لا شك أننا نقف أمام لحظة حاسمة في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. فالحرب الأهلية في أوكرانيا تستقر على حالة من الجمود المؤذي للطرفين؛ وتم التوصل إلى اتفاق نووي عملي وقابل للتطبيق مع إيران؛ وفي الآونة الأخيرة، صعدت روسيا تواجدها العسكري في سورية، مما يزيد من مخاطر حدوث مواجهة مع الولايات المتحدة، لكنه يفتح الإمكانية أيضاً للتعاون ضد مجموعة “الدولة الإسلامية”. وقبل أن تأتي إدارة أميركية أكثر صقرية وتشدداً إلى السلطة -وقبل أن تصبح نزعة العداء لأميركا أكثر رسوخاً في روسيا، كما تدل على ذلك آخر بيانات الاستطلاعات العامة التي أجراها مركز ليفادا- ربما تكون هناك فرصة ما تزال سانحة لتغلب واشنطن وموسكو على مأزقهما الراهن.
هذا هو أملنا. ولكن النظرية والبرهان يشيران إلى استنتاج واقعي مختلف: إن أياً من الجانبين لا يستطيع أن يقدم التنازلات الضرورية لحل خلافاتهما الحالية، ومنع العلاقات من الذهاب إلى مزيد من التدهور.
قلق الالتزام
ثمة مكمن قلق كبير لدى الداعين إلى فكرة التفاوض بين الولايات المتحدة وروسيا، هو أنه في حين تكتنف العلاقة الحالية بينهما مجموعة من الخلافات الخطيرة، فإن التداعيات السلبية لعلاقة عدائية معلنة ستكون أسوأ بكثير مما هو قائم حالياً. وتقول هذه الأصوات إنه من دون إطار عمل أمني أوروبي محدَّث لحل بعض من أسوأ التوترات (وضمنياً، تحديث تسوية ما بعد الحرب الباردة)، فإن حرباً باردة جديدة ستظهر بين المعسكرين.
لن تكون المنافسة الجديدة شاملة كما كانت من قبل، لكنها ستجعل من أمر التعاون حول القضايا الحاسمة خارج أوروبا -بما فيها إيران، و”داعش” وسورية- غير قابل للديمومة، وسوف تفضي إلى نظام عالمي يكون أقل استقراراً بطبيعته. وفي المقابل، يدعو هؤلاء إلى وضع إطار عمل إقليمي مقبول للطرفين، بغية تجنب نجوم المزيد من الصراعات في مناطق أخرى في الفضاء ما بعد السوفياتي.
لا شك أن التوصل إلى “صفقة كبرى” تنظم هيكل العلاقات الدولية والإقليمية، والتي تكون قائمة على التنازلات المتبادلة، هو هدف نبيل. ومع ذلك، ثمة شكوك أصيلة لدينا في إمكانية التوصل إلى مثل هذه الصفقة الكبرى، لأنها ستعاني من مشكلات حادة تخص مسألة الالتزام. سوف يكون على روسيا إقناع الولايات المتحدة وحلفائها بأنها لن تدفع في اتجاه المزيد من المراجعات بهدف تغيير الوضع الراهن، في حين سيكون على الولايات المتحدة أن تثبت لروسيا أنها ستلتزم بأي صفقة يتم إبرامها، ولن تعود إلى انتهاج سياسات تهددها.
تنازلات مستحيلة
من بين شروط نظرية المساومة، ثمة فكرة إمكانية تغلب الدول على مشكلة الالتزام عن طريق القبول بتقديم تنازلات مكلفة، والتي تدلل بها على عزمها الالتزام بالاتفاقيات. ولكن، أي تنازلات افتراضية يمكن أن يقدمها الطرفان لجعل الصفقة الكبرى المقترحة قابلة للصمود؟
يمكن أن تكفر روسيا عن أفعالها في القرم -والتي ترى فيها واشنطن وعواصم أوروبية أخرى انتهاكاً جسيماً للقانون والنظام العالميين- عن طريق: إما التراجع عن الضم، أو استخدام الحوافز الاقتصادية وغيرها لجعل كييف تعترف بالوضع الراهن الجديد. وفي المقابل، يمكن أن تخفف الولايات المتحدة المخاوف الروسية من تطويق حلف شمال الأطلسي لها: إما بالموافقة على تشكيل منظمة أمن أوروبية جامعة، والتي تتمتع بسلطة أعلى من الناتو (كما اقترح ديمتري ميدفيديف خلال فترة رئاسته)؛ أو أنها تستطيع أن تلغي رسمياً حق الناتو في توسيع عضويته، وأن تعترف بتحييد دول ما بعد الاتحاد السوفياتي على حدود روسيا الغربية.
في حين تستطيع هذه التنازلات جعل احتمال إبرام صفقة قابلاً للتصور، فإننا نعتقد أن الكلف السياسية المحلية لمحاولة تنفيذ مثل هذه الاتفاقيات ستكون عالية جداً بالنسبة لقادة كلا الجانبين. لن يكون مطلب إعادة القرم إلى أوكرانيا (كما طالبت العديد من الأصوات الغربية) نقطة بداية معقولة بالنسبة لروسيا؛ فقد استثمر الكرملين الكثير في خطاب “استعادة القرم”، حتى أن مجرد التنازلات الصغيرة في هذا الموضوع يمكن أن تهز شرعية النظام من أسسه (بل إنها ربما تهدد بقيام ثورة قومية).
كما أن البديل -الذي يتضمن اعتراف أوكرانيا بخسران القرم كأمر واقع- يظل إشكالياً في حد ذاته أيضاً، وينطوي على احتمال استدراج رد فعل عكسي محلي حاد، والذي سيكون من شبه المؤكد أن يُسقط أي حكومة تبرم الصفقة في كييف. وبالإضافة إلى ذلك، وبالنظر إلى الصعوبات الاقتصادية الحالية، فإن موسكو ربما لا تكون قادرة على تقديم الحوافز الاقتصادية الضرورية لضمان امتثال كييف.
وعلى الجانب الآخر، سوف يقابَل أعضاء التحالف الغربي أي تنازل يمكن أن يعطي روسيا حق نقض بحكم الأمر الواقع على سياسات الناتو، بالرفض المباشر. كما أن الخيار الأكثر اعتدالاً، والمتمثل في وقف توسيع الناتو والاعتراف بمنطقة للنفوذ الروسي في الفضاء ما بعد السوفياتي، ليس مقبولاً لدى الزعماء الأميركيين والجماهير على حد سواء، لأنه سيضفي الصلاحية على مفهوم “السياسة الواقعية” في العلاقات الدولية، والذي يتناقض بشكل أساسي مع نظرتهم إلى العلاقات الدولية -التي ينبغي أن تكون تترك لكل دولة الحرية في اختيار تحالفاتها.
اتجاه انحداري؟
كما تبدو الأمور الآن، لا يستطيع أي من الجانبين تقديم التنازلات الضرورية لجعل صفقة كبرى تعمل. ونتيجة لذلك، يجد الطرفان نفسيهما الآن وهما ينزلقان في اتجاه حرب باردة جديدة لا يريدها أي منهما حقاً.
إننا نأمل أن يثبت رجال الدولة في كلا الجانبين أننا مخطئون، وأن يجدوا الشجاعة والبصيرة اللازمتين للتغلب على المشكلات المتعلقة بالالتزام. لكن من الصعب أن نكون متفائلين أيضاً، بالنظر إلى المناخ السياسي الراهن، حيث يهيمن على الحديث في كلتا العاصمتين نوع من التقريع المتبادل، والذي يمنع أياً من الطرفين من تطوير تقدير واقعي ومنصف للمخاوف الأمنية للطرف الآخر.
أندريه كريكوفيتش، ويوفال ويبر
ترجمة: علاء الدين أبو زينة