ما كان ينقص السجال الدائر حول “تنافس القوى العظمى المعاصرة” أخيراً في الرياض، إلا أن تحضر الصين المواجهة فتدلي هي الأخرى برؤيتها نحو الخطر الذي يعتقد الأميركيون أنها تمثله.
إلا أن حضور المناسبة التي نظمها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، حاصروا البروفيسور ديفيد ديروش من جامعة الدفاع الوطني في واشنطن، حول العديد من التبريرات التي ساقها في سبيل مواجهة بلاده بكين.
وهذا ما دفعه إلى الرد على أحد الأسئلة بغضب مغلف بالاستراتيجية، حين قال “لماذا على الأميركيين أن يحموا نفط الخليج الموجه إلى الصين؟ هذا سؤال منطقي يمكن للأميركيين أن يطرحوه”. وذلك لأن عسكرياً متقاعداً بين رواد الأمسية سأل عما يمكن أن يفسر به الضيف تخلي أميركا عن حلفائها في وقت تريد فيه مواجهة غريمتها الصين.
وهذا ما استفاض الباحث في الإجابة عنه بأن “التزامنا تجاه السعودية والخليج وتكامله ما زال متفقاً عليه ومستمراً، نحن الدولة الوحيدة القادرة على حشد لواء في أي مكان في العالم خلال 24 ساعة. أما مسألة سحب القوات فهو أمر هامشي ولا يؤثر في ذلك الالتزام”.
دروس أميركا مزعجة ولكن
ولفت إلى أنه كباحث أميركي يعرف أن الخليجيين تزعجهم محاضرات الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تلقيها أميركا دوماً وكذلك الفرنسيون في مسائل مثل القيود على الحجاب، إلا أن المحاضر اعتبر ذلك جزءاً من الشخصية الأميركية التي على أصدقائها أن يستوعبوها، حتى وإن كان البعض يقول “من أنتم كي تلقوا علينا الدروس وتذكرونا بالقيم”؟ في إشارة إلى انتقاد كثيرين ازدواجية واشنطن بين المُثل التي تدعو إليها وتصرفاتها المناقضة لتلك الدعوات.
أما لماذا تشكل الصين في اعتقاد الغرب خطراً؟ فهذا لأنها كما يرى الباحث تقوم على نظام استبدادي لا يمكن التعاطي معه على أسس السوق الحرة، يطوق العالم بأساليب شتى يتحاشى فيها إطلاق النار.
ولفت إلى مفردات توضح ذلك، على سبيل المقارنة بين واشنطن وبكين، مثل أن “التلفاز الأميركي تديره السوق والتلفاز الصيني تديره الدولة، والصين تنشر الإشاعات في العالم العربي وباللغة العربية بأن الجيش الأميركي هو سبب انتشار فيروس كورونا وهذا لا يمكن تصديقه”، على حد قوله، الذي يمكن أن ترد عليه بكين بأن السياسيين في البيت الأبيض اتهموها أيضاً بخلق الفيروس.
Contemporary Great Power Competition https://t.co/E2v27SJRWK
وفي جانب الترسانة العسكرية يسجل أن “الصين تُحدث الجيش، ومن أمثلة ذلك تطويرهم الغواصات ووسائل الدفاع الأخرى، مثل صواريخ كروز وغيرها… في مقابل ذلك لا يوجد أي تعزيز غربي يمكن أن يوقف الصين وطموحها في تايوان”، يفسر ذلك في نظره ويبرر المخاوف الغربية، إذ “توجد سبع قواعد أميركية يمكن أن تصلها الصواريخ الصينية بعد تطويرها، وهكذا من غير المقبول أن يكون لدى الصين عدد كبير من الصواريخ مقابل ما لدى الغرب”.
فخ الديون الصينية
ويرى البروفيسور الأميركي أن الغرب ينظر إلى سلوك الصين على اعتباره تهديداً ومقدمات تدفع نحو الحرب، بينما ترى الصين أنها “دولة ثورية” تحدث قوتها من ذلك المنطلق وليست لديها رغبة في تهديد أي أنظمة، إلا أن تصريحات بكين الأخيرة نحو جزيرة تايوان، يرى الباحث وغيره أنها تعطي إشارة بأن خطوات بكين نحو مزيد من الهيمنة أصبحت متسارعة.
ولفت إلى أن القوى الغربية وعلى رأسها أميركا تلاحظ أن استراتيجية الصين في إدارة الصراع هي شن “حرب (غير مباشرة) لا تدمر القدرات ولكن تدمر القوة التي تولد تلك القدرات”. لكن مع ذلك اعتبر أن صعود الصين كقوة اقتصادية يشهد تراجعاً، خصوصاً بعد أزمة كورونا والخلل في سلاسل الإمداد، فالشركات الكبرى “بدأت تقل في الصين بسبب اهتمام الدولة باحتكار كل شيء، بخلاف الدول الغربية فهي تدعم السوق الحرة ولا تتدخل الدول في الاقتصاد”.
وفي هذا السياق نبه إلى أن مبادرة “الحزام والطريق” التي انتشت الصين في الترويج لها دولياً خصوصاً عبر آسيا، هي في بعض أجزائها “فخ” للدول الأقل نمواً، إذ يتم توريطها في ديون هائلة وعندما يحين موعد سدادها تضطر إلى منح الصين امتيازات أكبر ونسب ملكية أعلى في مشاريع مثل المواني وغيرها.
عليكم تذكر “اليابان”
وحول القول بأن الصين في صعود وأميركا في هبوط، أقر الأكاديمي الأميركي بوجود أخطاء كثيرة في الولايات المتحدة، يجري انتقادها وتصحيحها “وهذا صحي في بيئة منفتحة وحرة”، إلا أنه لم يستبعد أن تؤدي حدة التنافس بين الدولتين إلى حرب “وأن المجال لا يزال متاحاً للتنافس، وتجنب الأسوأ، وعلى هذا الاعتبار يمكن للغرب والصين أن يتنافسا وفق قواعد معينة من دون الحاجة إلى الانزلاق في حرب باردة جديدة”. أما سوى ذلك مثل “احتواء الصين وفتح مجال الهيمنة أمامها فهو شيء مرفوض”.
أما من يراهن على أن أميركا ستخسر حربها التنافسية الراهنة مع الصين، وأنها ربما ستدفع إلى حرب مدمرة، يتحاشى ديروش أن يعطي توقعاً محدداً بما ستفضي إليه إدارة الصراع الراهنة بين بلاده وبكين، وما إن كانت ستؤدي في نهاية المطاف إلى حرب عسكرية عالمية ثالثة مدمرة.
اقرأ المزيد
كيف تحولت الصين إلى دولة تجسس؟
الرئيس الصيني يتعهد بـ”إعادة توحيد” تايوان بشكل سلمي
نهاية نهوض الصين
أميركا والشرق الأوسط وثلاثة عوامل ضد الانسحاب
لكن مع ذلك أعطى تلميحات، قلل فيها من إمكان تفوق الصين حتى مع افتراض أسوأ الاحتمالات، “ما زلنا متفوقين، فأكبر شركتين للطائرات (بوينغ وأيرباص) في العالم لدينا. علينا أن نفعل ما نستطيع، فقبل حرب اليابان كنا نتصور أن نكون أقل منهم ونعمل لديهم، ولكن ما حدث كان غير ذلك”، حتى وإن كان ثمن ذلك كان باهظاً كما يمكن لأي قارئ أن يخمن!
ولدى الاتصال بمكتب السفير الصيني في الرياض، للرد على التهم التي ساقها الضيف الأميركي، لم تتلق “اندبندنت عربية” الرد حتى الآن، ويمكن إضافته فور وروده من السفير أو أي مصدر صيني يرغب في ذلك.
هل يستعد العرب؟
وينظر الباحثون الاستراتيجيون إلى الأخطار الناجمة عن التنافس بين القوتين الكبيرتين، خصوصاً في المنطقة العربية الواقعة وسط نفوذ الدولتين على محمل الجد، لا سيما أن الشرق الأوسط جرب استقطابات الشرق والغرب فترة الحرب الباردة وما قبلها.
وفي هذا الصدد يرجح الأمير تركي الفيصل أن عودة الصراع بنمطه السابق غير مرجحة، إلا أنه يرى حذر الدول العربية من التحولات المقبلة ينبغي أن يترجم إلى برامج عملية في سياق جماعي عبر الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، ولا يتوقف على المراقبة فقط.
ومع أن الضيف الأميركي قلل من أهمية ما يتردد حول انسحاب واشنطن من أفغانستان والخليج، إلا أن السياسي الإماراتي، أنور قرقاش، أعرب أخيراً عن قلق خليجي إزاء الفراغ الذي أحدثته الخطوات الأميركية. وقال “سنرى في الفترة المقبلة حقيقة ما سيحدث فيما يتعلق بالوجود الأميركي في المنطقة. لا أعتقد أننا نعرف بعد، لكن أفغانستان كانت اختباراً بالتأكيد، وصراحة كان اختباراً مقلقاً للغاية”. وأضاف في مؤتمر السياسة العالمية أن “جزءاً مما يتعين علينا القيام به هو إدارة منطقتنا بشكل أفضل. هناك فراغ وكلما كان هناك فراغ ظهرت مشكلات”.
على نقيض الخوف من الصعود الصيني يرى باحثان أميركيان، هما مايكل بيكلي وهال براندز، أن القوة الصينية في ذروتها، وأنها ستعود القهقرى وفقاً لمؤشرات موثقة، خلافاً لما هو سائد حالياً في دوائر صنع القرار، حسب رؤيتهما المنشورة في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية.
نهاية نهوض الصين
لكن التحدي هو حدوث ذلك التراجع من دون أن يؤدي إلى صدام عسكري معها، كما حدث مع اليابان في القرن الماضي. ولاحظا أن القوى الكبيرة “تصبح أكثر خطورة حينما تبدأ في ملاحظة أن الفجوة بين طموحاتها وقدراتها لا يمكن السيطرة عليها. وحينما يبدأ إغلاق النافذة الاستراتيجية في وجه قوة مستاءة، قد يبدو الاندفاع نحو نصر ضئيل الاحتمال أفضل من الانحدار المهين. وحينما يشعر القادة الاستبداديون بالقلق من أن التدهور الجيوسياسي سيدمر شرعيتهم السياسية، غالباً ما يتبع ذلك اليأس”.
ومن بين الأمثلة التي ذكراها ألمانيا التي شنت الحرب العالمية الأولى كي تمنع الوفاق البريطاني – الروسي – الفرنسي من تحطيم طموحاتها في الهيمنة. وبدأت اليابان الحرب العالمية الثانية في آسيا بهدف ردع الولايات المتحدة عن خنق إمبراطوريتها.
وحاضراً، يرى الباحثان في مقالهما “نهاية نهوض الصين” أن هناك تساؤلات تقلق أجوبتها الصين، مثل تباطؤ في النمو؟ نعم. تطويق استراتيجي؟ نعم. نظام استبدادي وحشي مع مصادر قليلة للشرعية الأساسية؟ نعم. أهداف شخصية تاريخية وطموحات انتقامية؟ نعم، نعم. في الواقع، بدأت الصين تنخرط في الممارسات المتوقع تطبيقها من بلد في موقعها، على غرار التعزيز العسكري الذي لا هوادة فيه، والبحث عن مناطق النفوذ في آسيا وخارجها، والجهود المبذولة للسيطرة على التقنيات والموارد الحيوية. إذا وجدت صيغة للعدوان تعتمدها قوة عظمى، فإن الصين تستعرض العناصر الأساسية فيها.
وخلصا إلى اعتقاد بين المراقبين ملخصه أن “الصين تستغل موقعها ونفوذها اليوم لأنها واثقة جداً من صعودها المستمر. يبدو أن الرئيس شي يعتقد بالتأكيد أن كورونا وعدم الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة قد خلقا إمكانات جديدة للتقدم”.
بينما في المقابل، “يتمثل الاحتمال الأكبر، والأكثر ترويعاً، في أن يكون قادة الصين مصممين على التحرك بسرعة لأن الوقت ينفد أمامهم. ماذا يحدث عندما تستنتج دولة تريد إعادة تنظيم العالم أنها قد لا تكون قادرة على فعل بذلك بشكل سلمي؟ يشير التاريخ والسلوك الصيني الحالي إلى أن الإجابة تمثل في أنها لن تفعل شيئاً جيداً”.
اندبندت عربي