تطرفات حوّلت «الربيع العربي» إلى خريف كئيب

تطرفات حوّلت «الربيع العربي» إلى خريف كئيب

الربيع1

لم يكن لجماهير «الثورات» العربية، التي اشتعلت أولى شرارتها في تونس، في الهزيع الأخير من العام 2010، تأهيل سياسي حزبي؛ فالأعم الأغلب من تلك الجماهير شباب في عقده العشريني، ولد وشب في حقبة الانحسار والأفول الحزبيين، وكانت القوى السياسية من الضمور والهزال بحيث قام بينها وهذا الجمهور الاجتماعي الجديد عوازل. وإلى ذلك تضاءلت، في عهد هذا الجمهور، جاذبية الثقافة الحزبية، حتى إن من كان مشدوداً منه إلى الشأن العام، ما عرف من قضايا الشأن العام إلا العمل المدني (غير الحكومي) على مسائل مثل حقوق الإنسان، أو الشباب، أو المرأة، أو البيئة.. إلخ، فيما ظل بمبعدٍ من السياسة، بما هي أم الشأن العام، وبعيداً من مؤسساتها الحزبية. وباستثناء الشباب المنضوي في جماعات سياسية إسلامية، لا نعثر للحزبية على بصمة وجودٍ في شبكات التواصل الشبابي التي قادت الأحداث. وحين التحق الحزبيون بالحراك الاحتجاجي العام متأخرين في الأغلب كانت سمات «الثورات» قد تحددت سلفاً، ورسمت لها النطاقات والآفاق بحيث لا مكان لحمل وجهةٍ أخرى للتطورات… إلا في النادر من الأحوال كان فيها لأدوار الإسلاميين في التعديل آثار ملحوظة، وفي الأغلب، جزئية.

مع ذلك، لم تمنع لا حزبية شباب «الربيع العربي» هذا الشباب من أن ينجذب إلى الخيارات القصووية في إدارته الحراك والأحداث، وصوغه الأهداف، وبلورته الشعارات، من دون أن يكون متشبعاً بثقافةٍ سياسية تبرر انسياقه إلى السياسات القصووية. وهذا إنما يعني أمراً في غاية الأهمية بالنسبة إلى أي تفكيرٍ في مسألة المصادر التي تنهل منها القصووية السياسية في أي مجتمع؛ فقد درج على حسبانها ثمرة لرؤية أيديولوجية يسكنها مبدأ الطوبى Utopie: مدنيةً كانت أو دينية، وتتلبس (أي الرؤية) السياسة وتوجهها.
ومن الطبيعي أن يجري تلقن هذه القصووية من الطريق الحزبي، لأن الأحزاب والمنظمات والجماعات السياسية هي البيئة المنتجة لها، والمصدرة والمروجة لها. وها إن قصووية حراك «الربيع العربي» تطلعنا على حقيقة أن هذه النزعة قد تنمو حتى في البيئات الاجتماعية المفقرة من السياسة، أو التي تعاني نقصاً فادحاً في الثقافة السياسية؛ وربما بسبب ذلك النقص.
على أن عوامل ثلاثة مجتمعة تضافرت لتنتج تلك الحال من القصووية السياسية التي إليها اندفعت حركات الشباب في موجاتها الاحتجاجية. وينبغي النظر إليها ككلية لئلا يكتفى بنسبتها إلى عاملٍ واحد وحيد. والعوامل الثلاثة، التي عنينا، هي: محصلة الثقافة الحزبية القصووية وتأثيراتها غير المباشرة في المجتمع؛ وتجدد فعل تلك القصووية الحزبية في أحداث «الربيع العربي» بعد التحاق قواها بحركات الانتفاض؛ ثم مفعولية حالة الفقر السياسي في البيئات الشبابية المنتفضة وما تفضي إليه من استسهالٍ لمهمات التغيير.
قد يشب الشيب في الأحزاب والمنظمات السياسية، وتترهل ويهن عظمها، كأي كائنٍ حي وهو عينه ما إليه صار أكثر أحزابنا في الثلاثين عاماً الأخيرة وتكون النتيجة أنها تؤول إلى اضمحلالٍ من دون أن تنجز شيئاً من الأهداف السياسية التي قامت من أجل تحقيقها. لكن ما تشيعه في المجتمع من أفكارٍ ويقينيات سياسية لا يذهب بذهاب بريقها، ولا تطوى سيرته. صحيح أن الأفكار التي تبقى منها لا تستقبل، في الغالب، كمنظومة في الوعي متسقة، ولا تستقر في الأذهان بما هي مفردات في ثقافةٍ سياسية ذات مصادر، وإنما الغالب عليها أن تستقبل متفرقة، مشتتةً لا جوامع بينها، وأحيانًا على نحوٍ كاريكاتوري، ولكنها تظل تحوم في «الوعي الجمعي» للجمهور المتعلم خاصة وتحوم حوله. هكذا هي أفكار الثورة والتمرد على النظام القائم، والسعي إلى طلب التغيير الجذري لتحقيق الديمقراطية، التي عبر عنها شباب «الثورات» العربية؛ لم تخرج من عدم أو تسقط عليهم من فوق، وإنما هي من جنس الأفكار السيارة في الفلك الاجتماعي؛ وهي محصلة الثقافة السياسية الحزبية السابقة التي ظل من سردياتها الكثير. وبهذا المعنى، تكون قصووية الحراك العربي صدًى في بعض وجوهها لتلك المحصلة السياسية القصووية الحزبية، وأثراً من آثارها غير المباشرة.
على أن فعل القصووية في الحراك الثوري العربي ثانياً تحوّل إلى فعلٍ مباشر حين التحقت قواها السياسية بعملية «الثورة»، وباتت رديفاً للمجموعات الشبابية التي أطلقتها وأدارت فصولها في الأيام والأسابيع الأولى منها. وقد تبين هذا الفعل، أكثر ما تبين، حين نجحت القوى الحزبية الإسلامية والعلمانية في أن تصادر الحركات الاحتجاجية، وتستولي على قرارها، بالتدريج، فتوجهها نحو آفاق برنامجية لم تكن الانتفاضات قد تطلعت إليها حين اندلعت هادرةً في البدايات. إن إلغاء الدساتير، والدعوة إلى تشكيل مجالس تأسيسية، وحل البرلمانات وتفكيك الأجهزة الأمنية، وحل الأحزاب الحاكمة وسن سياسيات العزل السياسي، وحمل السلاح (في ليبيا وسوريا) وعسكرة الانتفاضة…، لم تكن سياقاً طبيعياً في الحركات الاحتجاجية الشبابية لولا تدخل القوى الحزبية في الأحداث (مدعومة، هي الأخرى، من قوى خارجية: دولية وعربية !). هكذا تغذت قصووية «الربيع العربي» بقصووية حزبية مضاعفة تغذيةً مباشرة، وخاصةً من القصووية الحزبية الإسلامية التي نجحت (في مصر وتونس واليمن) في أكل الثوم بأفواه الشباب، أو عند الفشل في ذلك في القيام مقام الشباب في التغيير من طريق امتشاق السلاح، والذهاب إلى خيار التغيير بالقوة العسكرية (كما في حالة ليبيا وسوريا). لكن ثالث العوامل لا يقل خطورةً عن سابقيه؛ فلقد ثبت أن مفعولية القصووية العفوية كبير الأثر في ترتيب نتائج سياسية غير طيبة على «الربيع العربي»، ومنها اصطدامه الموضوعي بجدار الامتناع والاستحالة. وبيان ذلك أن ضعف الثقافة السياسية ولا أقول الحزبية لقوى الحراك الشبابية، نمّى لديها منزعاً إلى استسهال عملية التغيير، والاطمئنان إلى قوتها الضاربة؛ ولكن المفككة وغير المنظمة. وإلى ذلك، كان لفقر الثقافة السياسية ذاك أن رتب عليها فقراً فادحاً في الواقعية السياسية، فكان أن طرحت على نفسها أهدافاً تفوق ممكنات الواقع الموضوعية والذاتية (الملكية البرلمانية عند «حركة 20 فبراير» في المغرب، أو إسقاط النظام في مصر وتونس اللتين سقط فيهما رمزاهما فحسب). وكانت النتيجة أن شباب الانتفاضات فقدوا المبادرة، واستلم الزمام الحزبيون (مصر، تونس، اليمن، المغرب…) والمسلحون (ليبيا، سوريا)، وانتهى «الربيع العربي» إلى خريفٍ كئيب!

عبدالإله بلقزيز

صحيفة الخلبج