ذات يوم انقلبت أوصاف نموذج أسامة بن لادن في الرطانة الرسمية الأمريكية من «مجاهد» حسب مفردة مستشار الأمن القومي الأسبق زبغنيو برجنسكي، و»مقاتل من أجل الحرية» عند اقتباس تعبير الرئيس الأسبق رونالد ريغان؛ إلى «إرهابي» و»عدوّ الإنسانية رقم 1»؛ كما استحق الطالبان والجهاديون إجمالاً ألقاب «الإرهاب» و»الأصولية» و»الرجعية»، بعد أن تمتعوا بلقب «حركة التحرر» من الاستعمار السوفييتي. كانت التقلبات تلك بمثابة الصورة المعلنة لحال أشدّ وأدهى من الارتباك والتخبط والفوضى، انتهت إليها «ستراتيجية المخرج» في التخطيط الرسمي الأمريكي إزاء ورطة أفغانستان؛ بصرف النظر عن هوية سيد البيت الأبيض، وأن يكون ديمقراطياً أم جمهورياً، واسمه جيمي كارتر أم جورج بوش الأب مثل الابن، وبيل كلنتون أم باراك أوباما، وصولاً بالطبع إلى دونالد ترامب وجو بايدن…
أصحاب الأوصاف أنفسهم، القديمة مثل الجديدة، فضلاً عن حفنة من أمراء الحرب الأفغان، كانوا وظلوا أعضاء أصلاء مؤسسين، أو وافدين ومنتسبين، في مؤسسة استثمارية من طراز فريد غير مسبوق، استحقّت بدورها لقب «شركة الجهاد العالمية» Jihad Enterprise International أنتجت شبكة مصالح اقتصادية ومالية واسعة النطاق، وتاجرت بالسلاح والسلع المهرّبة والمخدّرات أساساً؛ وكانت، باختصار، التوكيل الأمريكي غير الرسمي لحكم أفغانستان ما بعد انسحاب الجيش الأحمر. ومنذ عام 1988 كانت مجلة The Nation الأمريكية قد كشفت النقاب عن حقيقة تغاضي المخابرات المركزية الأمريكية عن عمليات تهريب المخدرات في الشاحنات الأمريكية (نعم: الشاحنات الأمريكية!)، التي كانت تنقل السلاح والمؤن للمجاهدين من ميناء كاراتشي إلى بيشاور. وكان حامد كرزاي، الرئيس الأفغاني في حقبة ما بعد الطالبان وحامل الجنسية الأمريكية، يدرك أنّ تلك المؤسسة القديمة – الجديدة نهضت بتخطيط مباشر من الاستخبارات الأمريكية، تحت إشراف برجنسكي مهندس توريط السوفييت في أفغانستان.
واليوم، إذْ تواصل القوات الأمريكية انسحابها من أفغانستان، وفي الآن ذاته تتساقط البلدات والمدن والولايات في قبضة الطالبان، أمام عجز فاضح واندحار صارخ من جانب القوات الحكومية الأفغانية؛ تتبادر إلى الأذهان «صناعة» من طراز آخر، على صعيد التنظير الجيو – سياسي لـ»فضائل» التدخل العسكري الأمريكي في هذا البلد، وفي سواه أيضاً. ففي ورقة بعنوان «الدول الماركسية ـ اللينينية الجديدة والصراع الداخلي في العالم الثالث»، كُتبت سنة 1985، اعتبر فرنسيس فوكوياما أنّ أفغانستان هي البؤرة الأهمّ بين جميع المراكز المناهضة للشيوعية؛ لكنّه اعترف بأنّ البلد يتّصف بشخصية إسلامية شديدة المحافظة، «في عالم يشهد صحوة إسلامية لا سابقة لها». آنذاك لم يكن التاريخ قد انتهى تماماً في نظر فوكوياما، ولهذا استسهل الرجل تصنيف أفغانستان ضمن خانة بلد إسلامي محافظ ومتخلف من جهة؛ وضمن خانة حركة تحرر وطني من جهة ثانية، من دون أدنى تناقض أو تنافر! كذلك كان طبيعياً تماماً أن يكون رجل مثل بن لادن، أو أستاذه ومعلّمه الروحي عبد الله عزام، أو سائر «الأفغان العرب»، في عداد أبطال حركة التحرّر الوطني الذين تعتدّ بهم الولايات المتحدة، وتمتدح ما قدّموه من خدمات ضدّ الشيوعية.
وكما تبدلت الأوصاف والألقاب، كذلك تبدلت الخصومات والعداءات: الأبطال هؤلاء صاروا أهداف الحرب الشاملة التي شنّتها الولايات المتحدة في مشارق الأرض ومغاربها تحت مسمى «الحرب على الإرهاب»؛ الأمر الذي لم يمنع التفاوض مع بعضهم اليوم، على غرار الطالبان؛ ولن يمنع مع سواهم في أية مرحلة لاحقة. وفي شتاء 1992 حين سقطت كابول محمد نجيب الله، كانت هتافات الفرح تتعالى من حناجر «المجاهدين» على اختلاف جنسياتهم، أسوة بضبّاط المخابرات المركزية الأمريكية وضبّاط المخابرات الباكستانية وضبّاط الجيش الأحمر على حدّ سواء! للمرء، في المقابل، أن يتخيل لائحة السعداء والتعساء اليوم، على أعتاب أي سقوط وشيك للعاصمة المعذبة، وأيّ إحياء لميراث الصناعة الجهادية.
القدس العربي