تدشين الصين أمريكياً

تدشين الصين أمريكياً

index
يشهد التاريخ على زيارات قام بها زعماء استحقوا موقعاً في سجلاته تحت عنوان علامات فارقة. نعرف أن زيارة كليوباترا ملكة مصر إلى روما واحدة منها، ونتصور أن زيارة «تشي» الرئيس الصيني الأخيرة للولايات المتحدة والأمم المتحدة واحدة أخرى.

لا يهم عدد الاتفاقات التي عُقدت خلال هذه الزيارات، أو عدد اللقاءات، أو نوع الاستقبال حفاوة كان أم نفوراً، إنما يهم ما خلفته الزيارة من واقع جديد ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية، ولكن أيضاً في منظومة العلاقات الدولية.
تابعت الزيارة باهتمام القارئ المختص والمراقب المستمتع بعمق وجاذبية التطورات الجارية على قمة العالم، واستطعت أن أدون عدداً من الملاحظات.
بدأت التدوين مبكراً. بدأته خلال مراحل وضع الترتيبات النهائية للزيارة لدى الطرفين، الصيني والأمريكي، واستمر خلال الرحلة «الجانبية» التي قام بها الرئيس الصيني إلى ولاية واشنطن عند أقصى شمال غرب الولايات المتحدة، وخلال مراسم الاستقبال الرسمية في العاصمة الأمريكية، وتوقف التدوين مع نهاية رحلة جانبية أخرى بمغزى تاريخي إلى نيويورك حيث مقر الأمم المتحدة.
أمّا الملاحظات، وهي كثيرة وتفاصيلها كثيرة وممتعة، فأعرضها هنا في عجالات، كل عجالة منها تستحق أن تفرد نفسها على صفحات، وليس سطوراً، باعتبار أن كل واحدة منها تفسر الكثير من تطورات الماضي القريب أو تؤذن بما هو قادم، والقادم في اعتقادي كثير ومهم.
الملاحظة الأولى، لم يعد من قبيل الحلم أو الوهم الحديث الجاد عن أن «ثنائية» جديدة تزحف لتهيمن من جديد على نظرية العلاقات الدولية وفنون ممارسة السياسة على مستوى القيادة الدولية، لقد بذل الطرفان، الصيني والأمريكي، جهوداً هائلة على امتداد الثلاثين عاماً الماضية لتأجيل الوصول إلى هذه الحالة الصريحة، حالة المنافسة بين عملاقين، وأعتقد أن جهوداً لا تقل أهمية، لاتزال تُبذل على مستويات متعددة لمنع أن يتحول الحديث الأكاديمي والاستراتيجي عن هذه المنافسة وتوقعاتها إلى واقع نهائي ومحتوم، بمعنى آخر، وكما كتب تيم سومرز في ورقة من أوراق «شاثام هاوس»، هناك خشية كبرى من أن تتحول النبوءة إلى حقيقة، ونفاجأ ذات يوم بأن قيادة العالم، والعالم من تحتها، عاد ثنائي القطبية.
سمعت الرئيس تشي يقولها ويرددها خلال الزيارة، سمعته يقول إن الصين واعية لهذا الاحتمال، وهي حريصة على أن تظل المنافسة قائمة على قاعدة «الفوز للجميع»، بمعنى أن لا طرف يكسب والطرف الآخر يخسر.
أستطيع هنا، وإن من بعيد، أن أثق في صدق الجانب الصيني، وإن كان أحد لا يستطيع التيقن من قدرة الطرفين على احترام هذه القاعدة والالتزام بها.
مصدر ثقتي هو هذا العمل المتواصل والإبداع اللافت من جانب الطرفين، الأمريكي والصيني، لصنع علاقة من نوع خاص بين البلدين.
تخيلت المنشغلين بصنع هذه العلاقة أشبه ما يكونون بعمال مهرة مستخدمين أصابعهم الماهرة، وهم منكبون على نسج قماشة تفاصيلها عديدة ودقيقة وخيوطها حريرية قوية وطولها وعرضها بطول وعرض هذا الكوكب الذي نعيش فيه، وربما أطول وأعرض.
تكفي متابعة ما تفرزه مراكز البحث في كلتا الدولتين ودول أخرى، وما تسطره أقلام مئات المعلقين والمحللين في أنحاء العالم كافة، لنعرف المدى الذي وصلت إليه «الثنائية الاستراتيجية» في الهيمنة على الفكر السياسي، وبخاصة فكر العلاقات الدولية، أستثني، بطبيعة الحال، وللأسف الشديد الجماعات الدبلوماسية والسياسة الخارجية في مختلف أقطار العرب وفي صدارتها جماعة السياسة الخارجية المصرية بمكوناتها الأكاديمية والدبلوماسية وأجهزة صنع القرار.
الملاحظة الثانية، لايزال خارج الأوان معرفة الأسلوب الذي سوف تعتمد عليه الصين في ممارسة القيادة، وبخاصة ما يتعلق بتشكيل تحالفاتها الإقليمية والدولية، جربنا أسلوبين، الأسلوب الروسي الذي يعتمد على الهيمنة، سواء في أشكاله الإيديولوجية أو العسكرية أو باستخدام التدخل والقوة المباشرة، وجربنا الأسلوب الأمريكي المعتمد على الإقناع باستخدام المحفزات الناعمة كالضغوط السياسية والحصار بأنواعه والتجارة والاستثمارات بأنواعها، وكذلك بالهيمنة الإيديولوجية والتدخل المستتر وأحياناً المباشر.
لا أستطيع القول باليقين المعقول إن الصين قد اتخذت قرارها في هذا الشأن، إذ إن التطورات الإقليمية وبخاصة في منطقة بحر الصين الجنوبي وأنماط علاقاتها بدول الإقليم مثل فيتنام والفلبين وإندونيسيا، لا تكشف بوضوح عن أن الصين فضلت أسلوباً على آخر.
ما تطلبه الصين علانية، بعد أن كان خافتاً، هو اعتراف دول الإقليم بأن الصين تجاوزت التعامل انطلاقاً من وضعها كدولة إقليمية كبرى إلى وضع اللاعب الدولي الكبير الذي يستحق من اللاعبين الأصغر احتراماً أعظم، ويفرض عليهم الحذر الشديد في علاقاتهم بلاعبين دوليين آخرين من خارج الإقليم، ومع ذلك يمكننا، مستندين إلى تاريخ الصين حتى نهاية القرن الثامن عشر، استنتاج أن الصين سوف تسلك مع دول الإقليم سياسة تقوم على مزيج «الهيمنة الأخلاقية» والتبعية الاستراتيجية، وهو المزيج الذي قد تعجز عن استخدامه بالكفاءة اللازمة أو بالدرجة ذاتها في علاقاتها بإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
كتبت في هذا المكان قبل عام تقريباً عن استعدادات الصين لتدشين منظومة جديدة للسياسة الخارجية، الآن أصبحت واثقاً من أن الحزب والدولة في الصين قد توصلا إلى وضع «أوراق موقف» تجاه قضايا بعينها وبنية النظام الدولي وبنى إقليمية، قرأنا مثلاً ورقة، موقف عن الأمم المتحدة، وسمعنا عن ورقة تتعلق بإفريقيا وأخرى بأمريكا اللاتينية.
الورقة عن الأمم المتحدة تعلن بوضوح أن الصين تعتبر نفسها، وللمرة الأولى دولة عظمى مسؤولة، وهي تنوي أن تمارس مسؤولياتها الدولية بما يتناسب ومكانتها في العالم، تقول الصين إن أكثر من 600 ألف مواطن صيني يخدمون في الخارج في مؤسسات المعونة الصينية، هذا الرقم له مغزى لا يصح تجاهله والحديث عنه يطول، لكن أهميته هنا تأتي في إطار دور الصين في التنمية ومكافحة الفقر، الصين سوف تشارك بفاعلية أكثر في أعمال مجلس الأمن وفي جهود حفظ السلام، انتهى زمن الصين، كدولة كبيرة دائمة العضوية في مجلس الأمن، لكنها في نظر الآخرين «دولة كبيرة تتدرب» طول الوقت، هذه الدولة المتدربة لم تستخدم حق الفيتو سوى 9 مرات، ست منها فى عام 2000، بينما يسجل على المملكة المتحدة أنها استخدمت حق الفيتو 24 مرة والولايات المتحدة 78 مرة.
الصين تتعهد الآن أنها سوف تتعامل بإيجابية أكثر مع مسؤولياتها الإقليمية، قررت أن تقيم صندوقاً للتنمية بميزانية 2 مليار دولار، وتخصيص مليارات أخرى لقوات حفظ السلام، ومنح الاتحاد الإفريقي مبلغ 100 مليون دولار معونة عسكرية، وسيكون شغلها الشاغل في الأمم المتحدة، حسب وثائقها الجديدة، القضاء على الفقر.
ومع ذلك، وفي سعيها لتأكيد أملها في تأمين الاستقرار الدولي، وعدم تعريض المؤسسات الدولية لأخطار التقلبات السياسية، أعلنت الصين نية حكومتها المحافظة على بنية الأمم المتحدة، ونفت أن يكون بين خططها كدولة أعظم، خطة إقامة بنى أممية جديدة.
بكلمات أخرى سوف تفرض الصين رؤيتها لمستقبل الأمم المتحدة من خلال سلسلة ممارسات واتفاقات متدرجة، وأظن أن لديها في جعبتها الكثير من الأفكار، وبخاصة ما يتعلق بدورها كدولة عظمى بمهمة محددة، وهي مكافحة الفقر، ودليلها على صدق نواياها التأكيد المتكرر على أنها نجحت في إخراج أكثر من 439 مليون مواطن صيني من تحت حزام الفقر.
كثيرة هي الملاحظات على الزيارة التي دشنت مكانة الصين في النظام الدولي. أناقش عدداً آخر منها في مقال قادم أو في أكثر من مقال، يهمني بشكل خاص الإشارة هنا إلى بعضها، مثل الشرق الأوسط حيث لم يكشف النقاب خلال الزيارة أو بعدها عن وجود «ورقة موقف» عن الشرق الأوسط، كالأوراق عن إفريقيا وأمريكا اللاتينية والأمم المتحدة. أغلب الظن أنه لا توجد ورقة، وأن الشرق الأوسط مازال يحتل أدنى مرتبة في أولويات السياسة الخارجية الصينية.
ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في كتابات قادمة ما كشفت عنه الزيارة بخصوص الإجابة عن السؤال «من يحكم الصين؟»، أتصور أن الكثير منا يدرك الآن حجم الدور الذي يلعبه قطاع رجال الأعمال في التأثير على السياسة الخارجية للصين، وإن كنت أحرص على ألّا أتعجل بالحديث عن دور فاعل وعضوي في عملية صنع هذه السياسة.
هناك أيضاً الملاحظة المتعلقة بمشكلة الشباب في الصين. من المهم مناقشة هذه المشكلة في إطار العدد الهائل من الصينيين العاملين في قطاع المعونات للخارج، وفي إطار آخر أشد أهمية وهو الشيخوخة المبكرة التي أصابت الأمة الصينية، وبدأت تؤثر سلباً على برامج الصعود والقوة، بل وقد تكون وراء الرهانات الغربية على دور أكبر للهند في المستقبل، باعتبارها دولة شابة.
هذه وغيرها ملاحظات، وبعض مؤشراتها سبق أن أعلن عن نفسه قبل الزيارة التي قام بها الرئيس تشي إلى الولايات المتحدة، مازالت تحتاج إلى مناقشة مستفيضة تتيح الفرصة لقراء العربية للبدء في عملية تعارف صيني عربي أو شرق أوسطي، وهي العملية الغائبة تماماً في الوقت الحالي.

جميل مطر

صحيفة الشروق المصرية