نجح ستة أسرى فلسطينيين في اختراق سجن جلبوع الذي يعتبر واحداً من أشد سجون الاحتلال الإسرائيلي تحصيناً وحراسة، واستردوا الحرية التي حجبتها عنهم سلطات احتلال عسكري واستيطاني وعنصري هو الأسوأ همجية على مدار التاريخ، وبعثوا إلى شعبهم برسالة بسيطة ولكنها عظيمة الأثر وعميقة المعنى بأن القيود آيلة إلى زوال طال الزمن أم قصر.
وقد يكون من الإنصاف استنتاج دلالة أولى خلف هذا الفعل البطولي مفادها أن الكيان، الذي ينتج ويصدّر أعقد أجهزة التنصت والاستخبار والتجسس إلى مختلف الأنظمة شرقاً وغرباً، فشل في التنبه إلى أمتار قليلة من نفق حُفر بأناة ودأب وذكاء ليعيد إلى الأسرى الحق في الحياة والانعتاق من أحكام المؤبد المضاعفة الجائرة. ولا تُساق هذه الحقيقة من باب المباهاة بما فعله الأسرى الستة، بقدر ما هي إقرار بسيط بأن هذا الاحتلال، وكل احتلال في الواقع، أكثر ضعفاً من تكبيل إرادة البقاء وتعطيل قوة الحق.
دلالة ثانية هي أن الأسرى الستة، في إطار تفانيهم لاسترداد الحرية والتخطيط للهدف وتنفيذه وحفر النفق بصرف النظر عن انتماءاتهم التنظيمية، عكسوا نزوعاً إلى الوحدة الفلسطينية يعطي درساً للساسة والمسؤولين الفلسطينيين خارج السجون، ممن فشلوا مراراً في التفاوض على قواعد الحد الأدنى للعمل الوطني الفلسطيني الموحد. وقد تكون المصادفة، أو غاية خبيثة لدى مصلحة السجون الإسرائيلية، شاءت أن يجتمع في الزنزانة الواحدة ذاتها قيادي سابق في «كتائب الأقصى» وحركة «فتح» مع أعضاء في حركة «الجهاد الإسلامي» ولكن النتيجة أسفرت عن تكاتف أبناء الوطن الواحد لصناعة القدوة الحسنة أمام التاريخ وعلى مرأى من شعبهم والعالم بأسره.
دلالة ثالثة هي أن السرديات المبهرة التي تتخذ عنوان «الهروب الكبير» وتروي نجاح أسرى او سجناء في اختراق حصار المعتقلات والسجون، اشتهرت في التاريخ الحديث ضمن التراث النازي خصوصاً، وها أن حكاية اختراق سجن جلبوع تضيف التراث الصهيوني إلى السجل، عن جدارة واستحقاق. وهي بذلك تذكّر العالم، أو من تنفعه الذكرى على الأقل، بوجود نحو 4850 أسيراً فلسطينياً في سجون الاحتلال، بينهم 41 امرأة وفتاة و225 طفلاً، فضلاً عن التذكير بـ 540 أسيراً تحت فئة تنفرد بها الفاشية الإسرائيلية وتسميها «المعتقل الإداري» أي السجين بلا تهمة ولا محاكمة.
ولعل الدلالة الأخيرة تخص هذا الكيان الذي يحلو لأنصاره وأصدقائه وحماته هنا وهناك في العالم أن يطلقوا عليه تسمية «الواحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط، ولكن بنظام قضائي يمكن أن يحكم على أسير فلسطيني بالسجن المؤبد مرتين + 15 أو + 35 سنة، بتهمة الانتماء إلى حركات تقاوم الاستيطان وهدم البيوت وتجريف الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون والتمييز العنصري وفرض الحصار على عشرات القرى والبلدات والمدن.
وليس غريباً أن يدب الذعر في مختلف مؤسسات الاحتلال السياسية والشرطية والعسكرية والأمنية في أعقاب اختراق سجن جلبوع، ليس بسبب من فضيحة اختراق واحد من أعتى السجون الإسرائيلية فقط، بل كذلك لأن الواقعة تشمل أيضاً افتضاح المزيد من أكاذيب الكيان عن ذاته وأضاليل أصدقائه عنه، ولأنها تعيد تعريف «الواحة» بأسمائها العنصرية الاستيطانية والاحتلالية الوحيدة الجديرة بها.
القدس العربي