خيارات طالبان الاقتصادية بين الأيديولوجيا ومتطلبات الواقع

خيارات طالبان الاقتصادية بين الأيديولوجيا ومتطلبات الواقع

تصريحات المتحدث باسم حركة طالبان ذبيح الله مجاهد كانت واضحة فيما يتعلق بإقامة حكومة إسلامية خالصة في أفغانستان، وأنها ستراعي الحقوق وفق قواعد الشريعة الإسلامية، ولعل بعض القضايا حُسمت مبكرًا في ضوء قواعد الشريعة الإسلامية، وبخاصة تلك التي أثارها الإعلام الغربي، مثل حق المرأة في العمل والتعليم.

ولكن ثمة أمور تحتاج إلى توضيح أكثر فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية، سواء فيما يخص الدور الاقتصادي للدولة، أو القضايا التي تثار مع تولي الإسلاميين للسلطة، مثل قضايا الضرائب والزكاة، وكذلك عمل البنوك بسعر الفائدة.

رب ضارة نافعة
على مدار السنوات الماضية، لم يكن الإعلام يتناول الأوضاع في أفغانستان، إلا من خلال الحروب، وهو ما يعطي انطباعًا أن من سيتولى إدارة شؤون الدولة بعد رحيل الأميركيين والدول الغربية المحتلة سيبدأ في إنشاء مؤسسات الدولة من الصفر.

والحقيقية أن السنوات الماضية التي سيطر فيها التدخل الأميركي والغربي على أفغانستان، مع وجود حكومات أفغانية صورية، أدى إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة، والحفاظ على ما تبقى منها فور سقوط حكومة طالبان نهاية 2001.

فالمطلع على موقع البنك المركزي الأفغاني يجد كافة البيانات الاقتصادية. وكذلك قاعدة بيانات البنك الدولي، تقدم قدرًا لا بأس به من المعلومات عن الاقتصاد الأفغاني، فثمة بيانات عن موازنة الدولة، وكذلك الجهاز المصرفي، وما يتعلق بالسياسات المالية والنقدية.

وخلال الفترة القادمة، سيكون مطلوبا من حركة طالبان أن تعلن هويتها الاقتصادية، وموقفها من عمل بعض المؤسسات الاقتصادية، وكذلك قضية دور الدولة الاقتصادي.

إشكاليات الموازنة
عادة ما تثار قضية الضرائب والجدل الدائر حولها، فيما يتعلق بمدى إجازتها من الناحية الشرعية، فهل ستتجه طالبان إلى إلغاء الضرائب وتفعيل الزكاة، أم أنها ستعمل في ضوء مرحلة انتقالية تحافظ فيها على تماسك الوضع المالي للدولة من خلال الضرائب، مع تطبيق انتقالي للزكاة؟

قاعدة بيانات البنك الدولي تقدم لنا بيانات عن الموازنة العامة في أفغانستان لعام 2017، ومنها يتضح مدى أهمية دور الضرائب في تمويل هذه الموازنة، فالنفقات العامة في هذا العام بلغت 504 مليارات أفغاني (الدولار يعادل 86 ألف أفغاني).

تشكل مخصصات شراء السلع والخدمات الحكومية نسبة 54% من إجمالي النفقات العامة، وتأتي في المرتبة الثانية الأجور بنسبة 33.9%، وتضم أيضًا الإعانات والتحويلات بنسبة 10.5%، بينما استحقاقات الفوائد تمثل المخصص الأقل بين بنود النفقات العامة، بنسبة 0.13%.

في حين بلغت الإيرادات العامة نسبة 13.04% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2017، والبالغ 18.8 مليار دولار، أي نحو 2.45 مليار دولار، بما يعادل 210 مليار أفغاني.

ويلاحظ أن العائدات الضريبة هي عصب الإيرادات العامة بالموازنة الأفغانية. حيث بلغت في العام نفسه 127 مليار أفغاني، منها 45.9 مليار أفغاني ضرائب على السلع والخدمات، و28 مليار أفغاني ضرائب على الدخل والأرباح والأرباح الرأسمالية، ونحو 45 مليار أفغاني ضرائب على التجارة الدولية.

وبالتالي فسيكون أمام طالبان مجموعة من التحديات في الموازنة، أولًا وجود عجز بالموازنة، ولا بد من تمويله، وقد يكون المخرج التمويل بالديون، سواء الداخلية أو الخارجية، وهنا تثار قضية سعر الفائدة، والأمر الثاني أنه في حالة الأخذ برأي من قالوا بحرمة الضرائب، فإن الحكومة الجديدة ستواجه بالتزام مالي كبير ليعوض الإيرادات الضريبية، وأما البديل فهو الاستغناء عن بعض الخدمات، وهو ما يعرض الحكومة لمأزق في مواجهة المجتمع.

ويتوقع أن تلجأ حكومة طالبان إلى تسيير الأوضاع على ما هي عليه خلال الأجل القصير، وإن كانت ستتجه لبدائل أخرى لما هو قائم في إطار نظام رأسمالي، فستكون بحاجة لمزيد من الوقت، للبحث في أمر البدائل ومدى صلاحيتها، وتوفير أدواتها، وعرض طريقة تنفيذها على المجتمع، ليسهل التطبيق.

وفيما يخص الزكاة، فالأولى أن تتجه طالبان لتنفيذها مرحليًا، وأن تكون التجربة في إطار اللامركزية، وأن تأخذ بالآراء الأكثر مرونة، مثل أخذ القيمة في زكاة الفريضة، ولعل اعتماد الحركة والمجتمع الأفغاني للفقه الحنفي سيعطيهم سعة في هذا الأمر.

الجهاز المصرفي وسعر الفائدة
حسب بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي الأفغاني لعام 2018، يوجد 14 مصرفا في أفغانستان، وهو أمر قد لا يتصوره البعض في ضوء ما ينشره الإعلام عن عمق الحياة البدائية هناك. وليس هذا فحسب بل يوجد ضمن هذه البنوك بنك أفغانستان الإسلامي، الذي رخص له بالعمل في أبريل/نيسان 2018، وعول عليه البنك المركزي هناك في استيعاب جزء كبير من ودائع البنوك، بسبب نسبة المسلمين الطاغية في البلاد، ورغبتهم في التعاملات الإسلامية.

وفي الوقت الذي يحتل فيه بنك أفغانستان الإسلامي المرتبة الثامنة من بين البنوك الـ 14، فإن إجمالي أصوله تمثل نسبة 5.47% من إجمالي الأصول المملوكة لكافة البنوك في البلاد، والبالغة ما يزيد بقليل على 4 مليارات دولار.

ومن خلال هذه البيانات نجد أن أفغانستان، تمتلك نظامًا مصرفيًا مزدوجًا، يجمع بين البنوك التقليدية والإسلامية، وحسب بيانات البنك الدولي، فإن سعر الفائدة هناك على الودائع بلغ 12.14%، في حين بلغ سعر الفائدة على الإقراض 14.8%، وذلك حسب بيانات عام 2017.

فماذا ستفعل حكومة طالبان في الجهاز المصرفي، وبخاصة الذي يعمل وفق آلية سعر الفائدة؟ الغالب أن طالبان سوف تكيف أوضاعها في الأجل القصير لتسمح بوجود نفس النظام القائم، مع تشجيع عمل المصارف الإسلامية، ومن الممكن أن تشجع المؤسسات الحكومية على التعامل مع البنوك الإسلامية دون غيرها.

ومسألة الوصول لنظام مصرفي يعتمد على المصرفية الإسلامية بالكامل، سوف يستغرق وقتًا، وقد لا يتحقق في الأجلين القصير والمتوسط، وذلك بفرض استبعاد فرض النظام المصرفي الإسلامي بقرار إداري.

النشاط الاقتصادي للدولة
ستجد حكومة طالبان نفسها أمام مجموعة من الالتزامات الكبيرة، وبخاصة لتسيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، فضلًا عن التزاماتها في الخارج، ولن يكون أمامها فرصة التدخل الكبير في النشاط الإنتاجي والخدمي، قد تعتمد على القطاع الخاص بشكل كبير، ولكن هذا الخيار سيتطلب مراعاة الأوضاع الاجتماعية للفقراء، وتوفير متطلباتهم الأساسية.

البعض يعتمد على التفسير التاريخي لممارسة الدولة الإسلامية في النشاط الاقتصادي، باستبعاد دور الدولة في ممارسة النشاط الإنتاجي مثلًا، والحقيقية أن الواقع في هذا العصر مختلف، ويحتاج إلى اجتهاد جديد، في ظل التحديات التي تفرضها الأوضاع الحالية على الحكومات والدول.

فمجتمع تزيد فيه معدلات الفقر عن 54%، من الصعب أن تترك أموره الاقتصادية، سواء الإنتاجية أو الخدمية بالكامل إلى القطاع الخاص، ودون وجود دور للدولة، فتحقيق العدالة الاجتماعية يقتضي أن تقوم الدولة بإنتاج السلع الأساسية والضرورية للفقراء، ليحصلوا عليها بأسعار تناسب دخولهم الضعيفة، إذا لم يقم بذلك القطاع الخاص.

وهذا الأمر يعد من أهم مقاصد الشرعية الإسلامية في الجانب الاقتصادي، فدور الدولة توفير الحاجات الضرورية (المأكل، المشرب، الملبس، المسكن، المركوب)، فإذا انصرف القطاع الخاص عن إنتاج هذه الضروريات للفقراء لعجزهم عن دفع سعرها، وجب على الدولة توفيرها لهم.

ويتوقع أن تتكيف طالبان مع موروث الحكومة السابقة، لفترة ليست بالقليلة، فتنزيل الأيديولوجيا على أرض الواقع يتطلب وقتا واجتهادا يناسب متطلبات الواقع.

المصدر : الجزيرة