تشير نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية التي أجريت يوم الأحد الماضي إلى جملة عِبَر أساسية بالنسبة لأوضاع العراق كما بالنسبة لأوضاع المنطقة برمّتها.
العبرة الأولى هي أن الفائزة الكبرى والحقيقية في هذه الانتخابات هي المقاطعة، إذ تشير التقارير إلى أن نسبة المشاركة لم تبلغ سوى ما يناهز 41 بالمئة من الناخبين المسجلين حسب الأرقام الرسمية (والحال أن ثمة شكا بمصداقية هذه الأرقام وبتضخيمها لنسبة المشاركة الحقيقية) بما يؤكد ويعزّز منحى الانحدار الذي باتت تسلكه العملية الانتخابية في العراق في السنوات الأخيرة. فإن نسبة الاقتراع المستجدّة هي نصف تلك التي تحققت في أول انتخابات برلمانية استندت إلى الدستور العراقي الحالي، وقد جرت في نهاية عام 2005 وكانت نسبة المشاركة فيها قد بلغت حوالي 80 بالمئة. ثم بدأ الانحدار في الانتخابات التالية التي أجريت في عام 2010 حيث بلغت نسبة الاقتراع 62 بالمئة، بانخفاض بلغ الربع (قلّ عدد الناخبين في 2010 أربعة ملايين عما كان في نهاية 2005). بيد أن عدد المشاركين عاد فارتفع في انتخابات عام 2014 بمليونين، الأمر الذي أبقى نسبة الاقتراع على ما كانت عليه في الانتخابات السابقة بالرغم من ازدياد عدد المسجلين من جراء ازدياد عدد السكان الذين بلغوا سنّ الاقتراع. أما في الانتخابات اللاحقة في عام 2018، فقد انخفضت النسبة انخفاضاً حاداً إلى ما قلّ عن 45 بالمئة مع تراجع عدد الناخبين بما فاض عن المليونين. وقد امتنع عن التصويت في انتخابات يوم الأحد مليونان إضافيان بالمقارنة مع عدد الممتنعين في عام 2018، بما يتعلّق حتماً بما جرى بين الجولتين حيث هبّت في عام 2019 الانتفاضة الشعبية التي باتت تُعرف باسم «الانتفاضة التشرينية».
أما مغزى هذه الوقائع فجليّ: إن التذمّر الاجتماعي الذي وجد تعبيره في امتناع عام 2018 وانتفاضة عام 2019 لم تُسكنه قط التغييرات السياسية التي شهدها العراق منذ ذلك الحين، بل تعاظم، لاسيما في صفوف الشبيبة، بما أكّد صحة موقف القوى «التشرينية» التي دعت إلى المقاطعة تعبيراً عن رفضها لانتخابات تجري في ظروف بعيدة عن مستلزمات الديمقراطية الحقيقية، في ظلّ هيمنة قوى مدجّجة بالسلاح ومتخمة بالمال.
العبرة الثانية من الانتخابات العراقية هي أن الغالبية العظمى من الشعب العراقي ترفض وصاية إيران على بلادها.
إن التذمّر الاجتماعي الذي وجد تعبيره في امتناع عام 2018 وانتفاضة عام 2019 لم تُسكنه قط التغييرات السياسية التي شهدها العراق منذ ذلك الحين
فإن القوى الأكثر ارتهاناً بطهران، المنضوية تحت يافطة «تحالف الفتح» والمشارِكة في ائتلاف القوى العسكرية الموازية للقوات المسلحة الحكومية المعروف باسم «الحشد الشعبي» هذه القوى، ومنها «منظمة بدر» (جماعة العامري) و«عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«كتائب الإمام العلي» قد مُنيت بهزيمة مدوّية إذ خسرت غالبية المقاعد البرلمانية التي كانت قد حصلت عليها في عام 2018، منحدرة من 48 مقعداً (من أصل 329) إلى 14 فقط! وإذا صحّ أن كتلة «دولة القانون» (كتلة «حزب الدعوة») التي يتزعّمها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، صديق إيران الآخر وإن بدرجة أعلى من الاستقلال مقارنةً بـ«تحالف الفتح» إذا صحّ أن كتلة المالكي قد حصلت على 12 مقعداً إضافياً بما جعلها في المرتبة الثالثة مع 37 مقعداً، فإن المحصّلة العامة للقوى الطائفية المرتبطة بإيران محصّلة كارثية إلى حدّ أنها رأت أن تتصرّف على النحو الذي أشهره دونالد ترامب برفض اعترافها بنتائج الانتخابات بالرغم من إشرافها هي بالذات عليها في معظم المحافظات. فقد صدر بيان عن «الإطار التنسيقي» الذي يضم قوى «تحالف الفتح» و«دولة القانون» يعلن «طعننا بما أعلن من نتائج وعدم قبولنا بها» بما يُنذر بإحداث أزمة سياسية خطيرة في العراق.
العبرة الثالثة من انتخابات يوم الأحد الماضي هي تفوّق مقتدى الصدر على حلفاء إيران في الساحة الشيعية العراقية. فقد حصلت «الكتلة الصدرية» على 73 مقعداً بزيادة 19 مقعداً عما حصلت عليه قبل ثلاث سنوات بتحالف ضم الحزب الشيوعي الذي آثر المقاطعة هذه المرّة. وتجدر الإشارة إلى أن مقتدى الصدر كان قد أعلن نيته الدعوة إلى المقاطعة لوهلة أولى جرياً وراء الرأي العام الساخط، إلا أنه تراجع فقرّر المشاركة مُدركاً أنه سيحصل على زيادة في عدد مقاعد كتلته بما يعزّز تحكّمه بمفاتيح التشكيلة الحكومية القادمة. ومن كبرى المفارقات أن خصمي إيران، الإقليمي المتمثل بالمملكة السعودية والدولي المتمثّل بالولايات المتحدة، قد تنفسّا الصعداء للانتصار الساحق الذي أحرزه الصدريون على حلفاء إيران، لاسيما وأن مقتدى الصدر كان قد حرص على ترتيب علاقاته بالطرفين المذكورين في الآونة الأخيرة.
هذا ويخطئ من يرى في ما حصل في العراق مقدمة لما سيحصل في لبنان لو جرت فيه انتخابات في العام القادم. فإن التوازي بين البلدين المتمثل بطبيعة النظام السياسي القائم على ديمقراطية تشوّهها الطائفية كما يشوّهها المال والسلاح، وعلى أنهما كانا مسرحين لانتفاضة شعبية «تشرينية» في عام 2019، إن هذا التوازي لا ينطبق حتى الآن على رصيد حليف إيران بامتياز في لبنان الذي هو «حزب الله». ذلك أن العامل الإسرائيلي الغائب عن الساحة العراقية هو عامل أساسي في المعادلة اللبنانية وقد شكّل مصدر قوة «حزب الله» الشعبية التي لا تزال كبيرة، حتى لو تراجعت في السنوات الأخيرة، لاسيما منذ انتفاضة عام 2019. ويُضاف إلى ذلك أن «حزب الله» اللبناني يتصرّف بذكاء مقارنة بحلفاء طهران العراقيين وأن الساحة اللبنانية خالية من منافس شيعي للحزب قادر على ممارسة السياسة الشعبوية التي يمارسها الصدريون العراقيون.
جلبير الأشقر
القدس العربي