تسقط الولايات الأفغانية، واحدة تلو الأخرى، بيد حركة طالبان من دون مقاومة. ما يجري هو عملية تسليم للسلطة بعد بدء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ويعكس في واقع الأمر تخلّي واشنطن عن السلطة المُعترف بها دولياً التي وُلدت من رحم الغزو الأمريكي لهذا البلد بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 التي هزّت الولايات المتحدة، وستشهد ذكراها العشرين انسحاب آخر جنودها.
عشرون عاماً في أفغانستان تحت عباءة مجلس الأمن مفوّضاً قوات «الناتو». والنتيجة خروج من دون وجود دولة قادرة بمؤسساتها وأجهزتها وقواتها المسلحة على حماية نفسها والدفاع عن شعبها، حيث تبسط نفوذها، ما يعني فراغاً في السلطة تقوم حركة طالبان بملئه مجدداً بعد إسقاط حكمها في كابول، والحرب التي شُـنّت عليها قبل عقدين من الزمن بوصفها شريكاً لتنظيم «القاعدة» منفذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر.
ولكن هذا السقوط السريع للولايات الأفغانية بيد طالبان لا يحمل في طياته عوامل ثبات وقدرة على دوام بسط السيطرة، ذلك أن هذه الولايات لا تُدين بالولاء العقائدي للحركة ولا تنتمي إلى إثنية البشتون التي تتشكّل منها هذه «الحركة الجهادية» التي قاتلت السوفيات عقب اجتياحهم لأفغانستان في 1979 وهزمتهم باحتضان أمريكي حينذاك. وبالتالي فإن هذا «الانتصار السريع» هو سلاح ذو حدّين وسيتحوّل إلى تحدٍ سريع، بحيث إنه يُنذر بمخاطر حرب أهلية في البلاد نظراً إلى تركيبتها المعقدة إثنياً وطائفياً.
من المبكر جداً التكهن بالسيناريوهات المنتظرة، سواء بالنسبة لأفغانستان أو لواقع جيرانها. كثير من القراءات السياسية أدرجت الخطوة الأمريكية في إطار رمي كرة النار في ملعب أخصام واشنطن وإرباك ساحاتهم، ولا سيما «الثالوث الصيني-الروسي-الإيراني».
حين يصف منظرو «محور إيران» الانسحاب الأمريكي بأنه «متهوّر وأرعن»، فذلك تعبير عن حجم التحدي الذي تواجهه إيران الجارة، المؤثرة والمتأثرة، بما يجري على الساحة الأفغانية وبالمسار الذي ستسلكه حركة طالبان في رؤيتها العقائدية ومصالحها ونهجها السياسي المستقبلي.
يُشكّل الفكر العقائدي لطالبان تحدّياً حقيقياً لإيران التي تحمل بدورها مشروعاً عقائدياً. كانت طهران و«الحركة» على وشك الدخول في الحرب في 1998 ولكن بعد الغزو الأمريكي وسقوط حكم طالبان، بات لدى العدويين عدو مشترك فذهبا إلى نسج علاقات وإيواء قيادات من «القاعدة» والحركة وصوغ تفاهمات. ثمة نهج براغماتي سلكته طالبان مع خصومها وأعدائها انسحب على علاقاتها مع إيران وروسيا وأمريكا التي فاوضتها في الدوحة وتوصّلت معها إلى اتفاق تاريخي. كان لقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني حضور قوي في المشهد الأفغاني مع الغزو الأمريكي لأفغانستان، وسبق أن نسّق بقوة مع الأمريكيين هناك، وحاورهم والتقاهم ونسج معهم علاقات مميزة، قبل أن ينقضّوا عليه في 2020 ويقتلوه في مطار بغداد، كما أن القائد الحالي إسماعيل قاآني خبر هذا البلد منذ الثمانينات جيداً.
استطاعت طالبان أن تتعايش وتتماشى مع مفاهيم الصراع الإقليمي-الدولي، غير أن الأسئلة التي تُقلق طهران وموسكو تدور حول ما إذا كانت طالبان تُخفي العقيدة راهناً لصالح السلطة، فتوظف البراغماتية بغية استعادتها؟ وهل بعد إحكام سيطرتها على البلاد ستظهر العقيدة إلى السطح أم أن هناك تغييراً عميقاً وجذرياً لدى الحركة؟
إيران جارة لأفغانستان ولديهما حدود مشتركة، وهناك لاجئون أفغان في إيران يصل عددهم إلى نحو مليون ونصف، وهناك ولايات في أفغانستان تعتنق المذهب الشيعي، وقوميات تتحدث الفارسية، وهناك علاقات متينة لها مع إثنيات الطاجيك والأوزبك والإسماعيليين، وهناك «لواء فاطميون» من الأفغان الشيعة ستعمل على تعزيزه الآن. وهو أحد أذرع إيران في المنطقة بقوام نحو عشرة آلاف عنصر، يحارب حيث تريد زجّه، وقد عاد الكثير من عناصره إلى أفغانستان بعد مشاركتهم في الحرب السورية.
لقد اتكأت إيران على أفغانستان لتأمين العملة الصعبة. ويقول «المعهد الدولي للدراسات الإيرانية»: إن «إيران تُعد العميل المفضَّل لطالبان في ما يتعلَّق بأنظمة الأسلحة التي استولت عليها والمسروقة والمعطَّلة، وغالباً ما تكون إيران في حاجة ماسة إلى الأنظمة الفرعية المتطوّرة، والتي يمكن استخدام بعضها في الصواريخ والطائرات المسيّرة والقنابل، بينما يتم استخدامُ البعض الآخر منها لأغراضِ الهندسة العكسية، وإنتاج الأسلحة بكمِّيات كبيرة… أمّا من وجهة نظر طالبان، فإن إيران شريكٌ أفضل من باكستان المُنهَكة والمنطوية، التي ينصَبُّ اهتمامها الأساسي بأفغانستان في التحقّق من طموحات الهند. ومع سيطرتها على البلدات المجاورة، ستسعى طالبان إلى تأمين ما تحتاجُه من أموال، عن طريق تهريبِ البضائع والمخدّرات والأسلحة والبشر».
سيكون على إيران أن تتعامل بحذر مع أفغانستان ما بعد الانسحاب الأمريكي. هي قلقة من أن يكون الانسحاب إعادة تفخيخ لهذا البلد في وجهها ووجه حليفيها الصيني والروسي وليس تعبيراً عن هروب من هزيمة معلنة إلى هزيمة مستورة. من غير الواضح إلى أي درجة سيكون الإيرانيون والروس شركاء في تعاطيهم مع طالبان. التوجه الراهن هو لاعتماد سياسية العصا والجزرة وتحويل التهديد إلى فرصة.
لا يزال باكراً القول ما إذا كانت أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي نافذة مخاطر أو فرص لجيرانها خصوصاً أن ما سيجري في هذا البلد سيكون في جانب منه مرتبطاً بمنطقة الخليج والشرق الأوسط وله انعكاساته عليها. إيران لديها استثمارات في قلب طالبان وفي قلب أفغانستان، لكن ذلك لا يوفر لها الضمانة المستقبلية في العلاقة مع طالبان، ذلك أن البراغماتية التي تتحلى بها راهنا يمكنها أن تكون ستاراً موقتاً قبل العودة إلى مشروعها الأم، أو فرصة يمكن للدول العاملة على تقويضَ المصالح الإقليمية لإيران النفاذ منها.
القدس العربي