يبدو أن تطبيع العلاقات التركية المصرية يسير وفق خطوات مدروسة، يتمّ فيها مناقشة الملفات المشتركة والخلافية بين البلدين كل على حدة، ويطاول مجمل القضايا على المستويين، الداخلي والخارجي، مع وجود رغبة لدى المسؤولين فيهما بالتقارب وإنهاء سنوات القطيعة بينهما، والتي انعكست في سيادة الأجواء الإيجابية في المحادثات الاستكشافية، التي بدأت جولتها الأولى في القاهرة في مايو/ أيار الماضي، وعقدت جولتها الثانية في أنقرة في 7 و 8 من سبتمبر/ أيلول الجاري، وتطوّر الحديث بعد انتهائها إلى إمكانية رفع مستوى العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، حسب ما ورد في تصريحات المسؤولين الأتراك والمصريين، إذ كشف وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، عن إمكانية عودة السفراء بين أنقرة والقاهرة في حال استمرار المحادثات بشكل إيجابي، وعن استمرار المفاوضات الجارية بين البلدين بشأن تحديد مناطق الصلاحية البحرية. أما وزير الخارجية المصري، سامح شكري، فقد اعتبر أن بلاده حريصة على “إيجاد صيغة لاستعادة العلاقات الطبيعية” مع تركيا.
حيثيات التطبيع
لا شك في وجود أسباب ودوافع عديدة للتعاون بين تركيا ومصر أكثر من أسباب التوتر والعداء بينهما، خصوصا بعد الإقرار بأن “تعاون الدولتين وتضامنهما أمر لا مفرّ منه، وعليهما أن يفعلا ذلك عاجلاً أم آجلاً”. وبالتالي، دفعت حيثيات وأسباب عديدة الساسة في كل من تركيا ومصر إلى اعتماد لغة تصالحية وسياسة انفتاحية، ليس فقط بين بلديهما، إنما مع سائر بلدان المنطقة، من أجل تطبيع العلاقات بينها، بناء على القواسم والمصالح المشتركة وتقوية العمل المشترك لضمان الاستقرار الإقليمي، عبر إصلاح العلاقات بين الدول المتنافسة إقليمياً، وبما يفضي إلى تخفيف التوترات والاستقطابات الإقليمية.
مستجدّات ومتغيرات سياسية عديدة دفعت تركيا ومصر باتجاه التقارب
ولعل مستجدات ومتغيرات سياسية عديدة دفعت كلا من تركيا ومصر في هذا الاتجاه، وخصوصا وصول إدارة ديمقراطية جديدة إلى البيت الأبيض في بداية عام 2021، لها توجّهات مختلفة عن سابقتها، فهي لا تشجّع على الاستقطابات في المنطقة، وتعمل على إنهاء وجودها العسكري فيها، وما يستتبعه من تخلٍّ عن حلفائها والمتعاونين معها، وبالتالي تنامى شعور لدى حلفاء الولايات المتحدة بفقدان الثقة وعدم التعويل على الدور الأميركي في المنطقة، كونها لم تعد تكترث برعاية التوازنات فيها أو حمايتها، ولا يهمها كثيراً أمن دولها واستقرارها. إضافة إلى أن جائحة فيروس كورونا التي أضرّت اقتصادات دول المنطقة والعالم جعلت الأنظمة السياسية الحاكمة تقرّ بضرورة التعاون لمواجهة تداعياتها وآثارها على اقتصادات دولها. ولذلك نما توجّه لدى ساسة دول المنطقة مبنيٌّ على ضرورة أن تبنى السياسية الخارجية لدولهم على أولوية الاقتصاد والمصالح الاقتصادية.
والواقع أنه على المستوى الإقليمي، لم تجن كل من تركيا ومصر أي مكاسب حقيقية جرّاء اصطفافهما في محاور وتكتلات مناهضة ومتناقضة لسياسات وتوجهات بعضهما بعضا، سواء في ليبيا أم في سورية أم في منطقة شرق المتوسط وسواها، الأمر الذي شكل عاملاً لإجراء تغيير في سياساتها الخارجية، والتخلّي عن المواقف المتخذة من كلا الطرفين في إطار صراع المحاور والتكتلات في المنطقة، والذي انقسم إلى محورين، جمع الأول كلا من تركيا وقطر وحلفائهما في الإقليم، فيما جمع المحور الثاني السعودية والإمارات ومصر والبحرين، إضافة إلى امتداداتٍ طاولت كلا من فرنسا واليونان وإيطاليا وقبرص اليونانية في منطقة البحر المتوسط. لذلك بدأت السياسات الإقليمية تميل، في المرحلة الراهنة، إلى المرونة وسلوك طريق الحوار حيال الملفات والقضايا الخلافية الشائكة، وهو أمرٌ يسهم في تجنّب المواجهات والسيناريوهات المكلفة. وبالتالي، سيفضي تطبيع العلاقات التركية المصرية على الأقل إلى التقارب والتفاهم، بدلاً من العداء والمواجهة، وقد لا يفضي إلى تطبيع شامل أو مصالحة كاملة بين ساسة الدولتين، لكن جلوس الطرفين إلى طاولة المحادثات الاستكشافية يزيد من آفاق التفاؤل بمستقبلٍ أفضل للعلاقات بينهما، والذي يُتوقع أن يبدأ بتبادل السفراء ثم التوقيع على اتفاقية بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهما في شرق المتوسط، وذلك تتويجاً للنهج الذي اتبعته كلا الدولتين، والقائم على إدارة ملفات العلاقات كل على حدة بينهما، لا سيما أن هذا النهج أضحى سائداً في إدارة ملفات السياسات العالمية بين دول عديدة.
تاريخية العلاقات
تاريخياً، اتسمت العلاقات بين تركيا ومصر بفترات من التعاون والتقارب، وأخرى من التوتر والعداء، وترجع بداياتها إلى عام 1935، وكانت على مستوى القائم بالأعمال، لترتفع بعدها إلى مستوى تبادل السفراء في عام 1948. ولعبت كل من تركيا ومصر دوراً مهما في تشكيل الخريطة السياسية في الشرق الأوسط منذ خمسينيات القرن الماضي. ولكن على الرغم من عدم امتلاك البلدين حدوداً مشتركة، وعدم تشكيلهما تهديداً مباشراً لبعضهما بعضا، اتصفت علاقاتهما السياسية بالتذبذب وبالمدّ والجذر، ثم تحولت إلى القطيعة والعداء، سيما في السنوات الأخيرة، نتيجة اختلاف سياسات البلدين وتوجهاتهما بشأن ملفاتٍ عديدةٍ مهمة في المنطقة.
تأمل الأوساط الاقتصادية التركية في أن يسهم تطبيع العلاقات بين البلدين في رفع مستوى التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية بينهما
ولعب اصطفاف كلا الدولتين إلى معسكرين متنافسين ومتصارعين إبّان حقبة الحرب الباردة دوراً سلبياً في علاقاتهما، وأثر ذلك على مختلف مستويات العلاقات بينهما، وعلى علاقاتهما الإقليمية كذلك، حيث انخرطت تركيا في الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وشاركت في تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فيما مالت مصر، خلال فترة حكم جمال عبد الناصر، نحو المعسكر الآخر الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي السابق، الأمر الذي أسفر عن انخراط البلدين في موقعين متصارعين على الخريطة السياسية في الشرق الأوسط منذ بداية خمسينيات القرن العشرين المنصرم، ثم جاء حلف بغداد الذي تأسّس عام 1955، ليشكّل نقطة تصادم مباشرة بين توجهات كلا البلدين السياسية، وإلى توتر العلاقات بينهما أفضى إلى سحب سفيري الدولتين. ولكن مع العدوان الثلاثي الذي شنّته كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر إبّان أزمة أو حرب السويس عام 1956، اتخذت تركيا موقفاً مقارباً للموقف الأميركي في ذلك الوقت، والذي صبّ في مصلحة مصر، الأمر الذي أسهم في استعادة أجواء الدفء في العلاقات بينهما. كما أن المواقف التركية المساندة معظم القضايا العربية في الصراع العربي الإسرائيلي، وخصوصا الموقف من قضية القدس، أسهمت كذلك في تعزيز العلاقات التركية العربية، على الرغم من اعتراف تركيا المبكر بإسرائيل.
وبرزت مكانة مصر وقوة علاقاتها مع تركيا خلال الدور الذي لعبه الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، في 1998، والذي نجح في تفادي وقوع حربٍ كانت على وشك الاندلاع بين تركيا وسورية على خلفية دعم نظام حافظ الأسد حزب العمال الكردستاني التركي، وذلك بعقد صفقة مع الساسة الأتراك تقضي برضوخ نظام الأسد لمطالبهم، وتخلّيه عن دعم حزب العمال مع إبعاد زعيمه عبد الله أوجلان من سورية.
تاريخياً، اتسمت العلاقات بين تركيا ومصر بفترات من التعاون، وأخرى من التوتر والعداء
ومع الثورات العربية في بداية العقد الثاني من قرننا الحالي، اتخذت تركيا موقفاً داعماً لها، وخصوصا في مصر، إذ شهدت العلاقات المصرية التركية نقلة نوعية مع انتخاب محمد مرسي في أول انتخاباتٍ ديمقراطية فيها، لكن مع إطاحة مرسي بانقلاب عسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، اتخذت الحكومة التركية موقفاً رافضاً للانقلاب، وللاعتراف به. وعلى إثره، بدأت العلاقات بين البلدين تشهد تراجعاً كبيراً وسريعاً، أفضى إلى توتّرها، وإلى قرار مصر خفض التمثيل الديبلوماسي مع تركيا في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013، واعتبار السفير التركي لديها “شخصاً غير مرغوب فيه”. بعدها سادت حقبةٌ من التوتر والقطعية بين البلدين.
وامتد التوتر والعداء في علاقات البلدين إلى مجمل الملفات والقضايا الإقليمية، حيث اتخذ ساسة البلدين مواقف وسياسات متباينة ومتعارضة إقليميا ودولياً، وانعكس ذلك في المواقف من الأزمات والحروب في سورية واليمن وليبيا ومنطقة شرق المتوسط وجنوب القوقاز وسواها.
الاقتصاد والتجارة
اللافت أنه على الرغم من توتر العلاقات بين تركيا ومصر، إلا أن علاقاتهما الاقتصادية والتجارية لم تنقطع، حيث واصل رجال الأعمال الأتراك والمصريون أعمالهم التجارية خلال السنوات السابقة، كما أن التبادل التجاري بين الدولتين لم ينقطع. ومصر تعتبر ثاني أكبر البلدان العربية المصدّرة إلى تركيا، وثالث أكبر البلدان العربية المستوردة منها، وبالتالي تحتل العلاقات التجارية مرتبة مميزة في علاقات الدولتين. ووفق بيانات معهد الإحصاء الوطني ووزارة التجارة التركيين، فإن قيمة الصادرات التركية إلى مصر بلغت 21.9 مليار دولار بين عامي 2014-2020، فيما بلغت الواردات التركية من مصر 12.1 مليارا في الفترة نفسها.
على الرغم من توتر العلاقات، إلا أن العلاقات الاقتصادية والتجارية لم تنقطع
وحسب بيانات هيئة الإحصاء التركية، فإن حجم التبادلات التجارية السنوي بين تركيا ومصر حقق رقماً قياسياً في عام 2018 بلغ 5.24 مليارات دولار، إذ بلغ حجم الصادرات التركية إلى مصر 3.05 مليارات دولار، والواردات التركية من مصر 2.19 مليار دولار، وارتفع في 2019، ليتجاوز ستة مليارات دولار. أما خلال عام 2020، فقد وصلت قيمة الواردات التركية من مصر إلى نحو مليار و722 مليون دولار، فيما قدّرت الصادرات التركية إلى مصر بحوالي ثلاثة مليارات و134 مليونا في العام نفسه، وفقاً لبيانات معهد الإحصاء الوطني في تركيا. أما خلال النصف الأول من عام 2021، فقد بلغت قيمة الصادرات التركية إلى مصر 2.08 مليار دولار، مقارنة مع 1.59 مليار دولار في عام 2020. وتأمل الشركات التركية في تنشيط السياحة بين البلدين وزيادة عدد الرحلات الجوية، وتطمح إلى أن يصل حجم استثماراتها في مصر إلى 15 مليار دولار، وإلى زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين ليصل إلى 20 ملياراً.
وتشمل صادرات تركيا إلى مصر منتجات ومواد كيميائية وبلاستيكية ومطاطية، إضافة إلى منتجات النسيج والملابس الجاهزة والمعادن والزيوت البترولية والآلات والمنتجات الزجاجية، ومواد غذائية ومنتجات زراعية. في المقابل، تستورد تركيا من مصر منتجات ومواد بترولية وبعض المعادن ومنتجاتها الصناعية، إضافة إلى المنسوجات والملابس والورق ومواد غذائية وزراعية وغيرها.
وتأمل الأوساط الاقتصادية التركية في أن يسهم تطبيع العلاقات بين البلدين في رفع مستوى التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية بينهما، وتطبيق مزيد من التسهيلات المشجّعة للاستثمار، والتخفيف من حدّة التوتر والتنافس حيال السلع والمنتجات التركية في مصر، وفتح آفاق وفرص جديدة من الاستثمار والتعاون والتبادل في قطاعات صناعية وتجارية عديدة. ولذلك يطمح البلدان إلى تفعيل اتفاقية التجارة الحرة وتطويرها، وهي التي دخلت حيز التنفيذ بينهما عام 2007، بغية إقامة منطقة للتجارة الحرّة بين البلدين خلال 12 عاماً، وذلك بالتنسيق مع الاتفاقيات الدولية والإقليمية لكلا الدولتين.
وفي المحصلة، تطبيع العلاقات التركية المصرية مرهونٌ بمصالح الدولتين، إذ على الرغم من توتّر العلاقات السياسية، إلا أن علاقاتهما الاقتصادية شهدت نمواً متزايداً، الأمر الذي يؤكد أنه في عالم البزنس والاقتصاد تكون الغلبة دوماً للمصالح المشتركة والمتبادلة للأنظمة والدول. ولا تبتعد عوالم السياسات بين الدول كثيراً عن عوالم الاقتصاد والمصالح، على الرغم من أنها ترتهن أحياناً بطبيعة ساسة الدول وخلفياتهم ومواقفهم. ومع ذلك، يمكن القول إن عوامل كثيرة تدفع في اتجاه تطبيع العلاقات التركية المصرية في المرحلة الراهنة بحكم مصالح كلا البلدين.
العربي الجديد