل. ومع ذلك، أشار الاستطلاع نفسه إلى أنه ليس هناك إجماع حول من هو الذي ينبغي أن يخلف عباس -في دليل على الضمور السياسي القائم. هذه المشاعر السلبية -كثيرة العمق، وفقاً للشقاقي، حتى على خلفية سنوات من الشعور العام بالضيق تجاه قيادة عباس- تنبع من مزيج من العوامل. إنها تعكس، أولاً وقبل كل شيء، خيبة أمل من تمجيده للدبلوماسية على حساب الصراع المسلح مع إسرائيل، والتي فشلت في تحقيق الدولة. وكانت آخر محاولات مفاوضات السلام قد انهارت قبل أكثر من عام، بينما لا يشاهد الفلسطينيون سوى التوسع التدريجي للمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. التعاون الأمني اليومي على المحك كما تعكس هذه المشاعر أيضاً تصاعد الإحباط من السياسة الفلسطينية التي ضمرت بعد ظهور الشقاق بين عباس وحماس في قطاع غزة. ولا يقل عن ذلك أهمية، أن الأعداد المتناقصة للمؤيدين تعكس تآكل مصداقية عباس، الذي بلغ الثمانين من عمره هذا العام، والذي يعلن دورياً رغبته في الاستقالة بعد 10 سنوات قضاها في المنصب، لكنه لا ينفذ تلك الرغبة أبداً. ثم هناك المزاعم القائمة منذ فترة طويلة بأن عباس لم يستأصل الفساد من السلطة الفلسطينية. يقول الشقاقي، مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله: “هذا أمر غير مسبوق، أن نرى مكانة عباس تنحدر بهذه الطريقة… هناك افتقار إلى الثقة في العقل الجماهيري بأنه يستطيع تغيير الوضع الراهن. الانطباع هو أنه ليس قادراً على القيادة لإنهاء الاحتلال، وليس قادراً على القيادة لتوحيد الفلسطينيين، وغير قادر على وضع نهاية للفساد”. في الأمم المتحدة يوم الأربعاء، قال عباس: “يجب أن تتحمل إسرائيل جميع مسؤولياتها كقوة احتلال، لأن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر”. ثم غادر، قبل ساعات فقط من رفع العلم الفلسطيني لأول مرة في الأمم المتحدة. لا يتوقع المراقبون أن يضع عباس نهاية للتعاون اليومي بين الحكومتين، الفلسطينية والإسرائيلية، في الشؤون اليومية، لكنهم يعترفون بأن بيانه ربما يكتسب حياة خاصة به ويؤدي إلى قطع هذه العلاقة. “إنه لم يقل أي شيء عملي، وتقديري هو أنه لن يتم القيام بأي شيء عملي”.
يقول غيرشون باسكن، الخبير الإسرائيلي في العلاقات مع الفلسطينيين، والذي يعتقد أن خطاب عباس هو جزء من جهد يقصد دفع المجتمع الدولي إلى الضغط على إسرائيل. عباس كان ضعيفاً لقي عباس الترحيب بداية من المجتمع الدولي والجمهور الفلسطيني عندما تولى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب وفاة القائد الفلسطيني الرمز، ياسر عرفات، في العام 2004. لكن تفضيله المفاوضات، وتوسع المستوطنات الإسرائيلية في هذه الفترة، ودعمه للتنسيق الأمني مع إسرائيل -الذي يُنظر إليه على أنه منع قيام انتفاضة جديدة خلال السنوات العشر الماضية- كلها أمور تركته ضعيفاً ومكشوفاً أمام الهجوم. كما أن الخلاف مع حماس والفشل في الاتفاق على انتخابات جديدة بعد انتهاء فترته الرئاسية في العام 2010، عملت أيضاً على تقويض مصداقيته. بينما كان الشارع في مخيم الأمعري يعود إلى الحياة ببطء في الأسبوع الماضي في نهاية عطلة عيد الأضحى، انتقد مجموعة من الرجال الذين فتحوا محلاتهم رئيس الحكومة الفلسطينية بشدة. يقول شوكت سعيد، الذي يعمل سباكاً: “الناس ضاقوا ذرعاً به. إنه لم يفعل لهم شيئاً. لقد أملوا بأن يشفي السياسة الفلسطينية الداخلية ويصنع السلام مع إسرائيل”. ويقول سعيد إن أمه طُردت من عملها في الحكومة التي تسيطر عليها فتح العلمانية التي يقودها عباس، عندما قالت للناس إنها تؤيد حماس. وأضاف سعيد: “إنه لا يسمح بحرية التعبير. لقد قمع المظاهرات والمقاومة المسلحة. إنه يعمل فقط من أجل إسرائيل”. “تغير جدي في الموقف” لكن للزعيم الفلسطيني مدافعون عنه في مخيم اللاجئين هذا أيضاً. ويقول شاعر هارون، الموظف في الحكومة، بينما يواجه اتهامات الخصوم من الجيران الغاضبين له بالانحياز: “إن نقدنا يكون غير عادل في بعض الأحيان. يبدو أنه لا أحد يقبل بخليفة لياسر عرفات”. كان المجتمع الدولي قد امتدح عباس وأسند إليه الفضل في إصلاح قوات الأمن الفلسطينية، وحل خلايا كتائب الأقصى المسلحة التي حاربت إسرائيل، وحاكم الخارجين على القانون في الضفة الغربية. ولكن هناك، مع تآكل قاعدة دعمه، إقرار متصاعد للعودة إلى الصراع المسلح مع إسرائيل، وخيبة أمل متزايدة من هدف إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. يقول صاحب بقالة في مخيم الأمعري، والذي رفض إعطاء اسمه خوفاً من الاعتقال: “معظم جماعة فتح في المخيم صنعوا تمرداً عليه. في كل مخيم هناك كتائب أقصى ممن انشقوا عنه”. ويقول الشقاقي، خبير الاستطلاعات، إن القفزة في نسبة دعم قيام انتفاضة جديدة –57 في المائة، مقارنة بنسبة 49 في المائة قبل ثلاثة أشهر- “هي تغير جدّي في الموقف. إنها تعكس فقدان الثقة في القيادة، وفقدان الثقة في الدبلوماسية، والشك المتزايد في السلطة الفلسطينية -سواء كان ذلك للإيجاب أم السلب.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة